نقطة الاختناق: منافسة البنية التحتية بين القوى العظمى في البحر الأحمر (الجزء الأول)
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
يتناول المقال التنافس على البنية التحتية كنمط مركزي للصراع بين القوى، ويبحث في كيف تتحقق اليوم في البحر الأحمر وضواحيه. هذه عملية تقوم فيها قوة عظمى باستثمارات كبيرة في البلدان التي تقع في موقع يهيمن ويهدد طريق النقل والاتصال ذو الأهمية الاستراتيجية.
الاستثمارات تهدف إلى ضمان النقل والاتصال للقوة العظمى وشركائها وإنشاء القدرة على تهديد نقل أعدائها.
يبدأ المقال بوضع الأسس النظرية لفهم المستويات المختلفة – الترتيب والبنى التحتية – التي يتم التعبير عن المنافسة فيها.
بعد ذلك، يتم عرض المنافسة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لفترة وجيزة بين الصين والولايات المتحدة وشركائها.
وأخيراً، يتم تقديم لمحة مفصلة عن المنافسة الشديدة في البنية التحتية الموارد وأغلبية المشاركين – روسيا، الصين، الولايات المتحدة، الهند، الاتحاد الأوروبي، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة وتركيا وقطر – والتي تدور أحداثها في منطقة البحر الأحمر ومحيطها، ويعقبها مناقشة العواقب المحتملة على الاستراتيجية الإسرائيلية.
وتختم المناقشة بالدعوة إلى النظر في بدائل مختلفة ومتكاملة لسياسة إسرائيل في المنافسة على البنى التحتية، من بين أمور أخرى، إقامة شراكات مع دول منطقة البحر الأحمر أيضاً مع دول “قوس المحيطين الهندي والهادئ” وخاصة مع الهند، التي تتنامى مصالحها في هذا المجال.
مقدمة
كان يُنظر إلى وجود طرق التجارة العالمية وعملها لسنوات عديدة كأمر مفروغ منه في معظم البحوث. في السنوات الأخيرة، تزايدت الاضطرابات في سلاسل التوريد، ومنها وباء كورونا وحصار قناة السويس نتيجة جنوح سفينة غيفن إيفر أو هجمات القراصنة. لكن كما يتبين في المقال الأخير لـِ “يغال ماور ويوفال أيالون” تم فهم هذه الاضطرابات على أنها أحداث “البجعة السوداء” التي لا يمكن توقعها، لأن أسبابها متنوعة وتصادفية. لكن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر التي فرضت على جزء كبير من التجارة العالمية أن يغير مساره ويدور حول أفريقيا في طريق طويل بين الغرب والشرق، يقود إلى العودة إلى سؤال ما إذا كانت هذه مجرد حلقات غير متوقعة أم أن تشويش النقل والتواصل بين الدول والقارات قد يكون نتاج التحركات المحسوبة كجزء من الاستراتيجيات الجيوسياسية، والتي يمكن بالتأكيد التنبؤ بها مسبقاً.
خلال سنوات ذروة العولمة، تم فتح طرق التجارة وتم توقيع العديد من الاتفاقيات بين الدول، مما فتح حقبة غير مسبوقة في نطاق التجارة والربط الدولي. ولكن كما سنعرضها أدناه، يبدو أن هذه الفترة على وشك الانتهاء وممرات التجارية الرئيسية – بدلاً من أن تربط بين البلدان تتحول إلى مكان الصراع المركزي بينها. هذه الساحة تشتعل في بعض الأحيان، كما يحدث الآن مع هجمات الحوثيين، ولكن هذا ليس سوى غيض من فيض.
هذا المقال يكشف كيف تستثمر القوى المختلفة موارد هائلة في تنمية البنية التحتية التي ستعزز سيطرتها على طرق التجارة الدولية الكبيرة، سواء لضمان أمنهم التجاري وامن شركائهم أو إثبات قدرتهم على تهديد منافسيهم. كما سيتم الإيضاح، هذا نمط نموذجي للصراع البارد، استراتيجية لإسقاط قوة على دول أو تكتلات جيوسياسية مطلوب منها أن تشارك فيه كلما تعاظم الاستقطاب بينها. لهذه العملية تأثير ذو أهمية كبيرة بالنسبة لإسرائيل، بسبب تعاظمها في المجال البحري الذي يحدها وكونه شرياناً تجارياً وموصلا مهماً لها. هذا المقال هو استمرار لجهود بحثية حديثة في إسرائيل في مجال الجغرافيا السياسية للبنية التحتية للطاقة والنقل البحري ودراسة كيفية تأثير ذلك على الإستراتيجية الجغرافية الإسرائيلية.
تبدأ المقالة بوضع الأسس النظرية لما سيتم تعريفه “منافسة البنية التحتية”. أدناه عرض موجز للنظرية في وصف المنافسة على البنية التحتية بين الصين والكتلة الأورو/آسيوية الناشئة وبين الولايات المتحدة ودول القوس الهندي الباسيفيكي المحيط بالصين. وفي الفصل الثالث مراجعة متعمقة لمنافسة البنية التحتية في البحر الأحمر بين القوى العظمى والعديد من الدول ذات المصالح المتنوعة، بدءاً بالولايات المتحدة والصين والإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، إيران، تركيا، قطر والاتحاد الأوروبي والهند وروسيا. في الفصل الختامي تطرح اتجاهات فكرية فيما يتعلق بتعامل إسرائيل المراد مع هذه العمليات على جبهتها الجنوبية.
دوافع المنافسة في البنية التحتية وخصائصها
التبعية الاقتصادية المطلقة للدول الحديثة في حركة التجارة بين الدول وبين القارات تشكل نقطة ضعف وتجذب منافسيها لتهديد طرق تحركها. بما أن جزءاً كبيراً من أهم طرق التجارة في العالم يمر عبر “نقاط الاختناق” – وهي المضائق التي تشهد حركة مرور في معابر مائية ضيقة مسيطر عليها من جميع الجهات – فإن هذا يخلق منافسة واضحة بشأن السيطرة عليها.
حَجْب طريق النقل الرئيسي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، والحد من المعروض من المنتجات وفي الحالات القصوى حتى أزمة اقتصادية، إلا إذا عرفت القوة المهددة أن تجد طريقاً بديلاً وآمناً من التهديدات. ولهذا السبب، فإن القوى التي تشهد مواجهات باردة تضطر إلى التصرف بطريقة لعبة شطرنج متطورة تجمع بين تقوية وتحصين الممرات المطلوبة لها، وإبراز القوة والاحتواء للخصم من جميع الجهات مع إحكام قبضتها على “أنابيب الأكسجين” التي يتنفس منها لكي تحولها إلى نقاط اختناق في لحظة الحقيقة.
إعادة تشكيل مجال الحركة العالمية – بشكل أساسي للسلع والاتصالات – مع تهديد الاتصال والترابط بين الدول (التي أسست عصر العولمة) تخلق نظاماً مكانياً عالمياً من نوع جديد، إقليمي تبلور فيه الكتل الكبرى للدول المتجاورة استقلالية داخل نفسها بمعزل عن الآخرين. لإقليمية تتعزز خصوصاً بسبب التوترات المتزايدة بين الكتلتين المتنافستين الصين والولايات المتحدة. يتم تنظيم الكتل تدريجياً حول مساحات واسعة، حتى لو كانت العمليات مليئة بالتناقضات الداخلية وليس داخل حدود مطلقة.
الكتلة المتميزة والراسخة والأكثر استقرارا هي الكتلة الأطلسية – أوروبا والولايات المتحدة -، الكتلة الأخرى التي شهدت توحيداً ملحوظاً في العقد الماضي هي منطقة الأورو/آسيا، التي تحيط بالصين وتربط روسيا وإيران وبعض دول آسيا والشرق الأوسط.
وأخيراً، كرد على نمو الكتلة الأورو/آسيوية تتشكل كتلة جديدة (تعتبر حدودها الأكثر غموضا) – كتلة منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتتكون من الهند واليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا، وتزيد شراكتها مع الولايات المتحدة.
تطور الكتل، على الرغم من الخلافات وحتى التوترات بين الدول الشريكة، ينبع في نواح كثيرة من الاهتمام بإنشاء مسارات آمنة للتجارة والاتصال في ملعبها الداخلي المسيطر عليه والعكس صحيح، فتخطيط شبكات البنية التحتية يشكل حوله الكتل.
الأدبيات الجيو/سياسية التي تتناول التقاطع بين تطوير البنية التحتية من قبل القوى العظمى وطرق التجارة ونقاط الاختناق ليست واسعة النطاق، ولم يتم بعد اقتراح نموذج شامل يحدد الدوافع ومجموعة الأساليب المستخدمة في المنافسة بين القوى.
على سبيل المثال، المناقشة المستفيضة القائمة بشأن البنية التحتية التي تطورها الصين في جميع أنحاء آسيا لا تتناول ممارسة المنظمات الوكيلة في الدول الفاشلة كأسلوب تهديد للممر، العكس بالعكس، البحث في المنظمات الوكيلة لا يولي سوى القليل من الاهتمام لدورها في منافسة البنية التحتية بين القوى. ولذلك، نقترح هنا نموذجاً يستند على العلاقة بين الظواهر، كل منها مضاءٌ عليها على حدة في الأدبيات، وتم التحقق منها باستخدام دراسة الحالة في البحر الأحمر.
من الظواهر الموصوفة في الأدبيات يمكن التحديد أن المنافسة تجمع بين مستويين – البنية التحتية المادية والتنظيم أو التحالف – كل منها يتكون من عدة مكونات مكملة. كلتا الطبقتين تخصان في نفس الوقت تعزيز سيطرة القوة على المسار وحمايته وبناء قدرته على تهديد الطرق المنافسة. الطبقة الأولى هي طبقة البنية التحتية المادية والمكون الأول فيها هو البنية التحتية المدنية. يجب أن توسع القوة العظمى بشكل مضطرد استثماراتها في تطوير البنية التحتية في البلدان الأجنبية، من خلال التمويل (الاستثمار أو القروض) أو إنشائها. هذا استثمار في البنية التحتية للنقل – الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب، القنوات والموانئ وما إلى ذلك ولكن أيضاً في البنى التحتية الأخرى على سبيل المثال الاتصالات والسدود وخطوط الكهرباء أو في مشاريع مكملة (التدريب، البحث، الخ)، وهكذا ينشأ الاعتماد ويزداد التعاون مع القوى الممولة أو المطورة.
عدا عن ذلك، إنشاء البنية التحتية غالباً ما يكون بمثابة فرصة لدخول الدولة العظمى (عن طريق الشركات الخاصة أو الحكومية) كمشغل أو مشرف أو شريك فيها، وبالتالي مضمون تعميق سيطرتها على الحركة في الممر. قد تكون البنية التحتية المدنية ضرورية لتأسيس طريق عابر للقارات (على سبيل المثال ميناء أو سكة حديدية)، أو بدلاً من ذلك بنية تحتية لا ترتبط مباشرة بالمسار (مثل الاستثمار في مناطق صناعية او محطات طاقة.
الاستثمار في البنية تحتية من هذا النوع قد يبدو غير مرتبط بمنافسة البنى التحتية، ولكن في الواقع في كثير من الحالات يكون هناك صلة وثيقة بينهما. استثمار دولة عظمى في أي نوع من البنية التحتية في بلد معين أيضاً يعزز العلاقات والاعتماد ومن بين ذلك، يمهد الطريق أيضاً لتطوير البنية التحتية الضرورية في المستقبل، وبالتالي فإن القوى في سباق متزايد للاستثمار في الدول التي تتمتع بموقع استراتيجي على كافة الأصعدة في مجالات البنية التحتية المدنية.
من المهم أن نلاحظ أن بعض البنى التحتية قيد الإنشاء هي بالفعل بنى تحتية التفافية، أي البنى التحتية التي تشق الممرات البديلة التي تتجاوز المسار (المحتمل) المهدد وضمان استمرارية النقل حتى لو كان الطريق تحت الحصار، تشمل بنية تحتية كهذه، السكك الحديدية وخطوط الأنابيب والطرق أو الكابلات الموضوعة على الأرض والطرق العابرة عبر الدول الصديقة.
المكون الثاني من طبقة البنية التحتية المادية هو البنية التحتية العسكرية. للتهديد وفي نفس الوقت الدفاع بشكل فعال يجب وضع تدابير الدفاع والهجوم في نقطة الاختناق (على سبيل المثال قاذفات الصواريخ أو الطائرات بدون طيار) في المواقع التي توفر السيطرة على المنطقة؛ وللدفاع عن هذه المواقع وعن الطريق من هجمات العدو يجب وضع وحدات عسكرية قادرة على القيام بنشاط دفاعي أو هجومي في المنطقة المهددة طيلة الوقت. سواء كانت هذه الوحدات العسكرية بحرية وجوية أو برية، مطلوب بنية تحتية عسكرية في انتشار واسع النطاق في جميع أنحاء منطقة التهديد، والتي تشمل الموانئ والقواعد والمرافق اللوجستية، والمحطات والقاذفات ومرافق الاتصالات والحرب الإلكترونية وما إلى ذلك.
أما الطبقة التنظيمية فتتعامل مع طبيعة العلاقة بين القوة العظمى والدولة التي تقع في موقع استراتيجي، والمكون الأول فيها يتعلق باتفاقيات رسمية أو غير رسمية بينهما. اقامة البنية التحتية، المدنية أو العسكرية، تعتمد في المقام الأول في الاتفاق وتنظيم العلاقات بين الدولة المؤسسة والدولة المستضيفة للقاعدة أو هي “دولة عبور” للبنية التحتية ما يعكس بدوره على شبكة معقدة من التحالفات بشكل خاص. ً
وترى البلدان الصغيرة في ذلك فرصة ذهبية لتحصيل الإيجارات وجذب الاستثمارات والدعم من القوة المعنية. إلى جانب إنشاء البنى التحتية التي ستخدم السكان أيضاً. التجاوب مع إقامة البنى التحتية غالباً ما يجمع بين فوائد غير عادية، بما في ذلك مشاريع المساعدات والتنمية التكميلية والإقراض والاتفاقيات التجارية والتوسع في العلاقات الاقتصادية مع القوى العظمى، وبالطبع صفقات الأسلحة والتحالفات العسكرية التي ترغب فيها العديد من الدول.
الموافقة على استضافة قاعدة قوة أجنبية أو السماح لها باستخدام البنية التحتية القائمة تجلب قدراتها الدفاعية معها. ومن ناحية أخرى، في صفقة مثل هذه تعرض القوى نفسها لمخاطرة كبيرة عند اتخاذها الموقف ضد القوى المنافسة، مما قد يؤدي إلى الضغوط من جانبها أو حتى الإدانة أو المقاطعة أو الانتقام العسكري.
أما العنصر الثاني في مستوى النظام فيتعلق بالمواقف التي تواجه القوة العظمى فيها صعوبة في التوصل إلى تسوية أو تحالف مُرضي. وفي مثل هذه الحالات، قد تختار السلطة تولي زمام الأمور العسكرية على نقاط الاختناق. او دعم الجماعات المتمردة لهذا الغرض.
عندما تمتنع الدولة عن السماح بإنشاء بنية تحتية لأي قوة، يظهر حافز الأخيرة على “الإثارة” في العلاقات الداخلية في البلاد ودعم أحزاب المعارضة أو محاولات الانقلاب الذي سيسمح لها بالحصول على موطئ قدم في النقطة الاستراتيجية. في بعض الأحيان تتوقع القوة تأهيل نظام أكثر ودية وأحياناً، خصوصاً في الدول الفاشلة التي تجد صعوبة في تطبيق السيادة على أراضيها، يتم إنشاء منظمات وكيلة تعمل كقوة عسكرية في الخدمة غير المباشرة للقوة العظمى. في هذا النوع النظري لا نية لتمثيل كل واحدة من المبادرات كما لو أن غرضها الوحيد يتعلق بالتحكم في المسارات. قد ينبع استثمار الدولة في البنية التحتية من المصالح الاقتصادية البحتة، أو بدلاً من ذلك، دور البنية التحتية أو الترتيبات تهدف إلى تأسيس نفوذ في البلد المضيف، ولكن ليس فقط نظراً لموقعها على المسار، بل لأهداف إضافية (على سبيل المثال الحصول على عقود استخراج الموارد). مع ذلك، مسألة السيطرة حول نقاط الاختناق تصبح أحد المكونات الأكثر أهمية في الجغرافيا السياسية المعاصرة مع دافع مركزي لتطوير البنية التحتية من قبل القوى.
سنوضح في الفصل المقبل بإيجاز كيف يتم تطبيق هذه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ الهندي، كجزء من التوترات المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة وشركائها.