نفحات إيمانية من ليلة القدر
بقلم: الشيخ د. حسان عبد الله / رئيس الهيئة الإدارية لتجمع العلماء المسلمين
﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾.
1- في معنى ليلة القدر:
في هذه الليلة المباركة، ليلة يفرق فيها بين الحق والباطل، وفي هذه الليلة تقدر فيها حياتك ويقدر فيها كل المصير الذي أنت عليه في السنة القادمة، في هذه الليلة تتنزل الروح والملائكة فيها، وقد سئل الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، قال: “تنزل فيها الملائكة والكتبة في السماء الدنيا فيكتبون ما كان في السنة من أمره وما يصيب العباد، والأمر عنده موقوف له فيه المشيئة، فيقدم ما يشاء”، ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾. إذاً طالماً أن هذه الليلة مصيرية إلى هذا الحد الذي يكتب لك فيها كل شيء، يمكن أن تكون قد كتب الله لك أن تتعرض للأذى في السنة القادمة، ولكن نتيجة إحيائك لهذه الليلة المباركة يمحو الله هذا الشيء عنك. ألا يستأهل ذلك أن تدعو الله عز وجل مخلصاً في هذه الليلة كي تصل إلى رضوانه، وكي تمحى عنك سيئاتك، وقد يمحى عنك مصير كنت ستتلقاه؟ ألا يستحق منك أن تقوم بإحياء هذه الليلة في كل لحظاتها وفي كل تفاصيلها؟ أليس مهما أن يقدر لك في هذه الليلة من الرزق ما لم يكن مكتوباً في الأساس لك، وهو أيضاً من الأمور التي يثبتها الله عز وجل عنده في أم الكتاب، وأيضاً إن الله عز وجل يكتب لك في هذه الليلة من الأعمال الحسنة ما يكون مضاعفاً بما يساوي ألف شهر من العمل، فلذلك عليك أن تغتنم الفرصة، ولذلك عليك أن تقوم بكل هذه الواجبات.
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان: “قلت وما معنى يلتقي الجمعان؟ قال يجمع فيها ما يريد من تقديمه وتأخيره وإرادته وقضائه”. إذاً في هذه الليلة هناك مصير سيقرر، في هذه الليلة حياتك المستقبلية ستقرر، وبالتالي فإنه من أجل أن يبقى ثلاثمائة وأربعة وستين يوماً أنت في سلام وعافية عليك أن تجتهد في هذه الليلة للقيام بالواجبات التي يجب عليك أن تقوم بها بالاستغفار،
بالدعاء، بقراءة القرآن، بالدعاء بالمأثور والدعاء مما يفيض به قلبك وما تشعر به. لذلك عليك أن تنتبه إلى هذه الأمور بشكل واضح.
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.
2- كيف نحيِّ هذه الليلة؟
هذه الليلة عند الله عز وجل خير من ألف شهر، معنى ذلك أن عملك هذه الليلة يتجاوز عمل ألف شهر، وبالتالي فإنها ليلة عبادة، وعلى الإنسان أن يتفرغ فيها للعبادة، ولا يشغله عن ذلك شاغل، لأنها فرصة لن تأتي إلا مرة واحدة في السنة، وتتجلى هذه العبادة بأحد أمرين:
الأول: الاعتقاد اليقيني بمضامين هذه الليلة المباركة، يجب أن تكون موقناً بأن الله عز وجل يسمع منك ويستجيب إليك، وأن كل ما تدعوه به هو مجاب بإذن الله تعالى، يجب أن تعتقد أن هذه الليلة مباركة إلى حد أنه يقبل منك أي عمل بشرط أن يكون هناك إخلاص في النية، وعمل دؤوب من أجل تحقيق مرضاة الله. يجب أن يداخلك عزم على أن لا تعود إلى المعاصي التي ارتكبتها في السنة الماضية، وأن تصر على أنك من هذه الليلة ستفتح أفاق العمل الصالح والسعي من أجل تحقيق رضوان الله تعالى.
الأمر الأخر: لا بد من أن تكون ليلة عمل بالكامل، لا أن تكون ليلة سهرات في الخارج مع الأصدقاء والأقران وإلى ما هنالك كما قد يفعل البعض، هي ليلة عبادة بكل معنى الكلمة، وهي ليلة توجه إلى الله عز وجل، يجب أن تكون وحدك مع الله تناجيه، تخاطبه، تسعى من أجل أن تحصل على رضوان الله، وأن يقبل منك الله عز وجل هذا الإحياء بكل المضامين وبكل المعاني.
إن ليلة القدر عند الله عز وجل هي ليلة مباركة خاصة يكفيها شرف أنها ليلة إنزال القرآن الكريم دستور المسلمين والذي يحتوي كل ما يجب على المسلمين أن يقوموا به من أعمال، وأن يعتقدوا به من معتقدات ومن أجل شرف هذه الليلة أعطى الله عز وجل لها المكانة العظيمة والأجر الكبير.
فاغتنموا الفرصة ولا تضيعوها فإن ذلك مدعاة من أجل أن تحصلوا على رضوان الله وأن تحصلوا على القبول، القبول الكامل والرضا الكامل. هي ليلة للتوبة فلا تضيعوها واندموا على ما فعلتم سابقاً وصمموا على عدم العودة إليه وتوبوا إليه وخذوا قراراً نهائياً بأنكم ستسيرون باتجاه العمل الصالح في بقية أيامكم.
3- ماذا يحصل في ليلة القدر:
قال رسول الله الصادق الأمين: “أنه ما من عبد يصلي في ليلة القدر إلا كتب الله تعالى له بكل سجدة شجرة في الجنة لو يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها وبكل ركعة وبكل ركعة بيتاً في الجنة من در وياقوت وزبرجد واللؤلؤ”. معنى:” يُفتح أبواب السماوات في ليلة القدر”. الله عز وجل يفتح لنا أبواب السماوات في هذه الليلة، فما من عبد يصلي فيها إلا كتب الله تعالى له بكل سجدة شجرة في الجنة، لو يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، تصوروا هذا الأجر العظيم، شجرة أنت تسير تحتها مئة عام ويبقى ظلها يظللك، نعمة كبيرة، فهذه أشجار الجنة وليست أشجار الدنيا، وهذه لا ينالها أي إنسان، وإنما ينالها من قام بواجبه وقام بأعماله وقام بأعمال خاصة، تصور أن بيتك ليس مثل بيوتنا من الحجارة، وليس مثل قصورنا من الحجارة مفخمة ومطعمة، البيت في الجنة من در وياقوت وزبرجد ولؤلؤ،. هذا الله أعطاك إياها عن كل ركعة، يعني إذا صلاة ركعتين لك بيتان فصلي واحصل على بيوت، لكن المهم لا تضيع عملك بالغرور مثل ما حصل مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لهم لما أراد بناء المسجد في المدينة فليأتي كل شخص بطوبة وله بكل طوبة بيتاً في الجنة، فتسارع المسلمون كل يحمل طوبة وطوبتين بعد أن انتهوا، فقالوا لرسول الله (ص) أحدهم يقول أصبح لي عشرة بيوت، وأخر أصبح لي عشرين بيت، قال لهم رسول الله ولكنكم أرسلتهم عليها نيران العجب فأحرقتموها. نحن يجب أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى. عمل بيني وبين الله عز وجل ليس لأحد فيه أي دخل، ولا أريد أن أُعجب بها، ولا أريد أن أفتخر بها، ولا أريد أن يمسني الرياء بها، في كل ركعة بيتاً في الجنة من زبرجد ودر وياقوت ولؤلؤ، وبكل آية تاجاً من تيجان الجنة، هنا أنت إنسان عادي وتقول والله الملك الفلاني والرئيس الفلاني، وهناك تصبح ملك بماذا؟ بآية تتلوها في القرآن الكريم.
لو كنتم تقرأون آيات القرآن أو تركعون أو تسجدون بناء لهذه الأمور التي وعدنا بها رسول الله وهو الصادق الأمين، أكيد ستحصلون عليها. ولكن أن تكون النية أنك تفعل هذا الفعل من أجل هذا الأجر، وبكل تسبيحة طائر من النجب، يصبح عندك أيضاً طيور في الجنة تسعى لك وبكل جلسة درجة من درجات الجنة، يعني الجلسة لما بين السجدتين، هذه الجلسة ترفع لك درجة من درجات الجنة، وبكل تشهد غرفة من غرفات الجنة. يعني عندنا تشهد واحد في الركعتين فلنصلي أكثر من صلاة لأن الصلاة المستحبة يقتصر فيها على ركعتين ونتشهد، في كل تشهد نحصل على غرفة من غرفات الجنة، وبكل تسليمة حلة من حلل الجنة. الحلة هي الثوبان اللذان نلبسهما، في كل تسليمة لك حلة، لكن ليس أي حلة، حلة من حلل الجنة. هذه الحلل التي يستطيع الإنسان أن يتفاخر بها على جميع البشر بأن الله ألبسه إياها.
في ليلة القدر أمور عظيمة يجب عليك أن تنتبه إليها. وعن الباقر عليه السلام قال:” من أحيا ليلة القدر غفرت له ذنوبه، ولو كانت ذنوبه عدد نجوم السماء، ومثاقيل الجبال ومكاييل البحار”، يعني مهما كانت ذنوبك بليلة القدر إذا أحييتها إحياءً صحيحاً فهذه الذنوب ستغفر لك. جعلنا الله وإياكم من القائمين، الراكعين، الساجدين في ليلة القدر لنحصل على الثواب العظيم.
4- ثواب إحياء ليلة القدر:
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “قال موسى عليه السلام إلهي أريد قربك، قال قربي لمن يستيقظ ليلة القدر؟ قال إلهي أريد رحمتك، قال رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر، قال إلهي أريد الجواز على الصراط، قال ذلك لمن تصدق بصدقة في ليلة القدر، قال إلهي أريد أشجار الجنة وثمارها، قال ذلك لمن سبح تسبيحة في ليلة القدر، قال إلهي أريد النجاة من النار، قال ذلك لمن استغفر في ليلة القدر، قال إلهي أريد رضاك، قال رضاي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر” تصوروا معي هذه الأمور العظيمة. إذا أردت قرب الله أن تكون قريباً إليه يوم القيامة. يعني أن تكون في أعلى عليين مع الشهداء والصالحين. قال قربي لمن يستيقظ ليلاً بمجرد استيقاظك ليلة القدر لإحياء هذه الليلة يؤدي إلى قربك من الله عز وجل. أما إذا أردت رحمة الله وهذه الرحمة التي تؤدي إلى الغفران وتؤدي إلى دخول الجنة. قال رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر يعني واحدة من الإحياءات ليست الدعاء فقط وليست صلاة فقط، وليست قراءة القرآن فقط، بل أن تحمل شيئاً من الطعام إلى مسكين أو شيئاً من المال إلى مسكين وتعطيه إياها في ليلة القدر.
الصدقة في ليلة القدر مهمة جداً، الصدقة في ليلة القدر توجب رحمة الله عز وجل، قال ربي أريد أن أجوز على الصراط. ما معنى الجواز على الصراط؟ الجواز على الصراط يعني أن تخرج من دائرة النار إلى دائرة الجنة، وهذا شيء عظيم. والصراط أمر صعب، أتعرفون أرض المحشر من نار وصفها الله عز وجل: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾. هذا الصراط، لذلك فاز من جاز على الصراط سريعاً، إذا أردت أن تجوز على الصراط سريعاً تصدق بصدقة في ليلة القدر، ادفع صدقة. يعني أوصلها إلى المستحق في تلك الليلة، ساعتئذ تجوز بسرعة على الصراط، دخلت الجنة، وموسى (ع) كان يطمع بأكثر من ذلك، فقال أريد أشجار الجنة وثمارها يعني أن يكون له أملاك خاصة في الجنة ثمار وأشجار. قال لمن سبح تسبيحة في ليلة القدر، سبحان الله، هذه سبحان الله حافظ عليها في ليلة القدر، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، استعمل التسبيح في ليلة القدر فإنك تجوز على الصراط، وإنك تأخذ من أشجار الجنة وثمارها، قال إلهي أريد النجاة من النار. طبعاً الفوز العظيم فمن يزحزح عن النار فقد فاز. قال ذلك لمن استغفر في ليلة القدر لأن للاستغفار معنىً عظيماً في هذه الليلة المباركة، أستغفر الله ربي وأتوب إليه. وأخيراً ماذا تريد؟ تريد رضا الله؟ قال رضاي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر، صلي في ليلة القدر ركعتين تريد منها أن تحصل على رضوان الله، إنك ستحوز رضوان الله عز وجل قطعاً.
5- ما السر في إخفاء ليلة القدر؟
هناك عند الله عز وجل أيام مباركة مثلاً يوم الجمعة، وهناك ليالي مباركة مثلاً ليلة الجمعة، وهناك أيام أيضاً أيام مباركة كعيد الفطر وعيد الأضحى، وهناك ليلة عند الله عز وجل أفضل من كل هذه الأمور، هي ليلة القدر التي وصفها الله عز وجل بأنها خير من ألف شهر، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ودائماً يسعى إليه المؤمنون متى ليلة القدر؟ لا يوجد نص واضح يقول إن ليلة القدر هي في الليلة الفلانية، ورد أنها ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، وورد أنها في ليلة الواحد والعشرين، وورد أنها في ليلة الثالث والعشرين، وورد أنها في ليلة السابع والعشرين، وورد أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وورد أنه أطلبوها في ليالي الإفراد من شهر رمضان المبارك. وبالتالي هناك أمر واضح من وراء هذا التنويع في موضوع ليلة القدر أنكم إن كنتم تهتمون إلى هذه الليلة ونيل ثواب هذه الليلة والجائزة التي أعدها الله لك في هذه الليلة، فإذاً لكي تحرز أنك يقيناً قد أدركت ليلة القدر عليك أن تحيي ليالي شهر رمضان جميعاً وليس ليلة بالخصوص. نعم ورد عند الشيعة الإمامية أن ليلة القدر الأكثر ترجيحاً هي ليلة الثالث والعشرين وورد عند أهل السنة والجماعة أنها ليلة السابع والعشرين، فإذا فلنحييها في كل ليلة من ليالي شهر رمضان، ونركز على هاتين الليلتين، نركز على التاسع عشر والواحد والعشرين والثالث والعشرين والسابع والعشرين.
أما من أراد أن يحرز يقيناً أنه قد أدرك ليلة شهر رمضان المبارك ليلة القدر فعليه أن يحيي الليالي جميعاً، وهذا فيه حث على أن نحصل على رضوان الله تعالى من خلال أن ندرك كل الليالي التي يمكن أن تكون ليلة من ليالي القدر، وهذا أيضاً في موضوع الصلاة مثلاً ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ﴾. ما هي الصلاة الوسطى؟ منهم من قال إنها الوسطى في العدد فهي صلاة المغرب ومنهم من قال أنها الوسطى في المكان فهي صلاة العصر ومنهم من قال أنها الوسطى بمعنى أنها صلاة الصبح.
إذاً هناك عدد كبير من التخمينات ولكن لو أراد الإنسان أن يدرك أجر الصلاة عليه أن يقوم بإحراز الصلوات جميعاً بالمحافظة عليها جميعاً، وهكذا في ليلة القدر، ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر لا بد من أن تدركها من خلال الإحياء الكامل لكل شهر رمضان المبارك، وبالتالي فإنك على يقين أنك ستحرز رضا الله عز وجل، وهذا لا يكلفك شيء سوى بضع ساعات في الليل تتخذ فيها قراراً بأن تختلي ونفسك مع الله عز وجل. تقرأ القرآن، تدعو الدعاء، تركز على الأدعية المأثورة ومن أهمها دعاء أبي حمزة الثمالي في السحر الذي علمه إياه الإمام زين العابدين عليه السلام.
إنك إن أدركت هذا الأمر فإنك قطعاً ستحصل على رضا الله، وقطعاً ستحصل على إجابة الله، وقطعاً سينالك من الله الأجر العظيم، والحمد لله رب العالمين.