أنا لا أطْلُبُ المستحيلَ.. وطناً للحنين!!
بقلم: غسان عبد الله
تضيق البلاد.. تضيقُ البلادُ.. تضيقُ.. تضيقُ وتتسعُ الورقةْ.. البلادُ التي نصفُها حجرُ.. والبلادُ التي دمعُها مطرُ.. والبلادُ التي لا تبيعُ بنيها.. إذ جوَّعَتْها الحروبُ.. فماذا أبيعُ إذا جوعتني البلادُ وضاقتْ بدمعتي الحدقةْ النوافذُ منفايَ.. أُشرِعُها نافذةً، نافذة.. وأُغادرها بَرَمَا.. تاركاً عند بابِ زاروبٍ في البرجِ أحلاميَ المشرِقةْ.. والقصيدةُ أبعد مما تصورتُ.. أبعد.. أبعد..
يبتعدُ الليمونُ والأهلُ.. لا شيء غير رصيفِ التذكّرِ، مستوحشاً.. وخطى روحيَ القلقةْ.. كأنَّ السماءَ العريضةَ أضيقُ من كوّةٍ، في قطارِ الوداع الأخير وأنا أُطِلُّ بدمعتي المطبقةْ.. تضيقُ البيوتُ.. وتتسعُ العائلةْ.. تضيقُ الدروبُ، المحطاتُ، والأصدقاءُ.. وتتّسعُ الطبقةُ الفاسدةْ.. وبينهما أناَ مرتبكٌ ووحيدْ.. بين أن أبتدئ في شتاتِ الجنونْ.. أو أنتهي في سباتِ العيونْ.. مسافةُ كفين في سلسلةْ.. بينهما يطفئُ الحرسُ الواقفون سجائرهم.. أنا لا أطْلُبُ المستحيلَ.. وطناً للحنين.. وطناً بلا فسادِ المفسدينْ.
أنا لا أطلبُ المستحيل.. أماناً أيها البحر.. الأمانْ يا بحر الذكريات والليمون.. أماناً أيها البحرُ المتوسِّطُ قلبَ العاشقِ لصلاةٍ قدسيةٍ على عتبات الأقصى.. الأمانَ.. الأمان.. الأمان.
في المساء بكى عازفُ النايِ صاحبيْ.. قالَ لي: تعبَ الموتُ مني ومنك.. وما زالت تنأى بلادُك!.. كان مثل غريبٍ يحنُّ إلى زمنْ غائبِ.. قلتُ: ما أحزنَ الروحَ عند محطات الذلِّ والانتظارِ المَقيت!… ما أحنّ الدموعَ على الأمسِ يا صاحبيْ!..
بكاني.. رثاني: “أما زلتَ يا صاحِ مثلَ الغريبِ تهيمُ على وحشةِ الروحِ منفرداً في المغيب؟.. وتتبعُ أيامَكَ السودَ بيضُ الأغاني؟”.. فباكيتُ عينيهِ: “هل أنتَ وحدكَ يا داشرَ الروحِ تبحثُ عنكَ الحياةَ وتهرب منه؟”.. فأجهشَ بيْ!.. مالتِ الريحُ فارحلْ كما تشتهي الريحُ في الحقلِ حرّاً، ولا تذهبْ!.
في المساء بكينا معاً.. وافترقنا غريبينِ من وحشةٍ وحنينْ.. يتبعُ الموتُ خطوهما بالعواءِ.. كذئبٍ حزينْ! في المساءِ بكى صاحبيْ مذلّةَ البنزين.. وبكيتُ على زمنٍ غائبٍ فيه الإنسانُ ببلادٍ تناوشتها يدُ المنون.
بعد زمنٍ طويلٍ من الحزنِ.. شاخَ المغني.. وشاخت بلابله البيضُ في مغربِ الناي.. شاخت على حائطِ العمرِ كلُّ الأغاني.. ولم يبقَ في عزلةِ الليلِ غيرُ زمانٍ عجوزٍ.. يجرُّ خطاهُ على ساعةٍ في الجدارْ.. عازفُ الناي شاخَ من الانتظارْ.. شاختِ الروحِ من ثملِ الروحِ.. شاخت ضفائرُ الأطفالِ عند رصيف الحليب المجفّفِ المخزّن في مستودعات الفاسدين.. من ذا الذي يعينُهم على الموتِ حين يجمُّ المساءْ!؟ من سيرفعُ الروحَ إلى ربّها حين يجهشُ في الروحِ وقتُ البكاءْ!؟. شاخت الروحُ.. واكتهلتْ بعد زمانٍ من الحزنِ نايُ المغني.. وما زلتُ مثل الغريب أحدّقُ في صخرةِ الانتظارْ!..
مساءً.. بكاني الغريبُ.. بكيتُ عليهِ يضيّعُ أيامَهُ على رصيف الفرج.. كالربابة بين قبور الأغاني، بكى رجلاً طاعناً في حداءِ المغيبْ!.. بكينا على حالنا وافترقنا مع الليلِ.. كلٌّ إلى حزنهِ.. راحَ خلفَ نداءِ المواويلِ كالبدويّ، ورحتُ كعازف نايٍ عجوزٍ أعانقُ جذعَ الخطوب.. بكاني الغريب فسالَ على زهرةِ الليلِ ماءُ بكايْ! سمعتُ المواويلَ تضربُ في مغربِ الشمسِ راحلةً، والبكاءُ القديم يفرُّ على صوتِ نايْ!. فصحتُ على الناسِ: يا ناسُ.. لكنني لم أجد أحداً.. وتلاشى صدايْ كأغنيةٍ في سرابِ المغيبْ.. بكاني المساءُ على طبقٍ من نحاسٍ حزينْ!.. بكتني الدروبُ وهرَّ على جسدي ورق اليائسينْ.. وكان الهلالُ على قمةِ الكونِ يبزغُ ثم يذوبْ.. فباكيتُ بالنايِ حقلَ النصوبْ!.. ورحتُ إلى بئرِ نفسي وخلفي يدبُّ ظلامٌ كفيفٌ وتنهضُ مئذنةٌ بآذانِ الغروبْ.. سوف نبكي طويلاً على الناي.. سوف نعضُّ على شفتيهِ لنعصرَ ما ضاعَ من قبلاتْ!.. سوف نبكي طويلاً ليفرحَ قلب الحياةْ.. لكنْ.. وا أسفاهُ لقد ماتَ عازفُ الناي.. ماتَ أخيراً وفارقَ هذي الحياةْ.. ماتْ حينَ لا عربُ ولا من يحزنون يعيدون بعضاً من كرامةٍ مشلوحةٍ على قارعةِ الحياة.