فضاءات فكرية

الدّيمقراطية والشّورى والدّين مفاهيم ومصطلحات بسياقات مختلفة

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

هل يقبل الدين الفكر الديمقراطي بمعناه القائم على العلمنة والحرية والانتخابات الحرة والتداول السلمي للسلطة؟! وهل صحيح أنّ الديموقراطية هي أفضل آلية أو منهج “سياسي – اجتماعي” لنجاح الدول وازدهار المجتمعات وتطورها؟!.. وبالأساس هل تتناسب أو هل تصلح الديمقراطية لنا نحن العرب في ظل ما هو قائم ومتجذر في بنية مجتمعاتنا من مظاهر للقبلية والتقاليد المجتمعية التاريخية العتيقة والروابط العشائرية المتينة التي بات حيزٌ كبير منها أقوى وأرسخ وأصلب حتى من قيم الدين نفسه؟!..

ثم: لماذا نطرح الديمقراطية كأساس للتحول السياسي المنشود، ولا نطرح عوضاً عنها فكرة أو مفهوم الشورى الذي هو أقرب للذهنية والعقلية العربية المؤمنة بالدين وقيمه ومفاهيمه وأحكامه؟!..

أسئلة نطرحها حول إشكالية ما زالت تؤرق عقول كثير من المفكرين والساسة، فيما يتعلق بالبحث عن تشخيص الأمراض العربية ومحاولة إيجاد المعالجة والدواء لها.. وهي ليست تشكيكاً بأهمية التحولات الحالية في البلاد العربية، كما أنها ليس دفاعاً عن أشكال صورية غير ذات معنى من الديمقراطية التي كانت سائدة (وربما لا تزال) في بعض الدول العربية والمستندة على أشكال مزيفة من الديمقراطية النخبوية التي تختزن تحتها الاستبداد والتفرد بالسلطة وهيمنة الحزب الواحد المحمي بأجهزة وصائية شبه مقدسة..!!.

نقول بداية أن مفهومي الشورى والديمقراطية ينتميان إلى فضاءين وسياقين حضاريين وفكريين واجتماعيين مختلفين، على الرغم من أن الفكرة الأساسية فيهما تقوم على قاعدة منع تركّز السلطة بيد فرد أو جهة أو فئة أو جماعة بعينها، بما يمكن أن يؤدي إلى تفجر ثورات وحدوث حالة عدم استقرار واهتزاز سياسي ومجتمعي وغيره.. حيث يمكن مثلاً لمفهوم الشورى – وحتى مفهوم الاستخلاف والخلافة – أن يحقق بالإطار العام معنى الديمقراطية ذاتها، كما يمكنه أن يتحول إلى ديكتاتورية قبيحة وبغيضة تحت مسمى الشورى أو الخلافة.. يعني الأمر أو القضية بالأساس هي قضية ممارسة سلوكية سياسية واجتماعية.. بمعنى أن شكل الحكم وتسميته ليست مهمة كثيراً بقدر نوعية الحكم وممارسته المفترض أن تقوم على حالة توافق اجتماعي يعتبر هو بذاته مطلباً شرعياً مهما كانت التسمية التي يحملها، ويراد للناس أن تعمل وتتحرك في ظلها.. ولا شك بأن المسلمين قد عرفوا شكلاً للحكم السياسي مارسوا فيها تجربة السياسة انطلاقاً من تشريعاتهم وقوانينهم ومفاهيمهم عن الحكم التي نعتقد أنها قدمت للبشرية واحدة من أهم وأدق القوانين وأكثرها تفصيلاً على مستوى المعاملات والسياسات العملية الفردية والمجتمعية، كما أن الدساتير الكلية التي يحملها التشريع الإسلامي يستطيع الجميع أن يحملها عن قناعة واحترام وتوافق.. حتى أن كثيراً من تشريعات الحكم في الإسلام كانت تشريعات قانونية مدنية صيغت لاحتواء وقبول المختلفين عن المسلمين ضمن الفضاء الاجتماعي والسياسي الديني الإسلامي، وكانت تستهدي بالإطار العام الحكم الشرعي.

وفي أيامنا هذه نلاحظ أنه تم التلاعب بكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، في مفاهيمها وأفكارها والتحكم بمساراتها وسلوكياتها، فلم تتحقق الشورى، ولم تتحقق الديمقراطية.. ولم يتحقق التداول السلمي التعددي، كما أن قطار التنمية لم ينطلق بقوة.

من هنا نقول:

إن مفاهيم مثل الشورى والديمقراطية، ليست مجرد شعارات نتغنى بها، وليست مجرد انتخابات، بل هي أساساً وقبل أي شيء آخر مقدرة الفرد الحر والواعي على الاختيار الصحيح الواعي المسؤول والحكيم، والخالي من أي نوع من أنواع القسر والقهر والإكراه والغلبة والزيف.. فلا ديمقراطية ولا شورى من دون قيم ثقافية عميقة تجعل الفرد عندنا واعياً لما حوله من أشخاص ورموز وأفكار وتيارات ورؤى وسياسات، بعيداً عن أي لون من ألوان الإكراه المادي والرمزي، بحيث يكون مدركاً لكامل حقوقه التي يبتغي تحقيقها وإنجازها من خلال المجالس المنتخبة شعبياً. وهنا نسأل: هل تتوافر مناخاتنا السياسية والثقافية العربية – التي انطبعت طويلاً بعقلية التغلب وولاية المتغلب الدينية البعيدة عن اختيارات الناس – على هذا الشرط الجوهري للبدء بعملية التحول الديمقراطي أو التحول الشوروي المنشود؟ وهل الفرد العربي حر في اختياره عندما يذهب إلى صناديق الاقتراع لينتخب هذا المرشح أو ذاك الحزب؟ وهل علمه بالمرشحين مدروس وقائم على اختيار نوعي حر؟ وهل الناس حين صوتوا لكتلة علمانية هنا أو كتلة إسلامية هناك، كانوا يدركون تمام الإدراك حقيقة برامج تلك النخب والأحزاب؟!.

نعم، هذه هي الديمقراطية وتلك هي الشورى كآلية حكم وانتخاب يسمح لأصحاب التأييد الشعبي الأكبر والأعلى بالوصول إلى السلطة في الإطار العام، وهي تقتضي القبول بنتائج الصندوق، بقطع النظر عن المقدمات والأسباب والدوافع ومستويات الوعي ومعايير الاختيار، أي أن قبول النتيجة مسألة أساسية لكل الأطراف واللاعبين السياسيين، مهما كانت المعطيات التي أنتجها هذا الصندوق. لكن هذا شرط لازم غير كاف، لأن كفايته لا تتم، والتحقق الكامل للديمقراطية الحقيقية لا يتم من دون وجود ثقافة ووعي فكري وسياسي ومسؤولية عالية، بحيث تقوم (تلك الثقافة السياسية) على إعطاء الفرد حريته الكاملة في اتخاذ قراراته وتحديد مصائره بوعي وإرادة واعية كاملة من دون قسر فكري. وهذا ما نعاينه في كثير من مجتمعاتنا العربية والإٍسلامية، حيث تستثمر الأديان والنصوص الدينية في الصراعات السياسية لمصلحة هذا أو ذاك، ولإسقاط هذا وتصعيد ذاك. وعدم وجود الوعي والحرية قد يؤدي لتشويه العملية الديمقراطية برمتها، إذ من الممكن أن يؤدي الوعي الشعبي الساذج إلى صعود أفكار وقيم وطروحات متعصبة وأحزاب متطرفة قد تلغي كل العملية الديمقراطية وتنقلب عليها، وتبدأ بتشكيل وتطبيق مثلها وبرامجها ومعاييرها وأفكارها الخاصة على المجتمع الذي انتخبها ديمقراطياً (بالمعنى الشكلي) فتعيده مئات السنوات نحو الوراء.

لهذا لا بد أن نعترف بأن طريق الديمقراطية العربي طويل، ودونه تحديات جمة، ولن تصل مجتمعاتنا العربية إلى غايتها في تجسيد الحقيقة الديمقراطية إلا بعد خوض سجالات وتدافعات ثقافية وسياسية ممتدة. وتمكُّن تلك المجتمعات من إزاحة نظم الاستبداد التي كانت مهيمنة على مجالاتها، ليس إلا بداية طريق الألف ميل باتجاه التمكين الديمقراطي الشوروي الذي هو مسألة معقدة ومركبة..

وبالطبع ليست هناك علاجات سحرية ولا حلول فورية، فذلك كله مرهون بالصراع السياسي الداخلي وخوض غمار النضال السلمي والتحديث المعرفي المتواصل لقيم ومفاهيم التراث القائم والمركوز في الوعي الشعبي، والعمل على تخفيف الحمولة الأيديولوجية الثقيلة التي تنوء تحتها مجتمعاتنا، ولا تزال تكلفها الكثير من الخسائر المادية والمعنوية.

ولا نعني هنا أن الدين هو الذي جعل الأمة عموماً تتقهقر وتتراجع، وينحسر عطاؤها عن ساحات التبادل الحضاري العالمي، بل نعني أن تحميل الدين بما لا يطيق من أفكار وحمولات معرفية وسياسية، لإضفاء المشروعية الدينية على أنظمة حكمت بقوة التغلب والقهر والاستبداد، هو الذي عطّل مواقع الإبداع والعطاء في جسم هذه الأمة، وساهم في تقديم صورة نمطية وحيدة عن الدين من حيث هو سلطة مطلقة وحقيقة عليا تقوم على قواعد صارمة من الإلزامات السلوكية القادمة من عوالم الفقه والوعظ التقليدي. فهذا ما أدى إلى إغلاق عقول الناس على قيم الماضي البعيد، وحطم كوامنها وإراداتها الذاتية التي كان من المفترض أن تدفعهم وتحثهم على العمل والإنتاج والإبداع والمشاركة في الخلق والفعل، أي بعيداً عن الفهم المغلق للدين والهوية الدينية. أما الفهم الآخر للدين القادر على بث روح العمل في نفوس المؤمنين به، فهو دين الحرية، دين الشورى، دين الاختيار الحر الواعي، الذي يمكن اعتباره مرجعية معنى متنوعة، ورأسمالاً معنوياً وحضارياً لمجتمعاتنا العربية، ومنظومة فكرية وأخلاقية عامة تنشد الجمال والكمال الروحي للذات الفردية. وهذا الفهم العقلاني لحركية الدين والتدين، يمكن أن يدفعنا لممارسة عقلانيتنا وحداثتنا بصورة منتجة وفعالة ومؤثرة، والتفاعل مع الحياة بعقلية التشارك والتبادل والحوار والتداول والتحول المبدع، على مستوى الفرد والمجموع والدول ككل.