مرةً أخرى مع التّنميةُ العَربيّةُ في أبْرزِ مُشكِلاتِها وتَحدّياتِها
نبيل علي صالح كاتب وباحث سوري
قطعتْ كثيرٌ من الدول العربية أشواطاً نوعية ومهمة بعيدة في إنجاز كثير من معالم التنمية المستدامة ومتطلباتها الأساسية على صعيد الوصول إلى مواردها وقدراتها، وتأمين حاجات مواطنيها، وتأهيل كوادرها بمعايير علمية رصينة، وتركيز بناها التحتية الرئيسية؛ بما انعكسَ رفاهيةً وسعادة على أبنائها، خاصّة منها الدول الخليجية..
ولكن على الرغم من ذلك النجاح البارز والحيوي – على صعيد تأسيس البنى التحتية والتوسع فيها، وارتفاع مؤشرات التنمية في مجالات الصحة والتعليم، وتزايد متوسط نصيب دخل الفرد، وارتفاع معدلات نمو الناتج المحلي، وجذب الرساميل والاستثمارات، وغيرها – لا زالت هناكَ مشكلات وتحديات عديدة تعاني منها اقتصادات تلك الدول على هذا الصعيد التنموي بالذات، تجعلها بعيدة نسبياً عن استكمال مسيرة التنمية، ومنها عودة أجواء الاهتزازات الأمنية وهيمنة منطق اللا استقرار السياسي على المنطقة ككل، وتفجُّر الصراعات الداخلية والخارجية في عدة بلدان عربية، وبقاء التهديدات الإقليمية والدولية مع ما تختزنه من مشاريع وأجندات خاصة مربكة، مضافاً إليه، انخفاض معدلات التشغيل، وعدم الاستثمار الفاعل والمنتج في الأراضي، وتهالك مواقع ومستويات البحث العلمي العربي، وعدم تأسيس بنية معرفية علمية راسخة وقوية ورصينة له في جامعاتنا العربية إلى وقتنا هذا.
وبطبيعة الحال، هذه المشكلاتُ والتحدياتُ التنموية (السياسية والاقتصادية) لا يمكن أن تُعالج بصورة إفرادية، بحيث تتصدى له كل دولة على حِدا، أي على نحو تقوم كل دولة بممارسة مهمتها ووظيفتها على هذا الصعيد، بل لا بد من وجود مساعدة أو تعاون جدي كبير بين الدول العربية الأخرى؛ لأنّ الصراعات التي تشتعل وتتفجّر بين وقتٍ وآخر في بعض بلداننا العربية، لا تؤثر فقط عليها، بل على كل البلدان الأخرى.. ولهذا يجب التأكيد هنا أن تخفيف أجواء التوتر السياسي، والعمل على إعادة الاستقرار الداخلي إلى البلدان العربية، هو شرط لازم وأكثر من ضروري وحيوي لإقلاع التنمية في كل البلدان، وليس فقط في بلد محدد بذاته هنا أو هناك.
نتحدث هنا عن مشكلة واحدة فقط من مشكلات التنمية وتحدياتها المتعددة، ولنا في أمثلة حاضرة أمامنا خير دليل على ذلك، إذ أن الصراعات التي اندلعت في كل من سوريا واليمن والعراق ولبنان وليبيا والسودان، والحروب المتنقلة بين بعض دول المنطقة، أثّرتْ كثيراً وبصورة سلبية كبيرة على بقية الدول العربية حتى في موضوعة التنمية ذاتها، لأنها تسببتْ بخلق تناقضات سياسية ومجتمعية نابذة للأعمال والمشروعات والاستثمارات الاقتصادية، كما أدت إلى إحداث مزيد من الاستنزاف في الموارد والثروات والأموال، وهو واقع طالها كما طال الجميع بلا أدنى شك، وبخاصة دول الخليج التي تحمّلت الفاتورة الأكبر على صعيد محاولتها ضبط ومواجهة تلك الصراعات ومحاولة منع توسّعها وامتدادها، ودعم المجتمعات المحلية، ومحاولة إنهاضها وتحقيق تعافيها المبكر.. ولكن للأسف كانت إرادات الإعاقة والمنع الإقليمية أكبر منها حتى هذه اللحظة..!!.
ولا شك بأنه، إذا نظرنا للمسألة من الزاوية الأشمل، وبعيداً عن مزيدٍ من التنظير في المسألة الاقتصادية العربية، ومحاولات إيجاد حلول لمشكلاتها – وضرورة مواجهة تحدياتها – في مجتمعاتنا، فإنه لا يمكن أيضاً السير المتوازن في طريق التنمية الصحيح، والتخلص من معيقاتها المحلية، من دون وجود نظام معرفي قيمي عملي، يمكنه دفع وتحريض وتحفيز أجمل وأرقى ما في داخل الفرد العربي من طاقات ومواهب وقدرات، هي بالأساس مختزَنة وكامنة في داخله دونما تفعيل واستثمار حقيقي، حيث أن الفرد صاحب المهارة، هو أساس العملية التنموية وجوهرها.. والإنسان العربي لا شك يمتلك قابليات وإمكانات خلاقة إذا ما تمت رعايتها وتنميتها، ومن ثم استثمارها وتفعيلها على طريق العمل والبناء والتطوير بعد معرفتها ووعيها من الداخل أولاً، وثانياً بعد خلق الأجواء المجتمعية المؤسسية الملائمة لنموها وتكاملها على مستوى الخارج والفعل العملي التجريبي.
ونحن عندما نتحدثُ هنا عن التنمية نعني بها بدايةً – وبالعنوان الأولي – تنمية الفرد (المواطن)، وتنظيم مهاراته، باعتباره حجر الزاوية في بناء وتطوير ومن ثم تنمية أي مجتمع، إذ لا يمكن لأي بلد أن ينمو ويتنامى ويتقدم على طريق الرقي الحضاري العلمي والتقني من دون تنمية أفراده ثقافياً وعلمياً ومعرفياً، وهذا شرط أساسي لازم، وكذلك العمل أيضاً على رفع مستوياتهم المعيشية ودخولهم النقدية عبر زيادة إنتاجية الفرد من خلال تهيئة وبناء مختلف قطاعات الدولة لخدمة وإنجاز ذلك الهدف الكبير.
نعم، الإنسان هو الفاعل الأساسي في الموضوع الاقتصادي التنموي في طبيعة الفكر والمعرفة التي تسيطر عليه، ومناهج العمل التي يتحرك في ضوئها، والإمكانات والمواهب التي يحوز عليها، وأيضاً البنية التشريعية والقانونية والتربة السياسية يمارس دوره وواجبه وبرنامجه الاقتصادي من خلالها.
ولهذا مهما نظّرنا للاقتصاد ولمدارسه ونماذجه ولوسائله وأدواته، يبقى الأهم من ذلك كله وجود الفاعل الاقتصادي القادر على التحفيز والعطاء والاستثمار.
والتنمية أيضاً لا تعمل من دون علم ومهارات علمية، ولا تنطلق من دون خطط وبرامج عمل وأدوات تطبيق، مع زيادة سريعة تراكمية ودائمة عبر فترات من الزمن في الإنتاج والخدمات.. والتنمية أيضاً لا تعمل من دون الاستخدام الأمثل للإمكانيات والموارد الطبيعية والبشرية المتاحة بهدف تحقيق أقصى قدر ممكن من المنفعة بأقل التكاليف.. ولكن الأهم من ذلك، وجود المناخ السياسي القائم على المداولة والمساءلة والنقد والحريات، مع وجود نظام قضائي أو سلطة قضائية مستقلة.. فهل يتوفر هذا كله في اجتماعنا العربي اليوم؟!!.. وهل هناك دول مؤسساتية عربية تتوافر فيها تلك المقومات اللازمة للتمكين الاقتصادي؟..
حتى اليوم بلداننا العربية جرّبت كثيراً من نظريات الاقتصاد القديم والحديث.. بمعنى ظلت تطبيقاتها الاقتصادية تعيشُ المعاناة والمشكلات كما قلنا.. نعم، نجح بعضها في تهيئة بنى تحتية – تشريعية وغير تشريعية – لجذب الاستثمارات الضخمة، ولكنها لم تتمكن من القبض على أسس الاقتصاد القوي الصحيح، بل بقيت اقتصاداتها ضعيفة وتابعة للآخر الأقوى؛ وتحولت تلك الاستثمارات إلى استثمارات بذخية ادخارية غير صناعية وغير علمية.. كما أن الاعتماد الكامل على النفط، (حيث يستحوذ استخراج النفط وحده في بلد مهم مثل السعودية على نسبة تقدر بــحوالي 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي)، أدى – في ظل تذبذب الأسعار وعدم ثباتها – إلى إحداث خلل واضح في العملية التنموية، خصوصاً مع تقلبات الإيرادات المفترض أنها العامل الأهم لاستمرارية الفعل التنموي خصوصاً وأنه كان في بداياته الأولى…
وهذا في الواقع يستوجبُ من مسؤولي تلك الدول البدء بالخروج من فخّ النفط، أو مصيدته، من خلال تنويع الإنتاج والاقتصاد الإنتاجي، والتوسع في استثمار فائض المال المتراكم، أي زيادة فاعليته الإنتاجية العلمية والتقنية، مع ضرورة بناء أوسع وأعمق العلاقات مع ما يسمى بسلاسل الاقتصادات الإنتاجية العالمية.. وقبل ذلك ينبغي تخفيف وإزالة أجواء الاحتقان والتوتر السياسي مع البلدان المحيطة، (وهذا ما لاحظناه خلال السنتين الأخيرتين).. فهذه كلها شروط ومستلزمات تسريع النهوض التنموي وتكامل مسيرته لرفع معدلات نمو النواتج المحلية لتلك البلدان، بما يؤدي في النهاية لزيادة الناتج المحلي للفرد، ورفع سويته المعيشية لمعدلات أعلى وأرفع رفاهية وسعادة، لكل السكان أو لغالبيتهم..
نتحدث هنا عن الدول العربية الميسورة مادياً، فما بالك بتلك الدول المتعسّرة مادياً التي تفتقر للأموال، وتعاني من ضعف معدلات النمو، ومن انخفاض الاستثمار، والتخلف التكنولوجي، وشيوع الفقر والبطالة، وهيمنة أجواء الاستقطاب السياسي، سواء فيها أو في محيطها وأطرافها..!!. بما أنتج أمامنا تشوهات عميقة ومزمنة في سياسات تلبية احتياجات الطلب المحلي، التي تميل إلى تفضيل الاستيراد على إقامة طاقات إنتاجية جديدة.
إننا نعتقد أنه وحتى تكسب الناس وتحشدهم إيجاباً على طريق التنمية والتطور، وتفعّل دورها وتحولها لفواعل منتجة ومؤثرة، وتربح ولاءها وتستثمرها جيداً، فإنه عليك احترامها وتقديرها وتأمين متطلباتها، ومعاملتها كذات حرّة، لا كرعية مستعبدة، وجعلها تشارك بوعي مسؤولية طوعية في القرار والمصير، حتى على مستوى الأسرة التي هي أصغر مؤسسة اجتماعية، بما يعني أنه لم يعد مقبولاً إطلاقاً التصرف مع أفراد الأسرة (وهكذا مع باقي أفراد المجتمع)، وكأنهم مجرد آلات أو أدوات لا حس ولا عقل ولا عاطفة لهم.. فهؤلاء لهم متطلبات واحتياجات يجبُ تلبيتها والاستجابة لمقتضياتها العملية، ولا يمكن كبتهم وقمع رغباتهم ومواجهة تحديات وجودهم؛ بل يجب أن يشاركوا ويكون لهم رأيهم وكلمتهم أيضاً، وأن يتعودوا ويعتادوا على تحمّل المسؤوليات وامتلاك وسائلها وأدواتها.. وإذا كان هذا مطلوباً على مستوى الأسرة، فما بالك على مستويات أعلى وأكبر، حيث الحاجة ماسة وملحة للاستثمار في تنمية يكونُ محورها الناس، تعزّزُ دمجَ حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في التنمية والإنتاج التشغيلي الفاعل، ومبادئ المشاركة الشعبية الحقيقية والمساءلة والشفافية وعدم التمييز، في أجندة التنمية بالذات.
نشير أخيراً إلى أنه في الدّول المتقدمة التي ازدهرت تنموياً وعلمياً واقتصادياً، وباتَ المواطن فيها الحجرَ الأساس والغاية الكبرى لأي تطور وازدهار (حيث يعطى ويُكرم ويعيش بضمانات حياتية حقيقية راهنة ومستقبلية فلا يخاف من قادمات أيامه)؛ في هكذا دول لم تتحقق التنمية إلا بالمشاركة الطوعية بناءً على أسس سياسية تعاقدية تداولية، حيث بنيت النظم والحكومات على قاعدة المشاركة، وليس على قاعدة الإقصاء والمنع.. بحيث يشعر عملياً مسؤولو تلك البلدان (الذين وضعتهم شعوبهم في مواقع المسؤولية والقرار) أنهم مجرد خدم للشعوب، ومنفذين لرؤيتها وتطلعاتها ومتطلباتها، وأنهم مدينون لها بكل شيء، وأنهم مسؤولون أمامها في محكمته الكبرى، محكمة الشعوب والتاريخ والمسؤولية؛ وأنهم في حال تأخروا أو فشلوا أو قصّروا – وهم يقصرون ويخطئون كما نعلم جميعاً فلا قدسية لأحد في الاجتماع البشري – عن خدمة مجتمعاتهم، وتقديم حلول ومعالجات جدية لأزماتها ومشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، فعليهم أن يُسألوا ويُحاسبوا أمامه.. فالشعوب وحدها هي القوة الكبرى (بعد الله) التي لا تقهر..
أيها المسؤولون العرب، يا من تتطلعون لتنمية مجتمعاتكم التي ما زالت تتعيش طفيلياً على منتجات واختراعات غيرها، انزلوا إلى الأرض، وانفتحوا على الناس.. وهي تقول وتسأل: متى ستحترمون أناسكم وشعوبكم؟!. أو بالأحرى: هل ستحترمونهم أساساً..؟!!!!..