خاطرةٌ .. إلى مولانا القائم(عج) ..
بقلم: غسان عبد الله
عجّلِ الخطى مولى الجهاتِ ومولى الزمان، فهذي أمَّةٌ من جُثَثٍ نفترشُ الآن بقاياها الأخيرةْ.. كيف أطفأنا بريقَ الماء في حلم الصَّحارى؟ كيف أرخينا عباءاتِ النّبوّات عن الأشجار؟ هشّمنا المزاميرَ وعلَّقنا المسامير على أرواحنا الهشَّةِ ألقينا المعاذيرَ أقمنا رقصة التّأبين في عيد انهياراتٍ.. جنَحْنا نحن والأطفال والأبطال والموَّال للسّلِّ وللسِّلعةِ..
لم نُرجِعْ لشيخ الوطن الأعمى عكاكيزَ البصيرَةْ.. شُلَّت الأيدي، وجفّتْ صحفُ الورد، فمن أيّ عبيرٍ ينسجُ الشّعرُ حريرهْ؟ نستعير الآن ذكرانا ونسري في رياح البحر، والبوصلةُ الشَّعبيَّةُ اهتزّت وملاّحُ المدى أغلقَ شطآن النَّدى.. باع الجزيرةْ..
نشهدُ الآن أفولَ الرّوحِ: “هذا أفقٌ غادَرَهُ الحُبُّ، وغدَّارٌ هو الحبُّ الَّذي يُسْلِم للوعدِ الخريفيِّ مصيرَهْ”.. عربٌ في جبلٍ؟ أم جبلٌ من عربٍ غابتْ بهم فوضى حدودٍ ووجودٍ تسكب الظّلمةُ فيهم ظلَّها.
ليس ربيعاً ولا من يحزنون، ضيّع الوقتُ شهورَهْ.. ليس إرثاً من صفاءٍ يحملُ الرّوح مراياه وليست أمّةً قد أُخرجتْ للنّاسِ، بل أخرجها النَّاسُ وهذا هامشُ الزَّهر تهشَّمْ ومناراتُ الرَّحيل البكر تشكيلُ فراغٍ وضلالاتُ رؤىً.. ليس انتقالاً من دكتاتور الموت والظلم.. إنَّه الذل المجسَّمُ شبه سلامٍ بأيدي أمريكا.
هكذا أمّتنا ظَهْرٌ لذئب الرّيح تنهارُ عليها مئذنات الماءِ.. هذا آخرُ العهد بنا.. آخرُ عنوان لنا في المخاض الحجريّْ.. بطنُ أنثى يتورَّمْ ثمّ تلقي سربَ أطفالٍ تماهَوا في عدوّ.. ذاك عيناه على عيدٍ تلاشى.. تلك كفَّاها تشدّان الفَراشات ها هنا يمضغُ طفلٌ علكةَ الوهم.. هنا بنتٌ تزاولُ “الشات” وهي تبني لغد الحزنِ فِراشاً.
طفولاتٌ توارَتْ خلفنا.. آباءٌ ذاكرتهم محنيَّةُ الظَّهر وشحّاذون في بوّابة الفكر.. لصوصٌ ونصوصٌ.. ووليٌّ باع للرّوم ظهورَهْ.. عالَمٌ آخر؟ أمْ آخرُ عالَمْ؟ هكذا أسئلتي تنمو “مولاي”.. وفي عينيَّ إنسانُنا يتعرّى من قناع الحلْم يسعى في سراديب من الأحفادِ.. لا صُلبُنا منذورٌ لنورِ الأنبياءْ لا، ولا طينُنا جمرُ الشّعراءْ.. منذ ميلادنا حتّى الانهيارِ الفذِّ في أرض خلاءْ.. والدّمُ الكونيّ ما كفَّ عن الدَّفْقِ وخَنْقِ الكائناتْ.
ماذا نقرأُ غير الظّلماتْ؟.. لغتنا دارَتْ على أحياءِ ميراثنا: طلولٌ، وعماماتٌ، جوارٍ وخلافاتٌ، دهاليزُ انحطاطٍ ونهوضٍ، واحتلالاتٌ، وبلادٌ على خيل غبارٍ وطلولٌ تستعادْ.. لغتنا لم تلتصقْ بالحَشْرِ والميلادِ في أرضٍ نمَتْ في جوفها مملكةُ القتلى وأشلاءُ بلادْ.. لغتنا عرّيناها من لباسِ العزّ وفصّلنا لها من جلدِ أطفالنا أعلامَ الحدادْ.. صُورُ الموتى على مخدعنا العالقِ تطغى عندما نسترقُ الأصوات من بوقٍ أمميٍّ يقتلُ فينا حتى الآهات.. ليست عروبةً ولا شهامةً ولا غيرةً ولا معرفةً ما نقطفُ اليومَ، فقدْ جفَّتْ ضروعُ الفلسفاتْ وانتهى التّاريخ في سلَّة (أمريكا) عناقيدَ شعوبٍ وقبائلْ.. مالت الأرضُ، وبرج الحقِّ مائلْ.
سأظلُّ أصرُخُ.. آهٍ يا شعبيَ.. يا أطمار عيدانٍ غزَتْها النَّارُ في ليل القوافلْ.. أرضُكَ الأولى استوتْ أحشاؤها تيناً ولوزاً وتوابلْ.. أنضجَتْ أرحامُها صيفَ سنابلْ.. فلمن بعتَ روابيها؟ عُدْ إلى جَدّتكَ الأولى الَّتي تُخفي نشيدَ الجوز واللَّوز وتختارُ من الأيَّام ما يمتدّ في القلب إلى آخرِ عمرٍ عربيّْ.. عُدْ إلى جدتكَ الأرضِ وسلِّمْ – أيُّها الشَّعبُ العربيُّ – عليها وعليّْ.. واحتملْ هَجْرَ خيام البدوِ فاللَّحظةَ تعلو زهرةُ النخوةِ في أحداقِ طفلٍ يملكُ الرّوحَ، تعيدُ الفجرَ للَّيل، تصبُّ القمرَ العالي على مهد الصَّبيّْ.. أنا في موجة عينيهِ سأبني سفني.. أرتادُ شطآناً، وأطوي الأفقَ المكسورَ فيّْ..
ذاك يا مولاي يا أصلَ تفتُّحِ البراعمْ.. جسدُ الأمةِ مقطوعاً من الشَّجرةِ، لا أهل يلمّون مساءاتنا، ولا عرسٌ لإيقاع الملاحم.. لا، ولا طائرُ ماءٍ في دمنا يلقي رسالات السَّماءْ.. هذا الدمُ ماءْ.. والملوكُ اختلفوا في لعبة الأنسابِ: ((إسرائيلُ)) هذي ولدٌ أم بلدٌ؟؟؟.. والمسجدُ الأقصى قريبٌ أم مُريبٌ؟؟؟ هل نسميّ طفلنا المولود مسحوقاً أم ((اسحقاً))؟؟؟ وهذا ((شرقُنا الأوسطُ)): هل نُلبِسُهُ كوفيّةَ النّفط أم القبعةَ الجينزَ؟؟؟ وماذا يبدعُ الشّاعرُ إمَّا هدلتْ فينا حماماتُ ((السلامْ))؟ ما الذي ينقُره العصفورُ إذ يبصر صهيونيّةً قد نبتتْ في حقلنا المهجورِ؟ ماذا يربحُ التّاجرُ؟ والعاشقُ: هل يبقى له وقتٌ ليُحْيي موقفَ الوجدِ ويمشي تحت رايات الهُيامْ؟ ما الذي يفعله القاضي بآياتِ ((بني يهوهْ))؟ وما النّاسخُ والمنسوخُ؟ ما الماسخُ والممسوخُ؟..
مولاي.. عجّل الوطءَ.. ما زالتْ ذاكرتُنا متخمةً بفخرِ أجدادكَ يا سليلَ الأنبياء.. عجّل الوطء.. فقد لبستُ سديمَ ذاكرتي لأسألَ عن فتىً بالأمس كان نشيدُهُ العربيُّ باصرتي: ((بلادُ العرب أوطاني…)) أكلّم عنه أقمارَ القرنفل، كان يجمعُها بكفَّيْهِ ويلقيها بحضن الترابِ وبقايا الدمارِ في غزّةَ.. فتى سلّمتهُ مصباحيَ السِّحريَّ، مفتاحَ المغارةِ، والكنوزَ، وعرشَ مملكتي فتىً بالرّيح شدَّ خطاه وابتعدا.. نفاني خلف أسئلتي وصار صدى.. تطاردهُ الجوارحُ والمذابحُ والمسارحُ، وهو: متروكٌ لوحشةِ بُعْده الثّاني يخطُّ على التّراب غدا.. ويضحك فيه شيطانُ الزَّمان: غَدٌ؟ وأيُّ غدٍ؟؟؟ وهو مخيَّمٌ في الوهم ينمو في العبارةِ، أو تتيهُ به الإشارةُ كلّما سجدا.. هو المجموعُ تحت جناح شرياني.. هو المخلوعُ، واللاَّمنتمي، والضَّائع العبثيُّ، وهوَ خزانةٌ من قشّ أحلامٍ وأحزانِ.. معطَّلةٌ جميعُ حواس خيبتهِ سوى شبحٍ يعومُ على بقاياهُ.. يغنيّ حينَ يلقاهُ: ((بلادُ العرب أوطاني..)) فينكسر الصَّدى في عتمة الوادي: ((بلادُ العرب أكفاني، بلاد العرب أكفاني)).