إعرف عدوك

الجرف الصلب.. الدروس التي لم نتعلمها عن موضوع إنهاء الحروب

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

من الشائع في الجيش الإسرائيلي أن نرى عملية الجرف الصلب، نتيجة سوء تقدير أدى إلى عملية أخرى في سلسلة العمليات في غزة.

 يقدم المقال تفسيراً مختلفاً لتصرفات حماس، ويعرض في ضوء جديد السلوك الإسرائيلي في الجرف الصلب، ويتساءل عما يمكن تعلمه، ولو بتأخير كبير، عن وضعنا اليوم. جاءت عملية الجرف الصلب نتيجة مأزق استراتيجي لحركة حماس دفعها إلى شن حرب استباقية ضد إسرائيل بهدف رفع الحصار والعزلة التي وجدت المنظمة نفسها فيها بعد سقوط مرسي، وتداعيات الحرب الأهلية في سوريا. ولم يفهم صناع القرار في إسرائيل أن حماس ستذهب إلى الحرب ولماذا سوء الفهم هذا دفع الحكومة الإسرائيلية إلى محاولة التوصل إلى وقف إطلاق النار دون النظر إلى أهداف حماس ووضعها، ما أدى إلى حرب طويلة استمرت خمسين يوماً، بما في ذلك تحرك بري لم يستخدم للوصول إلى نهاية الحرب.

 أدت أسباب مختلفة إلى أنه بعد العملية لم يتم توضيح سبب إطالة أمد الحرب. لو تم توضيح هذا السؤال، فمن المحتمل أن التخطيط للنهاية كان سيحظى بالأهمية التي يستحقها، وكان من الممكن أن يكون لدى الجيش الإسرائيلي أدوات أفضل للوصول إلى نهاية حرب السيوف الحديدية.

خلال عملية “الجرف الصلب” في صيف 2014، بدا أن إسرائيل تتعامل مع ظاهرة جديدة -حرب لم تتمكن من إنهائها. وذلك على الرغم من أنها نفذت عملية برية (محدودة) ضد الأنفاق الهجومية على طول الحدود مع غزة، وأصابت مئات الإرهابيين، وغادرت القطاع، بل وأعلنت عدة مرات عن استعدادها للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. وعلى الرغم من كل الأثمان التي دفعتها حماس، بدا أن الحركة لم تلين وغير مهتمة بوقف إطلاق النار.

 إسرائيل، التي اعتادت في العقود الأخيرة على شن حروب وعمليات بدأت في أعقاب تصعيد غير منظم من قبل الجانب الآخر وانتهت عندما قررت إسرائيل أنها حصلت ثمناً كافياً، وجدت نفسها فجأة في حرب لا نهاية لها.

مفهوم الحروب الذي تجذر منذ حرب لبنان الأولى كان له أساس مهم. خلال هذه السنوات، واجهت إسرائيل منظمات إرهابية لا تستطيع تهديد وجودها عسكرياً، واختارت استراتيجية المقاومة – أي تنفيذ عمليات إرهابية، أو عمليات حرب عصابات ضد انتشار الجيش الإسرائيلي على الحدود، أو استخدام نيران غير دقيقة في الخلف. لقد اختار العدو هذه الاستراتيجية لأنه أدرك أنه لا يستطيع مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية، ولذلك حاول الحفاظ على مستوى من العنف لا يجر إسرائيل إلى عملية عسكرية كبرى أو إلى حرب.

على مر السنين، وقعت أحداث تطلبت من إسرائيل الرد بطريقة تجاوزت مستوى الرد الذي توقعته التنظيمات الإرهابية. هذه الأحداث، التي كانت عبارة عن عمليات أو حتى حروب مثل حرب لبنان الثانية، أظهرت اختلافات القوة بين الطرفين.

 إن مثل هذه العمليات والحروب لم تكن مرغوبة لدى المنظمات الإرهابية، وبالتالي كانت مهتمة كقاعدة عامة بإنهائها في أسرع وقت ممكن. هذه العقلية عبر عنها نصر الله، الأمين العام لحزب الله، بعد حرب لبنان الثانية عندما قال: “لو كنت أعلم أن هناك احتمال 1:100 أن يؤدي اختطاف الجنود إلى الحرب، لما كنت لأفكر في القيام بها.

إن الوضع الذي تنتهي فيه الحروب عندما تقرر إسرائيل أنها حصلت ثمناً كافياً من الجانب الآخر، الذي ينتظر نهاية الحرب، قد تسبب في ضمور عضلة التخطيط الاستراتيجي في الجيش الإسرائيلي.

العنصر الأساسي للتخطيط للحرب.. وهو التخطيط للنهاية

 ينبغي أن يتضمن التخطيط لإنهاء الحرب مكونين متكاملين – “آلية الإنهاء” التي تشير عادة إلى العملية الرسمية – مثل قرار الأمم المتحدة أو اتفاق ثنائي، و”أدوات الإنهاء” – وهي الأسباب التي تدفع الأطراف إلى التوصل إلى إنهاء الحرب، مثل الوضع العسكري، والضائقة المدنية، والضغط الدولي، وما إلى ذلك. ومن أجل التبسيط، سأطلق على هذين العنصرين اللذين ينبغي إدراجهما في التخطيط لإنهاء الحرب اسم “آلية النهاية”.

لقد احتل مكان آلية الإنهاء في المناقشة الاستراتيجية احتضان شبه رومانسي (للحسم). من المؤكد أن الحسم العسكري يمكن أن يشكل آلية إنهاء فعالة، لكن إسرائيل لم تمارسه قط بشكل حصري أو مركزي. ولسبب وجيه، فإن إسرائيل دولة صغيرة، ومواردها محدودة، وتواجه دولاً أكبر منها بكثير.

 حتى الدول الكبيرة والقوية (الولايات المتحدة على سبيل المثال) لم تكن قادرة على حسم الحروب.  ولم يمنع الحسم النهائي في سيناء عام 1967 مصر من تجدد النار بعد عشرة أيام. الحسم مثل طرد منظمة التحرير من بيروت لم يرافقه استسلام المقاومة في لبنان.

 لقد كتبوا في الجيش الإسرائيلي وتحدثوا عن حسم، لكنهم لم يطوروا عملية التخطيط لآليات إنهاء الحروب وبدلاً من ذلك، تطورت جدلية تنتهي بموجبها الحروب إما بالحسم أو بالردع. في حين أن كل حروب إسرائيل لم تنته بالحسم، وفيها كلها كان الردع جزءاً -بل جزءاً فقط – من آلية الإنهاء.

لسوء الحظ، لم يكن لهذا الفشل المفاهيمي تكلفة عملية في العمليات والحروب، إذ كان الطرف الآخر ينتظر فقط اللحظة التي تصبح فيها إسرائيل جاهزة لإنهاء الحرب.

حددت لجنة فينوغراد لمراجعة حرب لبنان الثانية “فترة الخلط” بأنها الفترة الزمنية بين الإنجاز الأولي للحرب واللحظة التي قررت فيها إسرائيل إنهاءها – كفترة زمنية غير ضرورية استمرت فيها الحرب دون إنجازات  وانتهت الحرب عندما كانت إسرائيل مستعدة لإنهائها. وعلى نحو خلاب (ومأساوي)، حتى الخطوة الأخيرة لاحتلال أجزاء من جنوب لبنان لم تكن ضرورية، لأن القرار 1701 كان قد تم إعداده بالفعل في الأمم المتحدة ثم جاءت عملية “الجرف الصلب “.القرار الإسرائيلي بشن العملية سبقه تصعيد كان، من وجهة نظر إسرائيلية، له عاملان:

1- الضغوط العسكرية والسياسية التي مارستها إسرائيل على حماس في إطار عملية “عودة الاخوة ” في أعقاب اختطاف الأطفال الثلاثة في 12 حزيران 2014، والتي شملت اعتقالات واسعة النطاق في الضفة الغربية وتبادل إطلاق النار في غزة.

2- إحباط عملية نفق هجومي من غزة تم اكتشافه من قبل رجال المخابرات بتاريخ 07/05/2014 في إسرائيل، عشية العملية، لم يكن من الواضح ما الذي دفع حماس إلى تصعيد تبادل إطلاق النار، في حين كان من الواضح أنه في مرحلة ما سيتعين على إسرائيل الرد بقوة. وهكذا، في 8 تموز 2014، أطلق الجيش الإسرائيلي عملية الجرف الصلب، التي كان هدفها المعلن مهاجمة حماس واستعادة الهدوء في الجنوب. حقيقة أن إسرائيل لم تفهم سبب دخول حماس إلى الحرب تعني أنه لم يتم تحديد أهداف مرتبطة بأهداف حماس للعملية. في البداية، يبدو أن خطة عمل الجيش الإسرائيلي كانت تتمثل في ضرب حماس بالنار. وبعد تسعة أيام، وافقت إسرائيل على اقتراح مصر بوقف إطلاق النار، وهو ما رفضته حماس. يمكن أن نتعلم من ذلك أن إسرائيل لم يكن لديها فهم لأهداف حماس، واعتقدت أن المنظمة تحولت إلى صراع عن طريق الخطأ، وبالتالي ستوافق على وقفها.

وفي وقت لاحق، بدأ الجيش الإسرائيلي عملية برية ركزت على محاولة تحييد الأنفاق الهجومية. واتسمت العملية بعدم جاهزية القوات لهذا النوع من العمليات، مما يدل على أن عملية الجيش الإسرائيلي لم يكن هدفها بعد تحييد الأنفاق. وبالعودة إلى الماضي، يتبين أن الاستعدادات بدأت على مستوى القيادة الجنوبية، لكن لم يكن هناك هدف عسكري لتدمير الأنفاق. ومع انتهاء العملية، قرر مجلس الوزراء انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، معتقداً مرة أخرى أن هذا سيؤدي إلى إنهاء العملية الخطاب الشامل” لرئيس الأركان يمثل الخطأ الاستراتيجي الذي ينبع من الاعتقاد بأن حماس ليس لديها هدف تسعى إلى تحقيقه، وبالتالي فمن المرجح أن توافق على وقف إطلاق النار مع انسحاب الجيش الإسرائيلي.

بعد محاولات عبثية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وتجدد إطلاق النار لمدة شهر آخر، توصلت إسرائيل إلى وقف لإطلاق النار مع حماس بعد عدم قبول معظم مطالبها. (بعضها نعم، مثلاً – توسيع مساحة صيد الاسماك).

كشف الخطة العملياتية والمحاولات الفاشلة للتوصل إلى وقف إطلاق النار والانسحاب من غزة قبل التوصل إلى وقف إطلاق النار واستمرار العملية (خمسين يوماً) التي ألحقت خلالها أضراراً جسيمة بأسلوب الحياة في البلاد تشير إلى أنه لم يكن هناك تفكير مسبقاً أو أثناء العملية من حيث آلية الإنهاء. لقد قررت إسرائيل في البداية عدم محاولة “حسم” حماس، ولكن لم يتم إجراء أي نقاش جدي، وبالتأكيد لم يتم التوصل إلى نتائج فعالة فيما يتعلق بآلية الإنهاء والشروط التي ستمكن من ذلك.

التفسير الذي قدمه الجيش لاستمرار الحرب هو أن حماس تواجه صعوبة في التوصل إلى قرار بسبب صعوبات التواصل بين القيادة الخارجية والقيادة الداخلية، على الرغم من جر حماس إلى حرب غير مخطط لها (سوء التقدير) إلا أنها غير قادرة على حلها. التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، على الرغم من أن المنطق كان هو محاولة إنهاء الحرب التي دخلت فيها عن طريق الخطأ. التفسير الذي قدمه الجيش الإسرائيلي كان مريحا، وسوء تقدير من الصعب التنبؤ به، وصعوبات الاتصال الداخلي لا تشير إلى فشل إسرائيلي. دعونا نجرب تفسيراً بديلاً: الابتعاد عن إيران على خلفية الحرب الأهلية في سوريا، وثورة السيسي المضادة في مصر، وسقوط نظام الإخوان المسلمين بقيادة مرسي، أدى إلى استنفاد الدعم المحتمل لحماس. واجهت حماس صعوبة في إيجاد بديل لخط الإمداد من مصر وتمويلها، وفي نهاية عام 2013، عندما أصبح ظهرها إلى الحائط، قررت استراتيجية تقوم على ساقين بديلتين:

1- ساق سياسية للتقارب مع السلطة الفلسطينية. 

 2- ساق عسكرية هجومية تعتمد على الأنفاق والصواريخ

من أجل الخروج من العزلة التي وجدت نفسها فيها والحصار المشدد الإسرائيلي والمصري بطريقة دبلوماسية، كانت حماس مستعدة للدفع من خلال التقرب من السلطة الفلسطينية والتعاون معها. وانعكس هذا البديل في الإجراءات العلنية التي حاولت إسرائيل إحباطها، وعادةً ما نجحت في ذلك. وفي الوقت نفسه، لم تحافظ السلطة الفلسطينية على آليات التمويل المتفق عليها مع حماس، بسبب عدم رغبتها في تعزيز المنظمة.

في الوقت نفسه، قررت حماس إعداد خيار عسكري – حرب ستبدأها إذا فشلت في كسر العزلة – ولهذا الغرض سارعت ببناء قوة صاروخية، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى وحفر أنفاق هجومية تعبر الأراضي الإسرائيلية. كان الغرض من الخيار العسكري هو إحداث أزمة دولية حيث يجبر الأمريكيون والأوروبيون إسرائيل ومصر على فك الحصار ومساعدة حماس. ويبدو أن هذا البديل كان سريا، رغم أنه في نهاية عام 2013 أو بداية عام 2014، كان لدى الشاباك معلومات تفيد بأن حماس تستعد للحرب في الصيف. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك الكثير من المعلومات حول الانفاق الهجومية وحتى حول الخطط التنفيذية لحماس لاختراق واسع النطاق لغلاف غزة.

في إسرائيل لم يفهموا عمق مأزق حماس، وربما لم يقدروا تأثير المأزق على استعداد المنظمة للمخاطرة بالحرب إن السياسة الإسرائيلية التي دعت إلى التفريق بين السلطة الفلسطينية وحماس حاولت منع حماس من التقرب من السلطة الفلسطينية ودفع الرواتب في غزة من قبل السلطة الفلسطينية. كما فشلت خطوة حماس أيضاً لأسباب فلسطينية داخلية (وليس فقط بسبب التفضيل الإسرائيلي). وعندما توقفت حماس عن دفع الرواتب، وصلت المنظمة إلى وضع يمثل، حسب قولها، أزمة استراتيجية حادة وفورية. لقد فشل البديل السياسي لحماس، وبقي أمامها البديل العسكري.

الاختطاف، وعملية إعادة الأخوة، والإجراءات الإسرائيلية المضادة على مسار النفق الهجومي، دفعت حماس إلى اتخاذ قرار الحرب الذي أعددته، على الرغم من أنها فقدت ورقة المفاجأة ولكن عندما بدأت الحرب، حاولت حماس تحقيق أهدافها: الخروج من العزلة وحل الأزمة الاقتصادية. وكانت لدى إسرائيل أهداف لحماس للحرب. وفصل بعضها في إطار المحاولات التي تبذلها مصر للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وبعضها جاء من مصادر استخباراتية.

في إسرائيل لم يفهموا الوضع ولا قرار حماس ويتجلى ذلك من خلال عدم إعداد خطط الحرب ذات الصلة، واستمرار أزمة الميزانية الحادة التي دفعت الجيش الإسرائيلي إلى وقف التدريب في ايار 2014، وقبل كل شيء سوء الفهم بأن حماس كانت تسعى إلى الحرب عندما وقعت أحداث عملية عودة الاخوة.

وفي ضوء ذلك، تبدو محاولات التوصل إلى وقف مبكر لإطلاق النار محفوفة بنقص فهم السياق الفريد، ناهيك عن كونها محرجة.

لكن التحرك البري الذي يهدف إلى تحييد الأنفاق يستحق النظر أيضاً من هذه الزاوية. كان الغرض من العملية البرية في عملية الجرف الصلب هو تحييد تهديد الأنفاق الهجومية. مسألة الأنفاق، والإلمام بها، وفهم التهديد الذي تشكله وعدم وجود أدوات عملية لمواجهتها، كانت موضوع كتابة وتحقيق حتى تقرير خاص من مراقب الدولة. التحليل هنا يقترح النظر إلى مسألة الأنفاق بطريقة مختلفة: تأثيرها على الحرب التي بدأتها حماس.

إن المعرفة التي كانت لدى إسرائيل بشأن التدابير المضادة، وظروف بداية الحرب، منعت حماس بشكل شبه كامل تقريبا من استخدام الأنفاق خلال العملية، بحيث لم يكن لها أي تأثير تقريبا من الناحية العملياتية. لكن وجودها، والإحراج الاستراتيجي الذي تعيشه إسرائيل في أعقاب فشل وقف إطلاق النار الأول، أجبرا الجيش الإسرائيلي على الدخول في عملية برية ضد الأنفاق في عام 2014، لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي أدوات عملية مناسبة ضد الأنفاق، وينبغي القول بكل تواضع أنه لا يمكن في الواقع القضاء على الأنفاق بشكل كامل.

من الممكن منع استخدام معين، ومن الممكن إيذاء من هم فيها في وقت معين، ومن الممكن إتلاف وحتى تدمير أجزاء منها – ولكن يبقى جزء كبير من المسار حتى بعد معالجة  امر النفق  في عام 2014، كان الضرر الرئيسي الذي لحق بالأنفاق – في الفتحات الممتدة على طولها ولكنها ليست الطريق نفسه، لم يتمكن الجيش من تدمير تهديد الأنفاق الهجومية، على الرغم من أنه ألحق أضراراً بأجزاء منها . بدليل انه كانت هناك حاجة لبناء حاجز متطور تحت الأرض لوقف التهديد. لكن الحاجة إلى التعامل مع الأنفاق كانت سبباً وجيهاً لتحرك بري سمح بإلحاق أضرار كبيرة بحماس وبناها التحتية.

لقد سبقت عملية الجرف الصلب عملية عامود السحاب ت2  2012)، والتي أدت إلى استنزاف مجموعة الأهداف، ولم يكن من الممكن ضرب حماس بشكل كبير بما فيه الكفاية دون تحرك بري وكان التحرك البري فرصة لإلحاق ضرر أكبر بحماس. وهذا لا ينفي أهمية العملية ضد الأنفاق وبالتأكيد لا يلقي ضوءاً سلبياً على عمل القوات المشاركة في المهمة، لكن في سياق أهداف الحرب كان تأثير التحرك ضد الأنفاق أكثر أهمية فالثمن الذي فرضته على حماس وغزة فوق الأرض كان أكبر من تحييد تهديد الأنفاق. إن عملية محدودة على أطراف الأنفاق على عمق 1-2 كيلومتر في قطاع غزة لم تكن كافية للوصول إلى وضع تتخلى فيه حماس عن معظم مطالبها، وربما كان ينبغي تعميق العملية البرية قليلا. عدم الفهم لأهداف حماس الحربية، ومن ثم سوء فهم معنى المناورة ضد الأنفاق، دفع حكومة إسرائيل إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من القطاع عندما انتهى على ما يبدو تحييد الأنفاق وقبل توافر شروط إنهاء الحرب. لقد أخطأت إسرائيل عندما اعتقدت أن لديها القدرة على التوصل إلى وقف لإطلاق النار قبل توفر الشروط التي تسمح لحماس بالتخلي عن مطالبها، أو بدلاً من ذلك، اتخاذ قرار للسماح بالمرونة في مواجهة بعض مطالب حماس.  واستمر هذا الوضع لغاية المعركة الأطول في غزة حتى حرب السيوف الحديدية، وهي فترة أخرى من المراوحة.

بعد خمسين يوماً من حرب متفاوتة الشدة، توصل الطرفان إلى تسوية تضمنت أيضاً عدة إنجازات لحماس (توسيع منطقة الصيد)، وقبل كل شيء فتحت الطريق أمام المساعدات والتمويل المستمر من قطر.

ومن المثير للاهتمام أن إسرائيل لم تكن تطمح إلى خلق واقع سياسي وأمني جديد في غزة بل إلى الحفاظ على حكم حماس، ولذلك فإن المصلحة المشتركة (آنذاك وعلى ما يبدو) لإسرائيل وحماس في الحفاظ على حكمها أدت إلى التعاون في تمويل المنظمة وهذا يثير ويشحذ التساؤل حول مدى تماسك قرارات إسرائيل فيما يتعلق بحماس.

على الرغم من عدم فهم أن وجهة حماس هي نحو الحرب، وعدم وجود تحذير استراتيجي على عكس ت1  2023، وقفت الهة الحرب إلى جانب إسرائيل في عام 2014:

أولاً، مبادرة محلية، أو مبادرة أتت بثمارها قبل الأوان فيما يتعلق بعملية الاختطاف في غوش عتصيون، بدأت في إطلاق عملية “عودة الإخوة”، وأدى الضغط الذي مورس على حماس في الضفة الغربية إلى تبادل إطلاق النار. ومن هنا أيضاً الاستعداد والتركيز العملياتي في اتجاه القطاع.

بالإضافة إلى ذلك، كان لدى إسرائيل معلومات تحذيرية ملموسة حول مسار نفق هجومي يخترق الأراضي الإسرائيلية، وفي أعقاب تبادل إطلاق النار في غزة أو بالتزامن معه، تقرر مهاجمة المسار وتدميره مع الإضرار بالناشطين الذين كانوا يتواجدون هناك

عندما قررت حماس الذهاب إلى الحرب، لم تكن تلك مفاجأة عملية، وكانت إنجازات حماس في بداية العملية ضئيلة للغاية، على الرغم من أنها شملت أيضاً بعض النجاحات المعزولة المتمثلة في التسلل عبر الأنفاق والتسبب في إصابات.

أمان لم يحذر من الحرب، والجيش لم يكن مستعداً عملياً، ولم يكن هناك فهم استراتيجي لسبب وأهداف حرب حماس، لكن لم يكن هناك بدء مفاجئ، ولم تكن هناك إنجازات مهمة لحماس في بداية الحرب. نظرياً كان ينبغي تشكيل لجنة تحقيق للتحقيق في فشل الاستخبارات في التحذير من الحرب.  بل وكانت هناك تلميحات إلى وجود جدل داخلي في الجهاز الأمني فيما يتعلق بمسألة ما إذا كان ينبغي أن يكون هناك إنذار لاندلاع الحرب في غزة أم لا، لكن الجدل العام والمهني في إسرائيل كان يدور بالأساس حول مسألة الأنفاق. ولم يكن هناك أي نظرة إلى الصورة الكبيرة، هل كان هناك فشل في التحذير من الحرب؟.

إن مسألة مدى فهم التهديد الذي تشكله الأنفاق، وما إذا كان من الممكن الاستعداد للعمل ضدها بطريقة أفضل، قد تصاعدت بعد نقاش سياسي حول مسألة من الذي طرح الحاجة إلى معالجتها، وإلى ماذا؟ وإلى أي مدى كان نتنياهو مسؤولاً عن عدم عرض الموضوع بالكامل على مجلس الوزراء. بل إن النقاش الأهم الذي كان يمكن أن يؤثر على فشل 2024، لم يحصل.

وبدلاً من ذلك، تم تحديد دور سوء التقدير كآلية للتحول إلى الحرب (ربما كان هناك إسقاط خاطئ هنا من حالة عام 2006 التي “تدهورت” فيها إسرائيل إلى حرب بدأتها عن غير قصد في أعقاب اختطاف الجنود). ولم تُبذل حتى محاولة لفهم السبب وراء عجز إسرائيل لمدة خمسين يوماً عن إقناع حماس بالموافقة على وقف إطلاق النار.

  وفي ما يتعلق بديناميكية الحسابات الخاطئة، يمكن إلقاء نظرة على الأشهر العشرة الأخيرة على الحدود اللبنانية لأخذ درس في الحساب. أمامنا عشرة أشهر عنيفة بشكل خاص، حيث تقوم الأطراف مرارا وتكرارا بتوسيع إطار العنف، وحتى بداية ايلول على الأقل لم تتدهور المعركة إلى حرب غير طوعية.

الدرس الأهم في رأيي يتعلق بـ “آلية الانهاء”.  ولم يكن مطلوباً من الجيش الإسرائيلي أن يتساءل عن سبب فشله في وضع نهاية مبكرة لعملية الجرف الصلب، وما إذا كانت حرب الخمسين يوما التي تشمل أيضا إطلاق النار على وسط البلاد هي نتيجة مرضية لإسرائيل. ولم يدرس الأدوات التي يجب تطويرها لتقييم أهداف الطرف الآخر وتصميمه على تحقيقها، وما الذي يمكن أن يؤثر على هذا التصميم. ولم يضف إلى أسلوب عمله مسألة ما هي الأدوات المتاحة لإقناع الخصم بإنهاء الحرب، بعضها عسكري، وبعضها مباشر، وبعضها غير مباشر، وبعضها داخلي وبعضها خارجي. وفوق كل شيء، لم يتم بحث مسألة كيفية التخطيط لحروب لا تصل إلى “الحسم العسكري” (الذي ربما لا يأتي أبداً في منطقتنا)، حتى يكون من الممكن الوصول إلى نهايتها في وقت معقول وفي ثمن معقول. وظل الجيش الإسرائيلي في النقاش حول الحسم ولم يطور التفكير حول آليات الإنهاء في سياقها الواسع.

ربما يكون الفشل الكبير لعملية الجرف الصلب لم يكن في عدم إعطاء التحذير الاستراتيجي للحرب، ولا في الفهم المتأخر لمسألة الأنفاق، ولا حتى في فهم دور العملية البرية، بل في حقيقة أنه لم يطلب من الجيش الإسرائيلي تطوير فهم لمسألة آلية الإنهاء.  وها نحن في وسط حرب لا تنتهي، والحروب الأخرى التي على وشك الحدوث بالتأكيد لن يتم حسمها… ولكننا سنحتاج إلى آلية إنهاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *