هامش ثقافي

نحن والآخر.. وثقافة الكراهية

بقلم غسان عبد الله

وعلى الرغم من ازدياد تلك النبرة مؤخراً، إلا أنها بالتأكيد ليست نبرة مستحدثة أو ذات خصوصية للعالم العربي. خطاب الكراهية في الواقع يمكن فحصه عبر محورين: الأول في إطار مفاهيم وسلوكيات النزاع، والثاني في إطار واقعنا العربي التاريخي والمعاصر.

في إطار دراسات السلام والنزاع، فإن البُعد النفسي (السيكولوجي) للأفراد أو المجموعات على حد سواء يوضح أن تأصيل خطاب للكراهية ضدّ أعدائنا وترسيخه في الأذهان باستخدام شتّى وسائل الدعاية هو في الواقع مسار يكاد يكون ضرورياً من أجل إعطائنا شرعية أخلاقية في إلحاق الأذى أو استخدام العنف ضد العدو. وهنا نحن نؤكد في إطار البحث في حل النزاعات أن كل طرف في نزاع (يستيقظ في الصباح بقناعة تامة بأنه على حق). بمعنى آخر فإنني عندما أكون في نزاع مع شخص أو جماعة أو دولة، فإنني أمتلك قناعة راسخة بأنني على حق والطرف الآخر على باطل. المشكلة تكمن في أن الطرف الآخر أيضاً يرى أنه على حق ويراني على باطل.

هذا التناقض المبني على احتكار الشرعية للذات وإنكارها للآخر هو حجر الأساس في أي نزاع مهما كان نوعه أو مستواه. يترتب على ذلك أن كل طرف يرى أن من حقه السعي لإشباع حاجاته ومصالحه المشروعة، بينما يرى أن إعاقة الطرف الآخر له عن ذلك تُشكّل نوعاً من العداء الذي يجب ردعه أو إيقافه. هنا يجب أن نتسلح بالشرعية الأخلاقية التي تسمح لنا أن نلحق الأذى بالآخر كردِّ فعلٍ على إعاقته لنا عن تحقيق مطالبنا المشروعة. وهذا يتطلب أن ننتقل ذهنياً ونفسياً من حالة القناعة بأننا على حق والآخر على باطل إلى قناعة بأننا الساعون إلى الخير بينما يسعى الآخر إلى الشر!!. ثم نسترسل في تأصيل قيم الخير والشر حتى نوازي بين العدو والشر، العدو والكفر، العدو والظلم.. وهكذا.

ما هي نتيجة هذا المسار؟ النتيجة أننا نؤسس قناعة بأن تخليص أنفسنا ومحيطنا من ذلك العدو – ولو كان من نفس ديننا – باستخدام شتى الطرق هو واجب أخلاقي وأن أي أذى يلحق بالآخر جرّاء أفعالنا يدخل في صميم حقنا المشروع في الدفاع عن الذات وعن حقوقنا المشروعة في مواجهة عدو شرير غاشم.

تتفاقم النزاعات عادةً عندما يقوم الطرف الآخر باتباع ذات المسار النفسي في خلق صورة الشر عنا وصورة الخير عن نفسه. وفي إطار توازن القوى بين الأطراف، يمكن للنزاع أن يزداد ضراوة. ومع هذا الازدياد تتضاعف لغة الخير والشر وتصل إلى درجة شيطنة الآخر بل وسحب صفة الإنسانية عنه. ومن أهم المسارات التي يلجأ إليها أطراف النزاع من أجل تأصيل فكرة (خيرنا) و(شرّهم) هو المسار التاريخي، وتحديداً المسار التاريخي الانتقائي. والمقصود بذلك المسار أن كل طرف يسترجع ذاكرته بشأن سلوكيات ومواقف الآخر ويُرسّخ في الأذهان فقط تلك التي تعضد من شر الآخر حتى لو احتاج ذلك إلى تذكُّر وسردٍ انتقائي للأحداث التي أحاطت بها حتى ننسج قصصاً تثبت أن شر الآخر هو أمر مستقر في كينونته. ويؤدي هذا بطبيعة الحال إلى أن ننفض عن أنفسنا أي اتهام بأننا ربما نكون على خطأ. وكيف ذلك وقد أثبتنا أن الآخر شرير بطبيعته؟.

ويؤدي السرد التاريخي الانتقائي إلى دعم روح التعاضد والوحدة بين أعضاء طرف النزاع الواحد – سواء أسرة أو قبيلة أو مجموعة عرقية أو دينية أو دولة – لإلحاق الهزيمة بقوى الشر.

كل ما سردناه حتى الآن يتصل بالتوجهات البشرية – ولن أقول بالطبيعة البشرية – التي ترسّخت على مرّ القرون في التعامل مع النزاع. والأمثلة على تلك التوجهات لا تنقصها الوفرة سواء على مستوى نزاعات الأفراد، العائلات، مكان العمل، المجموعات أو الدول. والتاريخ قد سجل حجماً مهولاً من الفظائع التي ارتكبتها أفراد ومجموعات ودول ضد آخرين بعد أن تسلحوا بالشرعية الأخلاقية التي جعلت استخدام العنف أمراً مبرَّراً ومشروعاً بل ومطلوباً أخلاقياً.

ولو نقلنا هذه التوجهات البشرية إلى عالمنا العربي المعاصر وما صاحبه من سرد تاريخي انتقائي، فإن المؤلم لنا جميعاً أن أحلام الوحدة العربية والتكامل العربي، والتي داعبت عقولنا وقلوبنا من قرابة ما يزيد عن نصف قرن وأمِلنا أن نراها تعود بخطىٍ أكثر ثباتاً من الشعوب وليس الحكام، يبدو أنها تتبدد بسرعة فائقة تحت مطارق ثقافة الكراهية.

فكل طرف في أيِّ نزاع في عالمنا العربي والإسلامي اليوم يتبع تلك التوجهات البشرية التي ذكرناها وقد خلق شيطاناً من كل عدوّ ومنح لنفسه فقط الشرعية التي تسمح له بقتل وتدمير وسفك دماء الآخر، مصحوباً بتهليلات النصر والحمد والشُكر كما يحصل في الحرب على اليمن وشيطنة الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد اعتمد العديد من أطراف النزاعات المعاصرة على عنصرين مساعدين لمنح مزيد من الشرعية لأنفسهم وسحبها عن الآخر. الأول هو ما ذكرناه بشأن السرد التاريخي الانتقائي، والثاني هو الترويج لمقولة الأيدي الخارجية والأجندة الخارجية التي بالطبع يتبناها الطرف الآخر وينعم بفتاتها. وهذا الخطاب بالطبع يؤجج من الغضب العارم ضد الطرف الآخر ويُثبت مدى شرّه وتشيطنه، وفي نفس الوقت يدعم موقفنا النبيل والأخلاقي والمؤمن.

وأنا لا أدعي أن مقولة الأيدي الخارجية والأجندة الخارجية هي ضرب من الخيال. على العكس، أعتقد أن معظم الشواهد تدل على وجود تلك الأيدي والأجندة. ولكن هذا يدعو إلى تعميق أحزاننا بشأن ما وصلنا إليه في عالمنا العربي. فالأيدي والأجندة الخارجية تعلم كيف تجعلنا نقاتل بعضنا البعض بأعتى الأسلحة وبخاصة سلاح ثقافة الكراهية. وهنا لا ألوم أحداً إلا أنفسنا. فنحن من استقرأ تاريخنا انتقائياً، ونحن من صنعنا مجداً حتى من أخطائنا، بل ومن جرائم ارتُكِبت باسم أُمَّتِنا. نحن من أصّلنا للفرقة التاريخية بين طوائف أدياننا وأعراقنا وشعوبنا وقبائلنا. ونحن من نبرع في استرجاع ذلك التاريخ وندع الأيدي الخارجية توجهنا لاستخدامه.

قد لا نملك الكثير من الوسائل لوقف الأيدي الخارجية عن العبث بمقدّراتنا على الأقل في المرحلة الحالية، ولكن لن يمكننا أن نبدأ مسار الكرامة والسلام دون وقفة شجاعة مع قراءتنا لتاريخنا، وإقرارنا بأخطاء وجرائم ارتكبناها بحق بعضنا البعض، وتأصيل لقراءة جديدة نقديَّة تسمح بأن نترك لأجيال قادمة بداية إرث جديد قد تعلّم من ماضيه وفوَّت على الأيدي الخارجية فرصة الاغتنام من عدونا الأول: ثقافة الكراهية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *