بعد فرنسا النيجر تطرد القوات العسكرية الأمريكية من البلاد: وجودكم غير شرعي وينتهك القواعد الدستورية والديمقراطية
بقلم: ابتسام الشامي
صفعة للنفوذ الأمريكي في القارة السمراء تلقتها الولايات المتحدة الأمريكية من النيجر، الدولة التي شهدت قبل نحو تسعة أشهر انقلاباً عسكرياً أطاح برجل الغرب فيها، تستكمل الانقلاب على الإرث الاستعماري في البلاد، وتعيد تعريف مصالحها وعلاقاتها الدولية، بعيداً عن منطق الوصاية الذي صادر سيادتها وثرواتها عقوداً طويلة من الزمن.
النيجر والانقلاب على الاستعمار الغربي
تحولات سياسية عميقة تشهدها النيجر منذ اطاح انقلاب عسكري في ايلول من العام الماضي حكم الرئيس محمد البازوم. الانقلاب الثالث من نوعه في منطقة الساحل الافريقي بعد مالي وبوركينا فاسو، لم تقتصر تداعياته على السياسة الداخلية للبلاد، وانما طالت السياسة الخارجية لها ممثلة بعلاقاتها الدولية والأسس التي بنيت عليها وما ترتب على ذلك من التزامات واتفاقيات، سياسية كانت ام اقتصادية وعسكرية، ولئن بدت فرنسا على المستوى الخارجي أكثر المتضررين من الانقلاب الذي “أتى” على نفوذها الممتد عميقا في تاريخ البلاد وامتدادا إلى جاراتها، فإن استكمال مفاعيله بخطوات داخلية وخارجية، ترى فيها القيادة العسكرية الحاكمة تصحيحا لمسار اختل فيه توازن البلاد الافريقية لمصلحة الغرب الاستعماري، يؤشر إلى أن ما جرى في تموز من عام 2023 ما هو إلا نقطة تحول في مسار من شأنه أن يخلق تحديات جدية للقوى التقليدية النافذة في القارة الأفريقية. في هذا السياق يأتي قرار المجلس العسكري الحاكم وقف اتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية مفعماً بالدلالات، ومعبراً عن تلك التحولات.
القرار الذي أعلنه المتحدث باسم المجلس العسكري الكولونيل ميجور أمادو عبد الرحمن جاء بعد وقت قصير من زيارة وفد أمريكي رفيع برئاسة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مولي في، وعضوية الجنرال مايكل لانغلي قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا. وهي زيارة هدفت إلى “تنظيم” الوجود الأمريكي في البلاد، لكن البيان الذي تلاه عبد الرحمان بعد مفاوضات الوفد الأمريكي مع المسؤولين في نيامي، لم يكشف فحسب فشل الزيارة في تحقيق أهدافها، وإنما توتراً في علاقات البلدين ظل كامناً خلال الأشهر الماضية من عمر الانقلاب. وخلال ثلاثة أيام هي مدة زيارة الوفد الأمريكي، امتنع قائد النظام العسكري الجنرال عمر عبد الرحمن تياني عن استقبله، وبحسب ما جاء في بيان باسم المجلس العسكري، فإن “وصول الوفد الأمريكي لم يحترم الأعراف الدبلوماسية”، مضيفاً أن الحكومة الأمريكية أبلغت نيامي “من جانب واحد” بموعد وصولها وبتشكيلة وفدها. وإذ لفت إلى أن المناقشات دارت حول “الانتقال العسكري الحالي في النيجر والتعاون العسكري بين البلدين”، أعلن أن “حكومة النيجر قررت بكل مسؤولية، آخذة طموحات الشعب ومصالحه في الاعتبار، أن تلغي بمفعول فوري الاتفاق المتعلق بوضع الطاقم العسكري للولايات المتحدة والموظفين المدنيين في وزارة الدفاع الأمريكية على أراضي النيجر”. مؤكداً أن الوجود العسكري الأمريكي في البلاد “غير قانوني وينتهك كل القواعد الدستورية والديمقراطية”.
العبارات التي صيغ بها بيان المتحدث باسم المجلس العسكري، عكست موقف المؤسسة العسكرية من الاتفاق الموقع بين واشنطن ونيامي، إذ ترى الأخيرة أن الاتفاق الموقع بين الطرفين في تموز من عام 2012 مجحف بحقها، فضلاً عن كونه فرض عليها أحادياً، عبر “مذكرة شفوية بسيطة” أملتها الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك.
النيجر ترفض التدخل الأمريكي في شؤونها
وفي وقت تحاول فيه الإدارة الأمريكية وضع الأزمة الديبلوماسية الناشئة مع النيجر في إطار عدم التزام الأخيرة المعايير الديمقراطية في الحكم، آخذة عليها عدم وضع جدول زمني لاستعادة الحكم الديمقراطي، فإنها لم تغيب الاسباب الحقيقة للأزمة، والتي يمكن تلخيصها بكونها اعتراضاً أمريكياً استباقياً، على تطور العلاقات البلاد مع كل من روسيا وإيران. فقد صرحت نائبة المتحدث باسم البنتاغون سابرينا سينغ أن “مجموعة من المسؤولين الأمريكيين زاروا النيجر قبل خرق الاتفاق العسكري، للتعبير عن قلقهم بشأن تطور علاقات النيجر مع روسيا وإيران”. ونقلت وكالة “رويترز” عن سينغ قولها: “كان الوفد الأمريكي هناك لتسليط الضوء على عدد من المخاوف… كنا قلقين بشأن المسار الذي كانت تسلكه النيجر، لذلك كانت هذه محادثات مباشرة وصادقة.. لمناقشة مخاوفنا والاستماع إلى مخاوفهم”.
على أن المخاوف المعبر عنها على لسان الوفد الأمريكي بالخطوط الحمر التي حاولت واشنطن وضعها أمام نيامي بشأن علاقاتها الخارجية، اعتبرتها الأخيرة تدخلاً في شؤونها سرعان ما ردت عليه بالموقف الحازم الصادر عن مجلسها العسكري الحاكم، علماً أن الأخير، وبخلاف موقفه من الوجود الفرنسي في البلاد عندما استلم السلطة، لم يطلب من الجانب الأمريكي إخلاء قاعدته العسكرية التي تضم نحو ألف جندي أمريكي، كما أن واشنطن التي تبرر وجودها في منطقة الساحل الافريقي بمحاربة “التنظيمات الإرهابية”، لم تُدِن في المقابل الانقلاب، وفضّلت التعاطي مع المجلس العسكري بحكم الأمر الواقع، ونأت بنفسها عن القيام بأي وساطة تخص الرئيس المخلوع، لكنها مع ذلك حاولت التسلل إلى مركز القرار الجديد في البلاد عبر الضغط على صانعيه بجدول زمني للانتقال إلى “الحكم الديمقراطي”، قبل أن تعاجلها نيامي بقرار المجلس العسكري وقف العمل باتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية الأمر الذي وضع الأخيرة أمام تحدي التعامل مع هذا المستجد بشكل عاجل لاسيما وأنه صدر بصيغة المباشرة الفورية. وفي هذا السياق أفادت وزارة الداخلية في النيجر بأن الولايات المتحدة ستقدم قريباً مشروعاً بشأن ترتيبات انسحاب قواتها المنتشرة من البلاد، بعد إلغاء الاتفاق العسكري معها. وكشف البيان أن السفيرة الأمريكية كاثلين فيتزغيبون أعلنت عن هذه الخطوة خلال اجتماعها بوزير الداخلية النيجري الجنرال محمد تومبا. وبحسب المصدر ذاته فإن فيتزغيبون أوضحت أن الولايات المتحدة على اضطلاع بقرار النيجر إلغاء الاتفاق العسكري وأن مشروع الانسحاب سيناقش بين الطرفين. لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر رفض التعليق على البيان النيجري، مؤكداً أن وضع القوات الأمريكية في النيجر لا يزال على حاله في الوقت الراهن. مشيراً إلى أن بلاده “تجري اتصالاتها مع السلطات الانتقالية في نيامي للحصول على توضيحات بهذا الصدد”.
النفوذ الأمريكي في أفريقيا آخذ في التراجع
وبمعزل عما ستفضي إليه الاتصالات حول الوجود الأمريكي في النيجر بعد قرار نيامي وقف العمل باتفاق التعاون العسكري مع واشنطن، فإن القرار بحد ذاته انطوى على معاني سياسية متصلة بتراجع النفوذ الأمريكي حول العالم، وهو ما أشار إليه كاميرون هدسون، الذي سبق أن عمل في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووزارة الخارجية في أفريقيا. هدسون يعتبر أن مثل هذه الخطوات “تظهر تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة”، مشيراً إلى أن النيجر “غاضبة من محاولة واشنطن الضغط على المجلس العسكري للابتعاد عن روسيا”. ونقل عنه موقع الجزيرة نت قوله إن “هذا – الضغط على المجلس العسكري للابتعاد عن روسيا – أمر مثير للسخرية لأن أحد شعارات إدارة بايدن هو أن الأفارقة أحرار في اختيار شركائهم”.
وفي سياق متصل، رأت المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الأمريكية والمتخصصة في الشؤون الأفريقية أنيليز برنارد أن الزيارة الأخيرة – للوفد الأمريكي – فشلت وأن الولايات المتحدة بحاجة لإلقاء نظرة نقدية على كيفية ممارستها للدبلوماسية ليس فقط في النيجر بل في المنطقة كلها. وأضافت مديرة مؤسسة “ستراتيجيك ستابيلايزيشن أدفيزرز”: “إن ما يحدث في النيجر والساحل لا يمكن النظر إليه بشكل مستمر في فراغ كما نفعل دائماً، فتميل حكومة الولايات المتحدة للنظر للأمور من منظور محدد، لا يمكننا أن ننكر أن علاقاتنا المتدهورة في أجزاء أخرى من العالم: الخليج وإسرائيل وغيرها، كلها لها تأثير كبير على علاقاتنا الثنائية في غرب أفريقيا”.
خاتمة
حادثة بعد أخرى تثبت كم أن النفوذ الأمريكي حول العالم آخذ في التراجع، ليس لضعف في قوة الولايات المتحدة الأمريكية وقدراتها التي تضاعفت باستمرار، بل في الأساس لقرار اتخذته دول وقوى لا دولتية بالمواجهة معها، ولعل ما يجري اليوم في غرب آسيا من مواجهة مباشرة مع أمريكا، القائد الفعلي للحرب العدوانية على قطاع غزة، وما تقوم به القوات البحرية اليمنية من استهداف مباشر للقطع العسكرية الأمريكية في البحار والمحيطات رداً على تلك الحرب، تظهر حجم التحول الذي يعيشه العالم وهو يخرج من تحت السطوة الأمريكية ويوجه الصفعات لهيبة واشنطن وقوة ردعها.