إقليميات

الشَرق الأَوسَط بَينَ فَوضَى الحُروب وارتِبَاك القِوى الكُبرَى

بقلم زينب عدنان زراقط

في هذا السياق المشتعل، تتقاطع أزمات الداخل الإسرائيلي مع الانقسام الأمريكي، بينما يشتعل الغضب الشعبي داخل الولايات المتحدة ضدّ سياسات الرئيس دونالد ترامب ودعمه اللامحدود لإسرائيل، في وقتٍ تخوض فيه واشنطن صراعات مع الصين وإيران وتواجه اضطراباتٍ داخلية غير مسبوقة.

هل تسعى واشنطن فعلاً إلى استنساخ التجربة السورية في لبنان من خلال الضغط لسحب سلاح المقاومة؟ كيف تؤثر كُل من المظاهرات الأمريكية ضد ترامب وسياساته الخارجية، والأزمة الداخلية في إسرائيل وصراع الكنيست على قدرتها في مواصلة الحرب أو الحفاظ على تماسكها السياسي؟.

يضغط الأمريكيون على لبنان للقبول بمفاوضات مباشرة مع العدو الإسرائيلي برعاية واشنطن، فيما جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنفسه إلى الشرق الأوسط ليجتمع بعشرات من رؤساء وممثلي دول العالم، تحت عنوان إنهاء حرب غزة، لكن سرعان ما تبيّن أن الأمر لا يعدو كونه نفاقاً سياسياً ودجلاً إعلامياً. ومن ثمّ، تُمارَس الضغوط على الساسة في لبنان لإقرار سحب سلاح المقاومة، لتزداد بعدها وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية. وتبقى سوريا المثال الحيّ أمام أعين اللبنانيين، إذ لم يترك الجيش الصهيوني فيها طلقةً أو عجلةً عسكرية واحدة إلا دمّرها، وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف، بل احتل جبل الشيخ وامتد إلى الداخل حتى بات على أعتاب العاصمة دمشق. النظام الجديد هناك، الذي لم يُبدِ أي مقاومة ضدّ إسرائيل، بل انبطح أمام مشاريع التطبيع والسلام، لم يُنقذه كل هذا الاستسلام. فلا رَفْعُ راية السلام نفعه، ولا التخلي عن المقاومة جلب له الأمن، إذ انتهى الأمر باجتياحٍ للأراضي السورية واحتلالها. بصريح العبارة، يريد الأمريكيون استنساخ التجربة السورية في لبنان.

الهدف الأمريكي: أمن إسرائيل والسيطرة على الثروات

الولايات المتحدة لا تُخفي هدفها في المنطقة: “القضاء على كل ما يُهدد أمن إسرائيل”. فهي تسعى إلى نزع سلاح كل المقاومات، في العراق واليمن وسوريا ولبنان، بل وتمتد خططها إلى إضعاف إيران وتدمير برنامجها النووي. يريد الأمريكيون دولاً مستباحة بلا مقاومة، تقبل اغتصاب إسرائيل لأرضها، وتترك ثرواتها في يد واشنطن. فأينما وُجد النفط أو الغاز أو المعادن الطبيعية، تفرض الولايات المتحدة عقوبات خانقة، وتُحاصر الشعوب، وتشتري الساسة وتستعبدهم لينفّذوا أوامرها بلا نقاش.

المفارقة اليوم أنّ الرأي العام العالمي استيقظ. فقد شاهد العالم بأسره الإجرام الإسرائيلي في غزة، وأدرك وجود إبادة جماعية في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا. بات واضحاً أن الداعم المباشر للكيان الصهيوني هي واشنطن واللوبي الصهيوني وبريطانيا وأوروبا، فضلاً عن بعض الدول العربية المُطبّعة، علناً أو ضمنياً. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذا الدعم الدولي، فشلت إسرائيل في تحقيق هدفها الأساسي: قهر المقاومة. حتى ترامب نفسه اعترف في آخر مقابلاته بأنّ “الرأي العام العالمي أصبح ضدّ إسرائيل”، وهي نقطة تحوّل كبرى في المزاج الدولي، وربما تُقرأ سياسياً، خطوة إلى الوراء في الدعم المُطلق لإسرائيل.

الصراعات الداخلية في واشنطن وإسرائيل

لم تعد مشاكل الولايات المتحدة محصورة في الشرق الأوسط، فداخلها يغلي بالأزمات. أمريكا اليوم منهمكة في صراعات اقتصادية وصناعية مع القوى الصاعدة، وتفرض رسوماً جمركية وعقوبات على خصومها، وفي مقدمتهم الصين وروسيا. أمّا آخر مغامرات ترامب فكانت ضد فنزويلا، وسط اتهامات بالافتراء والتدخل في شؤونها الداخلية. وليس مستبعداً – كما يرى بعض المراقبين – أن يكون ما جرى في البرازيل من إعلان حالة الطوارئ في منطقة “ريو دي جانيرو” بعد يومٍ واحد من لقاء ترامب بالرئيس “لولا دا سيلفا” محض صدفةٍ مدروسة، خصوصاً وأنّ أمريكا اللاتينية عموماً أعلنت دعمها الصريح لفلسطين وإدانتها لجرائم إسرائيل.

“لا ملوك”.. أمريكا غاضبة في وجه ترامب ضدّ سياساته الداخليةِ والخارجية. فقد خرجت حشود بالملايين في مدنٍ كبرى مثل واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس، رافعة شعار “لا ملوك (No Kings)”، في احتجاج هو الأضخم منذ عقود. يرى المتظاهرون في ترامب خطراً على الديمقراطية الأمريكية ومحاولة لتحويل النظام الرئاسي إلى حكمٍ فرديّ أو ملكيّ مقنّع، فيما يتهمونه بتقويض المؤسسات، وبالانحياز الأعمى لإسرائيل في حربها على غزة. ومع تصاعد التوتر في الكونغرس والانقسام بين الولايات، تبدو الولايات المتحدة اليوم دولة تائهة بين طموحات التوسع الخارجي وانقسامها الداخلي. وعلى الرغم من سلمية المظاهرات وطابعها الرمزي، فقد حملت رسالة حاسمة: “أمريكا وُلدت لتكسر التاج، لا لتعيده”.

في إسرائيل، لا يبدو الوضع أفضل حالاً. فإلى جانب أزمتها السياسية العميقة، تواجه حكومة نتنياهو صراعات حادّة داخل الكنيست، واتهامات بالفساد، وانقسامات بين الائتلاف والمعارضة. في موازاة ذلك، تتصدّر جنوب إفريقيا المشهد الدولي بعد تقديمها شكوى رسمية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمةً إياها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، في خرقٍ واضح لاتفاقية عام 1948 لمنع الإبادة. وقد انضمت إلى الدعوى دول عديدة، بينها تركيا، ماليزيا، الأردن، بوليفيا، كولومبيا، تشيلي، ليبيا، إسبانيا والبرازيل، إلى جانب دعم منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة. وتعدّ هذه القضية اختباراً لمدى فعالية العدالة الدولية أمام نفوذ القوى الكبرى. أما داخلياً، فقد وصف الإعلام العبري – لا سيما موقع “حدشوت بزمان” – جلسة الكنيست الأخيرة بأنها “مشهد أكشن سياسي” بعد أن شهدت احتجاجات واقتحامات وطرد نواب وانقطاع خطاب نتنياهو أكثر من مرة، ما يجسد عمق الانقسام داخل المؤسسة الإسرائيلية.

في الختام، على الرغم من تصاعد الخطابات النارية والتلويح المتكرر باحتمال اندلاع حرب في لبنان، تُظهر المعطيات الواقعية أن كلا المعسكرين، الأمريكي والإسرائيلي، يمران بمرحلة وهن داخلي عميق يستبعد أي مواجهة كبرى في المدى المنظور. فواشنطن الغارقة في انقساماتها السياسية وأزماتها الاقتصادية لا تملك ترف الانخراط في حرب جديدة تُهدد مكانتها الدولية، خصوصاً في ظل احتدام التنافس مع الصين وروسيا. أما إسرائيل، التي تعاني من أزمة سياسية خانقة داخل الكنيست، وتراجع ثقة الجمهور بحكومتها، واهتزاز جبهتها الداخلية، فهي أبعد ما تكون عن خوض حرب طويلة قد تفتح عليها أكثر من جبهة في آنٍ واحد. في هذا السياق، يصبح حديث الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن “احتمال عمل عسكري في لبنان” أقرب إلى التهديد الإعلامي منه إلى خطة واقعية، إذ يدرك أن أي انفجار في الجنوب اللبناني أو غزة سيُحدث ارتداداً سياسياً واقتصادياً داخلياً لا يمكن احتواؤه. وهكذا، فإن تآكل الجبهة الداخلية لكلٍّ من واشنطن وتل أبيب، وتراجع ثقة الشعوب بحكوماتها، يشكّلان اليوم حاجزاً فعلياً أمام اندلاع حرب شاملة في المنطقة، مهما ارتفعت نبرة التهديدات أو تصاعدت الضربات المتبادلة. فالمنطقة تبدو وكأنها تعيش حرباً مؤجلة، تُدار بالنَفَس الطويل لا بالمواجهة المباشرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *