الفساد والمسؤولية عن تهدّم البلدان لا بديل عن القانون والحقوق
بقلم نبيل علي صالح كاتب وباحث سوري
الفساد لغةً من (فسد) وهو ضد صَلُحَ، (والفساد) لغة البطلان كما ورد في المعاجم، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه. فهو (الجدب أو القحط) كما في قوله تعالى: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾( الروم: 41)، أو (الطغيان والتجبر) كما في قوله تعالى ﴿للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً﴾(القصص: 83)، أو (عصيان لطاعة الله) كما في قوله تعالى: ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو…﴾(المائدة: 33)، حيث تركز الآية السابقة على تحريم الفساد على نحو كلي شامل، وتتوعد أصحابه والقائمين به بأشد أنواع العذاب وبالخزي والعار في الدنيا والآخرة.
وأما الفساد اصطلاحاً، فله تعريفات كثيرة متعددة، تتفق على كون الفساد إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص.. أي استثمار الموظف في الدولة والمؤسسة العامة أو الخاصة للصالح العام بهدف خدمة مآرب ومنافع خاصة.
وأيضاً تقترب مفردة الفساد إنكليزياً (Corruption) من أن تكون ذات دلالات قيمية (على مستوى التصرف والممارسة العملية) حيث تطرح كلمة (Corruption = الفساد) وصفاً مشيناً للسلوك غير السليم- Dishounor – الناتج عن تفسخ منظومة القيم الاجتماعية وانهيار المنظومة القيمية.. هذا على مستوى معاني اللفظ.
أما ما يخص التعاريف التي قدمتها المؤسسات الدولية لمصطلح الفساد –وخاصة الهيئات التي تحمل صفة اقتصادية وسياسية كالبنك الدولي مثلاً – فيعرف الفساد من خلال أنه “استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص (الشخصي )غير المشروع (ليس له أي أساس قانوني)”.. وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي (IMF) الذي ينظر إلى الفساد من حيث أنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين.. وهنا يتحقق اقتراب المعالجتين (معالجة البنك الدولي وصندوق النقد) من بعضهما البعض على مستوى تأطير الفساد بسلوك وسطوة (قدرة وسلطة) تظهر لنا مخرجات معاني هذا الفساد وتطرح وصفاً أولياً لبنية المجتمع الذي تسوده علاقات الفساد..
ولهذا يصبح (الفساد) علاقة وسلوك اجتماعي، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي، فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة، لهذا يصنف المختصون في قضايا الفساد أنواعه إلى واسع وضيق، فالفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدمية تتوزع على شكل معلومات، تراخيص، ووإلخ؛ أما الفساد الضيق فهو قبض الرشوة مقابل خدمة اعتيادية بسيطة.. أي عندما يقوم موظف بقبول أو طلب ابتزاز (رشوة) لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة مثلاً. كما يمكن للفساد أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق (المحسوبية والمنسوبية) أو سرقة أموال الدولة مباشرةً.
والمحسوبية هنا تعني تفضيل الأقارب أو الأصدقاء الشخصيين في أي عمل أو موقع أو دور متقدم وذلك بسبب طبيعة العلاقة الشخصية، وليس لوجود استعداد وقابلية نوعية لديهم.. والكلمة تستخدم للدلالة على الازدراء. فمثلاً إذا قام أحد المدراء بتوظيف مدير أو ترقية أحد أقاربه الموظفين بسبب علاقة القربى بدلاَ من موظف آخر أكفأ وأقدر على ممارسة الوظيفة والمهام، ولكن لا تربطه أية علاقة بالمدير، فيكون المدير حينها متهماً بالمحاباة. وقد ألمح بعض علماء الأحياء بأن الميل نحو محاباة الأقارب أمر غريزي وشكل من أشكال انتقاء الأقارب.
وحقيقة إن ممارسة الفساد مرجعها – في الأساس – إلى عدم وجود أي مظهر من مظاهر الاستقامة الذاتية للشخص الذي يمارسه.. وبالتالي فهو انتهاك لقيمه وأخلاقه، وقيم المجتمع الذي يمارس ضده هذا النمط من السلوك المنحرف والمنحط.
أما بالنسبة لأصحاب القانون والاتجاه القانوني فيعدون الفساد انحرافاً في الالتزام بالقواعد القانونية، وهناك شبه إجماع على أن للفساد أثراً مدمراً على القانون وعلى القضاء عندما يطاله ويشمله بمؤثراته المهلكة.
هذا وقد اختارت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد للعام 2003 ألا تعرف الفساد تعريفاً فلسفياً أو وصفياً، بل انصرفت إلى تعريفه من خلال الإشارة إلى الحالات التي يترجم فيها الفساد إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع، ومن ثم القيام بتجريم هذه الممارسات وهي:
– الرشوة بجميع وجوهها وفي القطاعين العام والخاص.
– والاختلاس بجميع وجوهه.
– والمتاجرة بالنقود.
– وإساءة استغلال الوظيفة. – وتبييض الأموال.
– والثراء غير المشروع، وغيرها من أوجه الفساد الأخرى.
إذاً، الفساد جريمة حقيقية تترتب عليها قضايا جنائية، يقوم بها المفسد بناءً على تفكير وحساب وتخطيط وتنفيذ، وعليه فهو من الجرائم التي تزيد التراكمات المادية غير الشرعية، والمخالفة للقوانين والمؤثرة تأثيراً سلبياً في بنية المجتمع واقتصاده. وعليه فالفساد عموماً هو عكس الاستقامة والنزاهة والإيجابية والبناء والنظام والانضباط والالتزام بالقوانين؛ وهو ممارسة وسلوك ذاتي يتم من خلاله تغليب المنفعة الشخصية على المنفعة العامة، واستغلال المصلحة العامة لتحقيق المنافع الشخصية دون النظر إلى المنفعة العامة والصالح العام. إن هذه التحديدات والتصانيف والنظرات لأنواع الفساد تكشف عن حدود جغرافيا انتشار الفساد في المجتمع ومؤسساته.. وبالتالي يصبح الفساد موقفاً اجتماعياً إزاء سلم أولويات المجتمع الأخلاقية. ليدخل مظاهر ممارساته (الفساد) كجزء طبيعي في النسق الثقافي – الاجتماعي.
ويمكن القول بأن الفساد السياسي هو أخطر أشكال وأنواع الفساد، لأنه يدفع ويهيئ لكل أشكال الفساد، خصوصاً منه الفساد الاقتصادي.. ويتعلق الفساد السياسي بطبيعة الحكم والممارسة السياسية وآليات العمل السياسي السائدة في مؤسسات الدولة (حيث أنه وبرغم وجود فارق أساسي بين طبيعة المجتمعات التي تنتهج أنظمتها السياسية أساليب الحكم الديمقراطي وتوسيع مشاركة الناس في صنع القرار، وبين الدول التي يكون فيها الحكم شمولياً وديكتاتورياً، لكن العوامل المشتركة لانتشار الفساد في كلا النوعين من الأنظمة تتمثل في نسق وآليات الحكم الفاسد.).. ويتمظهر هذا النمط واقعياً من خلال إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومة) من قبل النخب الحاكمة لأهداف غير مشروعة، وعادة ما تكون ممارساتها سرية من أجل تحقيق مكاسب نفعية شخصية، تتجسد (في سياق عمل إدارات الدولة) في عجز مؤسسات وقطاعات الدولة المتعددة والمتنوعة عن القيام بمهامها ووظائفها وواجباتها الملقاة على عاتقها، والمتمثلة في البناء السليم المتوازن والحديث لإنسانها ومجتمعاتها (تحقيق مستوى معيشي نوعي متطور، وقدرة مشاركة كبيرة في الحكم، وو..الخ)، بسبب شخصنة عملها (هيمنة فئة صغيرة على هيئة نظام حكم على مقدرات الاقتصاد الوطني ككل) وتكريس مختلف خطوط ومواقع الانحرافات المالية ومخالفات القواعد والأحكام التي تنظم عمل النسق السياسي (المؤسسات السياسية) في الدولة.
ومن المعروف أن كل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد السياسي التي تتنوع أشكاله إلا أن أكثرها شيوعاً هي: المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب. ورغم أن الفساد السياسي يسهل النشاطات الإجرامية من قبيل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والدعارة إلا أنه لا يقتصر على هذه النشاطات ولا يدعم أو يحمي بالضرورة الجرائم الأخرى.
ويمكن أن يؤدي الفساد السياسي (على الصعيد الاقتصادي التنموي، كما نراه في معظم مجتمعات العالم المتأخر) إلى تقويض ونسف دعائم التنمية البشرية من جذورها وذلك لتسببه في حدوث تشوهات وحالات عجز ضخمة.
كما ويؤدي انتشار الفساد في القطاع الخاص إلى زيادة كلفة العمل التجاري من خلال زيادة سعر المدفوعات غير المشروعة نفسها.. وكذلك لازدياد النفقات الإدارية الناجمة عن التفاوض (ونعني بها عمليات التراضي وتسوية الصفقات مع أولي الأمر!!) مع المسؤولين ومخاطر انتهاك الاتفاقيات أو الانكشاف.
وعلى الرغم أن البعض يدّعي بان الفساد يقلل من النفقات الإدارية عن طريق تجاوز الروتين الإداري، إلا أن وجود الرشوة يمكن كذلك أن يدفع المسؤولين لاستحداث تعليمات وحالات تأخير جديدة في إنجاز المعاملات. ومع إسهامه في زيادة تضخم النفقات التجارية فإن الفساد يشوه الحقل التجاري لأي بلد، إذ يحمي الشركات والمؤسسات ذات المعرفة والحظوة لدى الحكومة من المنافسة ما يعني بالنتيجة استمرار وجود شركات ضعيفة مترهلة وخالية من الكفاءة والكفاءات، وغير منتجة تعتاش على دمار غيرها.
وعلاوة على ذلك يولد الفساد تشوهات اقتصادية في القطاع العام عن طريق تحويل استثمار المال العام إلى مشروعات رأسمالية تكثر فيها الرشى. ويلجأ المسؤولون إلى حيلة زيادة التعقيدات الفنية لمشاريع القطاع العام لإخفاء أو لتمهيد الطريق لهذه التعاملات غير المشروعة، ما يؤدي بالنتيجة إلى زيادة تشويه استثمار المال العام.
ويؤدي الفساد كذلك إلى خفض معدلات الالتزام بضوابط البناء والمحافظة على البيئة والضوابط الأخرى، وإلى تردي نوعية الخدمات التي تقدمها الحكومات، وزيادة الضغوط على ميزانياتها الرسمية.
وفي عالمنا العربي توجد نماذج لدول كثيرة أسقطها الفساد – إلى جانب الفساد بطبيعة الحال -، وهذا جاء نتيجة تركز السلطة فئوياً بيد قلة من الناس (سيطرة الحكم الفردي) يديرون البلد، ويصنعون قراراته الحساسة والمصيرية انطلاقاً من الهمّ والهاجس الأساسي الذي يتحكم بوجودهم وهو البقاء على الكرسي مهما كانت الظروف والأحوال، وحتى لو دخل المجتمع في حالة حرب أهلية، أو في حرب مع الدول الأخرى.
وهذا التفرد بالسلطة أدى إلى وجود البنى الحكومية المتناحرة والمتضاربة المصالح والتوجهات، والتي لا تتحكم بها مشاعر المصلحة العامة، وحقوق المجتمع، وبناء مستقبل زاهر ومنتج للبلد، بل تعيش هاجس المنفعة والأنانية المنغلقة وشبكات المعارف والمحسوبيات والزبائنية.
من هنا لا يمكن معالجة الفساد إلا بمعالجة أسبابه ودوافعه والتي تكمن في بناء نهج سياسي تعددي يقوم على القانون وحكم المؤسسات بعيداً عن الشخصنة وحكم الحزب الواحد وتسلط أجهزة الأمن على رقاب الناس.. أي ضرورة وجود سلطات منتخبة وحكومات تمثيلية تحكم بالقانون.. وهذا يقتضي أيضاً تفعيل دور منظمات المجتمع المدني تساهم في الحد من الفساد بأشكاله المختلفة، حيث من الممكن لهذه المنظمات أن تلعب دوراً كبيراً في ترسيخ محبة الوطن وحكم القانون، وذلك لتشعبها في كل مفاصل المجتمع وفي كل القطاعات والفئات.. كما أن بإمكانها مراقبة نشاط الحكومة بكل مفصل تعمل فيه.. ومن الممكن أن تشكل هذه المؤسسات حكومة ظل ضاغطة على الحكومة الفاعلة القائمة.
وهذا كله لا توفّره برأيي إلا دولة العدل والقانون والمؤسسات.. دولة الحقوق.. فهذا النموذج من نماذج وأشكال الدولة هو أقل النماذج السياسية التي يمكن للفساد أن ينتشر فيها.. والسبب يعود لإشاعة الحقوق وتلبية الحاجات، ووجود الإعلام الحر، والمؤسسات الشرعية المنتخبة، والرقابة الشعبية المستمرة.