هامش ثقافي

أيها المثقف.. أيةُ حريّةٍ هي هذه؟!

بقلم غسان عبد الله

موضوع النقاش السجالي الذي يتموضع تحت يافطة – حريَّةِ الرأي الآخر- يستحقُّ المزيدَ من الدراسةِ والبحثِ المتعمِّقِ وما نريدُ التوقُّف عنده هنا هو أسلوبُ بعضِ المثقفينَ والباحثينَ في تناولهم لهذا الموضوع. هذا الأسلوب – ونقولُها بكلِّ أسف – قد أخرجَ المسألة من دائرةِ الحوارِ العلميِّ والمعرفيِّ والثقافيِّ وأدخله في مسار الاتهام والتخويف والسبِّ والشتائم.‏

فالمنتديات الثقافية والبرامج الحوارية والبوستات على مواقع الانترنت (بغض النظر عن تآلف البعض أو عدم تآلفه مع هذه الظاهرة في مجتمعنا) والتي قد تتراصف آراؤها أو تتباعد، تسيرُ متوازية مع بعضها أو تختلفُ وتتقاطع رؤاها حول قضايا معينة، تعبِّر بمجملها عن توجُّه جديدٍ يُترجِم رغبةَ المواطن في أن يقرِّر بنفسه ودون وكالةٍ من أحدٍ أو وصايةٍ في أن يفكِّر بحريةٍ ويتنفس بحرية، ويصوغَ مجموعةً من المعتقداتِ والتّوجهات والآراء التي يتصوّر أنها صحيحة ويطرحُها للنقاشِ مع صديق أو مجموعة أصدقاء في منزل، في مقهى، في نادٍ، أو على صفحاتِ جريدةٍ أو مجلةٍ أو على صفحات مواقع الإنترنت.‏ إنها ظاهرة صحيةٌ تأتي استجابة لمناخٍ جديد سادَ في الفترةِ الأخيرة وأعطى إشارة للمواطنِ بأنه يحترم الرأي الآخر.‏ وقد شكّل كلُّ مواطنٍ قناعةً تامةً بأنه هو المقصود بـ “الآخر” الذي يمتلك حقاً مشروعاً في كلِّ قناعاته الفكرية والثقافية والسياسية.‏

البعضُ – وخصوصاً في وسائل الإعلام اللبنانية – ممن تعوّد على سيادةِ الرأي الواحدِ وانفرادِهِ بالتفكيرِ عن الآخرين لم تُعجِبْهُ هذه الظاهرة الجديدة، فاعتبر حريّة النقاشِ استعراضاً لعضلاتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ معينةٍ أو نوعاً من التزاحُمِ من أجلِ الوقوفِ في الواجهة، آخرون اتّبعوا الشتيمة والاتهام الظالم لمن هم في الخطِّ المقابل وقرّروا أنهم أصحابُ السيادةِ والمنطق (بالسبِّ ولاتهام من دون أي دليل). وانهالوا على الذين يدافعون عن الوطن ويقاومون المحتلَّ ويشكِّلون محور الممانعة للتطبيع مع العدوِّ والارتهان للخارج بالتخوين والسباب والاتهام بالتَّبعية “عمالة” لإيران أو أنهم ينفذون أجندةً إيرانيةً فارسيةً ضدَّ العرب والعروبة. وطالبوا حتى بإبادة المغايرين لنهجهم تماماً كتوصيف اليهود لغيرهم من الإثنيات والقوميات والبشر بأنهم “أغيارٌ ينبغي إبادتهم”. وهذا أمر يدعو للأسفِ الشديد لأنّه يخلق انطباعاً بأنه لم تتهيّأ بعد في مجتمعنا التربةُ الصالحةُ للنقاشِ الموضوعي لأن هناكَ رؤوساً حاميةً تعتبرُ نفسها صاحبةَ سيادةٍ وقرار حر بينما هي في واقع الأمر تنفِّذُ أجندةً أمريكية صهيونية مهما ادَّعتِ الحرص على السيادة.‏ هؤلاءِ ليسوا أصحابَ رأيٍ حرٍّ.. ولكنَّهم أدواتٌ تحرِّكُّهم أيدي الغرب المتغطرس الذي حاصرَ وحارَبَ الشعوبَ كلَّها تحت شعار حريّة الرأي!!. أيّةُ حريّةٍ هي هذه؟!.. هل هي حريَّةَ أن تتهم بلا دليل وتسبّ وتشتُم الآخر.. فما يكاد الآخر يبدي رأيَهُ بأن اللغةَ المعتمدةَ ليست حريَّةً بل هي أي شيءٍ سوى الحريةِ وأن هناكَ ميثاقاً إعلامياً ينبغي العمل به بنزاهةٍ وموضوعية بعيداً عن المهاترات والشتم والسباب. حتى تتعالى أصواتُ المصادَرةِ والإلغاءِ والاتهامِ بكمِّ الأفواهِ، ويتمترسُ البعضُ بخندقٍ حصينٍ ويطلقون قذائف الاتهاماتِ على الآخرين الذين لا خندقَ عندهم سوى بوجه العدوِّ الغاصب!!.‏

إن لغةَ الحوار الموضوعي هي عرضٌ متبادلٌ لوجهاتِ نظرٍ بين أكثر من فريق وليست إملاءً لرأيٍ – مسنود – على رأيٍ غير مسنودٍ كما أن الطّرح الفكريَّ الصحيحَ لوجهاتِ النَّظرِ يقتضي من الجميعِ بَذْلَ مجهودٍ فكريٍّ باتجاهِ خلْقِ إبداعٍ نظريٍّ ذي بُنْيةٍ أصيلةٍ بعيدة عن الخطاب الشعاراتي الذي تخطّاه الزمنُ وقريبةٍ من خطابٍ يتوجَّهُ نحو تفعيلِ دورِ الأفرادِ والتجمُّعاتِ من خلالِ طروحاتهم المتنوِّعةِ لوجهاتِ نظرٍ وآراءٍ قيد التداولِ حتى يخرجَ الجميعُ وعبرَ التفاعلِ الفكريِّ الموضوعيّ بمشروعٍ مشتركٍ من أجل النهوضِ بمجتمعنا من حالةِ الجمودِ إلى حالة الحيويةِ والتحرُّك باتجاه الأرقى والأفضل.‏

لقد بدأتْ مسألةُ تعدديةِ الرأي تطرحُ نفسَها كإحدى القضايا المُلِحّةِ والمركزيةِ في المناخ ِالسياسيِّ العربي الراهن خصوصاً بعد أن تجلّى وبشكلٍ غيرِ قابلٍ للإخفاءِ أو التّمويهِ إفلاسُ طريقةِ السيطرةِ المطلقةِ للرأيِّ الواحدِ في معظمِ الأقطارِ العربيةِ الأمر الذي أوصلَ إلى أداءٍ تنفيذيٍّ عقيمٍ على مختلفِ الأصعدةِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ.‏

إن نشوء وتبلورَ المجتمعِ السليم المعافى لا يعتمدُ على الأمنياتِ أو النوايا أو الدعواتِ من هذا المنبرِ أو ذاكَ بقدرِ ما يعتمدُ على التطوّرِ التاريخيِّ المستندِ على بنيةٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ ومعرفيةٍ تكون الحريةُ في التعبيرِ الموضوعيّ (وليس السباب) ركيزتها الأولى.‏

إن التباين في طروحاتِ المثقفينَ والباحثينَ تُجاه أيةِ مسألةٍ أمرٌ طبيعيٌّ ومشروعٌ فليس للمثقفينَ مرجعياتٌ واحدةٌ ولا مناهجُ متشابهةٌ حتى ننتظرَ منهم منهجاً متشابهاً لقراءتهم الواقع ولا تحليلاً متماثلاً للقضايا الساخنة. لكن ما هو غير طبيعي هو ادّعاء البعض كليّة المعرفةِ ومصادرتهم رأيَ الآخرين، وهذا يرجعُ بتقديري إلى أن البعضَ ممن تعوّدوا ولسنواتٍ طويلةٍ على مناخٍ سادَ فيه الرّأيُ الواحدُ قد صعّبَ عليهم الآنَ سماعَ أو تقبُّلَ الرأي الآخر أو محاورته – ديمقراطياً!! – وإذا اضطره الظرف إلى حواره، فإن هذا الحوارَ يتّسمُ بأسلوبِ – الاستعلاءِ أو الإلغاءِ أو القمعِ – وهذا يتناقضُ مع ما يفترضُ أن يمثِّلهُ المثقفُ أو يكونَهُ، أي صاحبَ فكرٍ ورؤيا ومشروعٍ يضعها كلُّها في خدمة المجتمع.‏

إذن لكلِّ مشروع وحتى نخلِّصه من طابعهِ المثالي كأمنيةٍ أو كحلمٍ علينا وضعُهُ ضمنَ سياقِهِ المنطقي والعقلاني وفي إطاره العلميِّ الصحيح كحقيقةٍ تعبِّرُ عن رغباتٍ مشروعةٍ قابلةٍ للتطبيق. وليس عن رغباتٍ بإبادةِ فريقٍ له رؤيتُهُ الاستراتيجيةُ‏ في صون وطَنِهِ والدِّفاعِ عن مقدَّساتِهِ بسلاحٍ مشروعٍ في كلِّ القواميس مقابل العدوِّ فقط!!. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *