فضاءات فكرية

ما بينَ الجِهادين الأكبر والأصغر وضرورة تظهير الدّين كمعنى وغاية إنسانية

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

ومعظم الآيات “الجهادية” – إذا صح التعبير – جاءت في السور المدنية، بما يشير إلى أهمية هذا الموضوع في الإسلام، ولما يترتبُ على إقامة الجهاد من تحقيق مقاصد الشريعة إيجاداً وحفظاً.

والجهاد هو: المبالغة واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أَو فعل، يقول تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ (الحج: 78).

ولفظ (الجهاد) في أصله اللغوي يدل على المشقة، يقال: جهدتُ نفسي، وأجهدتها، أي: حملتها من المشاق والمعاناة على غير عادتها، وبما قد لا تحتمله. و(الجُهد) بالضم: الطاقة، و(الجَهد) بالفتح: المشقة. ويقال: إنّ (المجهود): اللبن الذي أُخرج زبده، ولا يكاد ذلك يكون إلا بمشقة ونصب. و(الجهاد): الأرضُ الصلبة. ويُقال: فلانٌ يجهد الطعام: إذا حمل عليه بالأكل الكثير الشديد. وجُهِدَ الرجل فهو مجهود من المشقة. والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة، وتحمل المشقة في العبادة.

وأما المعاني التي وردت في القرآن الكريم – فيما يخص مصطلح ومفهوم الجهاد – فكانت على ثلاثة أقسام:

الأول: الجهاد بالقول والعقل واللسان، من ذلك قوله: ﴿وجاهدهم به جهاداً كبيرا﴾ (الفرقان: 52).. وهو جهاد الحجة والبرهان، ويقال إنه مقدم على جهاد السيف والقوة المادية.

الثاني: الجهاد بالقوة والسيف، ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما﴾(النساء:95)، ويقصد بالجهاد هنا مجاهدة الكفار في ساحات القتال، بدليل قوله تعالى: ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾..

الثالث: الجِهاد بالعمل الصّالح، كما في قوله تعالى: ﴿ومن جاهدَ فإنّما يجاهدُ لنفسِه﴾ (العنكبوت: 6)، أي: من عَمِلَ صالحاً، فإنما يعودُ نفعُ عمله على نفسه، فإنّ اللهَ غنيٌّ عن أفعالِ العباد. ونحو هذا، كما في قوله عز وجل: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ (العنكبوت: 69).

واختصاراً تحدث الراغب الأصفهاني في كتابه “المفردات” عن أن للجهاد ثلاثة أضرب، هي: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس. وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: ﴿وجاهدوا في الله حق جهاده﴾ (الحج: 78).

طبعاً هذه المعاني السابقة للجهاد – والتي هي تحمل إفادات ومحددات تاريخية، حيث ذكرها الأئمة، وتوسع فيها الكثير من علماء الدين ومفسريه – تغيّرت مع التاريخ وتقادم الأيام لجهة مظاهر الجهاد لا مضمونه العملي، وتركزت المسألة على سياق جوهري هو الاستعداد والتهيئة، وبناء مواقع القوة المادية أولاً في الأمة على الصعيد العلمي والاقتصادي والسياسي وغيرها.. إذ ما الفائدة من الجهاد (وهو بالأساس جهاد ابتدائي دفاعي لرد المعتدين) ما لم تتوفر للأمة مقومات القوة والصمود والقدرة على تغيير معادلات القوة التي حكمت وتحكم العالم، وهي بمعظمها معادلات المصالح وانتهاك حقوق الضعفاء واستباحة حرمات الأمم الضعيفة وأكل حقوق الشعوب الفقيرة، وغيرها..؟!.. وهنا يأتي مفهوم “الجهاد الأكبر” الذي هو جهاد النفس والبناء الروحي والمادي لها، في سياق عملية الاستعداد والتهيئة والتجهيز.. وعن هذا المفهوم – المصطلح يروي بعض الصوفية أن الرسول الكريم(ص) كان إذا قفل من غزاة قال: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر“.. وهو جهاد البناء الروحي والعملي (العلمي وغير العلمي) للمسلم؛ بما يؤدي إلى تقويم النفس وتطهيرها، وإعدادها للرقابة على أعمالها، والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة، واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم، وتحتمل كل ما يحملها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق، وحتى يجتمع الناس على شرع لا تفرقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء، ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة، ويسعدها في معايشها.. إنه الجهادُ الذي يُعنى بأحوالِ الأمة في كل مواقعها؛ ليربيها على قيم الحق والخير والإنسانية، ليبنيها على قاعدة الخلق القويم، ويردها جماعة صالحة متآخية تجمعها المودة والاستقامة، ويعدلُ بينها الإنصاف والعدل، تلقى الخير والشر بقلوبٍ موحدة، وعزائم مجتمعة، وآراء مُتناصِرة..

والمشكلةُ في موضوع الجهاد – في كل مسيرته التاريخية فكراً وعملاً – كانت تتجلى (خصوصاً في أيامنا هذه) في طبيعة الفهم الخاطئ له، في بنيته الفكرية ومقتضيات أحكامه وتطبيقاته العملية (اجتهادات كثيرة متضاربة حوله).. ليكتسب (مفهوم الجهاد حالياً) معنىً يدور فقط حول “العنف المسلّح” الممارَس باسم المبادئ والعقيدة الإسلاميّة في الدفاع عنها وتركيزها وتحصينها، وقتل أعدائها ومن يكفر بها.. وهذا ما فتح المجال واسعاً لاشتعال التطرف الديني، حيث اعتقدت وتبنت الكثير من جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي مقاربة واحدة في مضمونها العقدي لمفهوم الجهاد وهو القتال ومجاهدة الكفار والمشركين، وكل من يقف في طريقهم لتطبيق الشريعة، وبناء أسس الخلافة الإسلامية، حيث وظّفوا الدين (وفكرة الجهاد) ليس لبناء الذات ومراقبتها، والعمل على ضبطها بالأخلاق والقيم والمبادئ الإسلامية الإنسانية، وتخليصها من العصبية والنوازع الشريرة، ورفض الآخر، وبناء المشتركات الإنسانية، بل وظفوه فقط في القوة والقتال وإشهار سيف الجهاد في وجه القريب قبل الغريب، فاندلعت المعارك والفتن واشتعلت الصراعات في كل حدب وصوب من هذه الأمة، ليحل الجهاد الأصغر – عند هذه الجماعات المتطرفة – محل الجهاد الأكبر، حيث مني الجميع بالتراجع العام عن الحضارة والمدنية وبناء دول العدل والقانون والمؤسسات؛ مع أن أساس هذه العملية كلها هو الجهاد الأكبر المتمحور حول إصلاح الفرد في وعيه وعقله ومسؤوليته، لأنه نواة إصلاح المجتمع الذي به تقوم الدولة وتنهض، أما إذا تُرك أفرادها ولم يُأبه لهم، وتم التعامل معهم كأنهم بلا قيمة تدمرت المجتمعات وانهارت البلدان.

طبعاً نحن وإن كنا نعتبر أن الفهم الخاطئ لمفهوم الجهاد، هو أحد أسباب نشوء التطرف، كناحية ذاتية في بنية الوعي القاصر لمفهوم الدين ككل لدى كثير من أتباع تلك الجماعات، ولكن علينا بالمقابل ألا نغض النظر عن أسباب ودوافع أخرى، أسهمت بقوة في تفجير التطرف خصوصاً لدى فئة الشباب في هذه الأمة، فالاستبعاد والتهميش وسياسات التجهيل، وممارسات الاستبداد والقمع، وعدم إيجاد حلول ومعالجات جدية لمشكلات التنمية والسياسة والاقتصاد، كلها اجتمعت مع ذلك القصور الفكري والعقلي، لتفجر التطرف الدين في كثير من مواقع هذه الأمة.. الأمر الذي أنتج لنا انقسامات اجتماعية واستقطابات طائفية حادة، تنفجر في وجه مجتمعاتنا بين كل وقت وآخر، على شكل اقتتالات وانتهاكات ومجازر دموية متنقلة يقتل فيها الأبرياء وتنتهك الأعراض وتحرق البيوت وتنهب الممتلكات وووإلخ.. وهذا هو فهمهم الوحيد، وهو فهم عقائدي راسخ بطبيعة الحال، لفكرة ومفهوم الجهاد نفسه.. إنه فكر وثقافة غزو وسلب ونهب وحرب وغنائم ومقاتل ودماء.. ونسيت أو تناست لك الجماعات والتنظيمات أنّ للجهاد أسسه وظروفه وأنواعه ودوافعه وموضوعاته وأشكاله ومرتكزاته ومبانيه وأحكامه الفقهية. وهو بالأساس جهاد دفاعي بدئي وقائي، لا هجومي قتالي، فقدّمت الدين كله للآخر على أساس أنه دين الغزوات الحربية، ودين السيف البتّار، دين القوة وأسلمة الناس تحت حدّ الحراب والسيوف.

إنه إذاً الانغلاق على الذات المبجّلة، وعلى ما تختزنه من أفكار قواميس “اللاهوت السياسي الإسلامي” العتيق (إذا جاز التعبير)، الذي أفرز تأويلات سياسية جهادية، كان يتمّ اجترارها بين وقت وآخر بلا أدنى مراجعة ومساءلة فكرية لتلك التنظيرات والخطابات والشروحات العائدة لسيد قطب، وأبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي، وغيرهم من مرجعيات الإسلام السياسي الحركي، حتى وصلت مجتمعاتنا إلى هذه الحالة المرضيّة من الشحن المذهبي والتعبئة الروحية والتشبّع العاطفي بأفكار هؤلاء، حيث الثقافة الخاصة، ثقافة الجماعة أو الحزب أو الفئة.. حيث كان القاسم المشترك بين كلّ هذه التيارات والجماعات، التي خرج رموزها من رحم هزائم القومية واليسار العربي عموماً، هو تشرّبها بثقافة الجهاد والقوة والعنف، وإهمالها لثقافة السلم والتسامح والأمان المجتمعي.

وأما عن العلاج.. فحقيقة لن نصل إلى نتيجة عقلانية مع ذلك الفهم والسلوك العدمي العنفي.. حيث ستتكرر تلك المآسي الناجمة عن عقلية التطرف الأعمى القائم على العنف والإبادة ورفض الآخر، فقط لأنه مختلف ومغاير.. ويمكن أن نصل فقط إلى بر الأمان – في موضوع العلاج – عندما نشخص أساس وجذر المشكلة – الأزمة العميقة.

ولا شك بأن العلاج سيطول أمده، فالعلم وتزكية النفس وبناء مجتمعات الحقوق والتنمية المستدامة، وإعادة بث التوعية الحقيقية لمعنى الدين في النفوس، ومكافحة المفاهيم الخاطئة في الدين (في المدونات الفقهية التاريخية العتيقة الحافلة بشتى نصوص التطرف والتعصب وفتاوى القتل والاستباحة)، كلها أمور لن تكون تحت اليد فوراً، بل هي عمل وفكر وسلوك شامل وطويل الأمد، يجب أن يتصدى له، ويقوم به الجميع من العلماء الواعين الوسطيين، ونخب العقل والتفكير العقلاني والاعتدال الفكري والعلمي في هذه الأمة، يتحرك جنباً إلى جنب تطبيق نصوص العدالة وقوانينها ضد أتباع تلك العقليات المريضة.. والحاجة الأهم والأقرب – على صعيد العلاج – التوفر على آليات عمل تفضي إلى بناء دول قانون وعدل ومواطنة متساوية، لا دول عنف وجهاد وحروب مستمرة.. فالدول لا تُبنى على عصبيات حربية، لأن هذا يعرضها للانزلاق بسهولة إلى الإقصائية والفاشية.. بل هي تُبنى – لتنعدلَ وتدوم – على قواعد السياسة العقلانية التي عمادها المواطن الحرّ السليم المعافى في حياته كافة؛ يعيش مع الجميع (حتى مع المختلفين عنه) تحت سقف دولة القانون والمواطنة والتعايش السلمي الحافظة والضامنة للخصوصيات والاختلافات.. وهذه وحدها الدولة الطبيعية التي تحمي وتبني وتطور وتزدهر، وتطوي دولة القلق والأزمات، وتعمل على بناء أمن وأمان حقيقي مستدام بعيداً عن التطرف والصراعات خاصة منها تلك التي نشأت في الماضي البعيد الذي يجب أن يُنظر إليه في حالتين فقط: أخْذُ العبرة، وكَسْبُ الخبرة، لكي يكون إنساننا (ومواطننا) إنساناً بمعنى الكلمة..!!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *