سقوط الفاشر يُعَجِّلُ بتقسيم السودان
بقلم توفيق المديني
سقطت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، آخر مدينة رئيسية يسيطر عليها الجيش في إقليم دارفور غربي السودان، في أيدي قوات الدعم السريع يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر 2025، بعد أيامٍ من المعارك العنيفة في محيط الفرقة السادسة مشاة، الأمر الذي دفع الجيش السوداني إلى الانسحاب لأسبابٍ تكتيكيةٍ، وفقاً لمصدر في الجيش السوداني تحدث لوكالات الأنباء العالمية.
وكانت قوات الدعم السريع شبه العسكرية حاصرتْ المدينة على مدار الثمانية عشر شهراً الماضية (500 يوماً)، حيث تقاتل الجيش وحلفاء له من المتمردين السابقين والمقاتلين المحليين. واستهدفت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو موسى “حميدتي”، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي، المدنيين بهجماتٍ متكررةٍ بالطائرات المسيرة والمدفعية. وتشير بيانات الأمم المتحدة إلى فرار أكثر من مليون شخص من الفاشر خلال الحصار الذي فرضته قوات الدعم السريع منذ 18 شهراً، وبقاء ما يقرب من 250 ألف مدني وسط أزمة غذائية خانقة وانهيار شبه كامل للخدمات الصحية والمعيشية، مع نقصٍ شديدٍ في الأدوية والمستلزمات في المستشفيات نتيجة القصف.
وتُعَدُّ السيطرة على الفاشر انتصاراً سياسياً مُهماً لقوات الدعم السريع، وقد تُعَجِّلُ بتقسيم البلاد عبر تمكين القوة شبه العسكرية من تعزيز سيطرتها على إقليم دارفور مترامي الأطراف، الذي اتخذته مقراً لحكومة موازية شكلتها في صيف هذا العام. وسيطرت قوات الدعم السريع أيضاً على مدينة بارا في ولاية شمال كردفان، التي تمثل حاجزاً بين دارفور والعاصمة السودانية والنصف الشرقي من البلاد الذي يسيطر عليه الجيش. ولطالما جرى التحذير من أنَّ استيلاءَ قوات الدعم السريع على المدينة سيؤدي أيضاً إلى هجماتٍ عرقيةٍ، كما حدث عند سيطرتها على مخيم زمزم جنوبا.
وتمثل المدينة المركز الاقتصادي النابض في شمال دارفور، وتشتهر المناطق المحيطة بها بإنتاجيتها الزراعية في محاصيل كالدخان والذرة والفول السوداني، بجانب تربية الماشية، إذ تملك المنطقة ثروةً حيوانيةً هائلةً منها، كما تعد المدينة السوق المركزي لأبناء الولاية، إلى جانب كونها نقطة عبور نشطة للبضائع من وإلى السودان نتيجة مجاورتها لكل من ليبيا وتشاد.
السيطرة على الفاشر من تداعيات الحرب في إقليم درافور
لا يمكن فصل ما يجري في الفاشر عن البنية التاريخية للحرب الأهلية التي حصلت في إقليم دارفور، حيث تداخلت الانقسامات العرقية والقبلية مع هشاشة الدولة السودانية، بعد انفصال جنوب السودان، الَّذِي أَنْهَى عقوداً مِنَ الْحَرْبِ الْأَهْلِيَّةِ لَكِنَّهُ تَرَكَ تداعياتٍ كَبِيرَةً. كما تحولت الحرب الأهلية التي دامت ثمانية أعوام في إقليم دارفور بغرب السودان بين ميليشيات (الجنجاويد) التي تدعمها حكومة الخرطوم والحركات المتمردة التي رفضت اتفاق السلام الموقع في أبوجا، في أيار (مايو) 2006، إلى صراعٍ دامٍ مفتوحٍ بين أطرافٍ عديدةٍ يهدِّدُ بتقويض أكبر جهود إغاثةٍ إنسانيةٍ في العالم. فالميليشيات ومتمردون وجماعات منشقة على جماعات التمرد وقطاع طرق ونحو ما يزيد على 70 قبيلة يتقاتلون على كل شيء؛ من السلطة إلى قطعان الماشية.. يدمرون القرى ويشردون مزيداً من الناس ويغتصبون موظفي الإغاثة ويخيفونهم لإبعادهم.
الحرب الأهلية في السودان، لم تكن محصورةً في الجنوب، بل متجذرةً في النسيج المجتمعي السوداني من دارفور إلى كردفان والشرق، وتركزتْ النقمة المحلية على الأرض، وهي ذات خلفيةٍ مزدوجةٍ: الخلفية العميقة هي الإرث الاستعماري الذي قسّم دارفور بين القبائل، بحيث أعْطَى بعضها أراضي وحَرَمَ الأُخرى. أما الخلفية المباشرة فهي أربعة عقود من الجفاف والتصحّر فاقمتْ الصراع بين القبائل التي تمتلك الأرض والقبائل التي لا تمتلكها. فالتمرّد هو الذي أوصل الحال إلى حرب أهلية (قبلية) متواصلة.
الصراع في دارفور هو بالأساس صراع ٌعلى الأرضِ، ونجم عنه حدوث وحشية فظيعة، لأنَّ الطرفين في هذه الحرب الأهلية استخدما وسائل فتاكة وذلك ينبع من نقطة الانطلاق الطبيعة للصراع: الصراع على الأرض يتعلّق ببقاء الجماعة.
إنَّه صراعٌ بين مشروعين للسيطرة: الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي يسعى إلى استعادة السلطة المركزية، وإخضاع الميليشيات، مستنداً إلى شرعية الدولة والاعتراف الدولي، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تمثل مزيجاً من القوة العسكرية الميدانية والامتداد القبلي، وتحظى بدعمٍ ماليٍّ وعسكريٍّ من أطرافٍ خارجيةٍ، لا سيما من دولة الإمارات المتحدة، أسهم في ترجيح ميزان القوة لصالح قوات الدعم السريع في معركة الفاشر، عبر توفير المرتزقة والأسلحة الحديثة والمسيرات، يضاف إلى ذلك العائق الجغرافي والعزلة التي عانت منها الفاشر فلم يتمكن الجيش السوداني من كسر الحصار أو توفير الإمداد الكامل.
التدخلات الإقليمية والدولية في السودان
لقد تمكنتْ قوات الدعم السريع التي اعتمدت على الدعم الإقليمي المكثف لتحقيق أهدافها، من الحصول على إمدادات دائمة عبر مثلث ليبيا وجنوب السودان وتشاد، مما منحها أسلحة متطورة كالطائرات المسيرة في حين عانت قوات الجيش من القطيعة اللوجستية وانعدام الدعم إلا عبر الإسقاط الجوي، الذي أصبح معقداً وخطراً مع قدرة المليشيا على الحصول على مضادات طيران حديثة.
ويرتبط مستقبل الفاشر وإقليم دارفور كله بمدى قدرة القوى المسيطرة على تحويل السيطرة العسكرية إلى نظام حكم وسيادة فعلية، مع القدرة على توفير برامج اقتصادية أو أمنية وخدمية مستقرة، وبلورة رؤية شاملة لإعادة بناء المؤسسات المحلية وضمان الحقوق الفردية والجماعية. ويريد حميدتي جعل إقليم دارفور نقطة ارتكاز للتمدد في كردفان، وتصبح ورقة تفاوضية رئيسية إذا دخل في مفاوضات، أما إذا لم يفاوض فإنه يسعى لتأسيس نموذج قريب من النموذج الليبي في السودان.
لا يخفي السودانيون اليوم تخوفهم من ملامح المرحلة القادمة وعما ستحمله لهم من مفاجآت على المستويات الاجتماعية والأمنية والسياسية. فالسودان أصبح معرضاً لكي يصبح مثل ليبيا أو اليمن ساحة مهيأة لانتقال صراع المحاور الاقليمية إليها.. ويقول بعض النشطاء في الحراك الشعبي السوداني أنَّ بعض الدول الإقليمية تخشى انتقال الاحتجاجات إليها وهذا ما دفعها للبحث عن دور جديد لها في الأزمة الدائرة … والمعلوم أنَّ النظام السوداني تربطه علاقات قوية بتركيا وحلفائها الإقليميين وهذا ما دفعه إلى الموافقة على إهداء جزيرة سواكن على البحر الأحمر إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: فكانت من أهم مطالب الحراك السوداني إلغاء عشرات الاتفاقيات التي “تسمح باستغلال تركيا للأراضي السودانية عسكريا واقتصاديا لخدمة الأتراك فقط”.
يرى المراقبون للشأن السوداني أنّ الجيش السوداني ليس جيشاً محترفاً يعمل تحت سقف قيم الجمهورية كما هو الحال في الديمقراطيات الكلاسيكية الغربية، بل إنّ الرئيس المخلوع البشير عمل على إضعافه عبر إنشاء مليشيات قوية التسليح، ضخمة العدد، تعمل قوةً موازية له، يقودها الفريق دقلو، الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس المجلس العسكري الذي سوف يتولى، مع الحكومة المدنية، إدارة الفترة الانتقالية.
يمثل السودان مَطْمَعاً للسعودية والإمارات والكيان الصهيوني، بسبب احتياجاته المتزايدة للمساعدات المالية، إذ تصاعدت طيلة عام 2020 الاتصالات بين الإمارات ومجلس السيادة الانتقالي بالسودان لدفع الخرطوم لاتخاذ موقف أكثر مرونة وسرعة في اتجاه التطبيع الكيان الصهيوني، مع التعهد بحوافز مختلفة من الإمارات والكيان الصهيوني، تتمثل في مساعداتٍ اقتصاديةٍ وفنيةٍ كبرى، في مجالات الري والزراعة والموانئ واستكشاف البترول والغاز الطبيعي.
في المحصلة النهائية تُعدّ الفاشر بوابة استراتيجية لأي تحوُّل محتمل في موازين القوى في السودان، لا سيما أن تراجع سيطرة الجيش وامتداد نفوذ “الدعم السريع” قد يفتح خطوطاً إضافية لتهريب السلاح والمقاتلين والذهب شمال-غرب السودان نحو ليبيا. ومن الناحية الاقتصادية، بات تهريب الذهب من غربي السودان يشكل مصدر تمويل رئيسياً لقوى الحرب هناك، وتعدّ شبكات التهريب التي تمرّ عبر السودان إلى مصر وليبيا من بين الروابط التي تغذّي ما يحدث على الأرض.
خاتمة: مستقبل السودان مرتبط باستعادة بناء الدولة الوطنية
يُشكلُ سعي قوات الدعم السريع إحكام قبضتها على إقليم دارفور، دخول الحرب الأهلية السودانية في مرحلةٍ جديدةٍ، إذْ صارت البلاد مُنْقَسِمَةً بحكم الأمر الواقع بين المتحاربين، حيث يسيطر الجيش السوداني على الشمال والوسط والشرق، بينما تسيطر قوات الدعم السريع على كل دارفور تقريباً وأجزاء من الجنوب. ويرى الخبراء أنَّ تشكيل حكومتين في السودان قد يؤدي إلى حالةٍ من الجمود شبيهة بما حدث في ليبيا أو حتى إلى تفكك أسوأ من ذلك.
لا يزال السودان يعاني من تبعات حربٍ طويلةٍ ومكلفةٍ في الجنوب، ومعضلة إنسانية لامتناهية ومتنامية في دارفور، فضلاً عن مشاكل أخرى في البلد. وكان تاريخ المشكل السوداني ولايزال هو تاريخ طويل من الإهمال والتهميش عمدت إليه الحكومات المتعاقبة للأقاليم السودانية المختلفة.. فالصراعات السودانية لها جذور تاريخية عميقة، منها ما هو من مخلفات الاستعمار البريطاني- المصري، ومنها ما هو نتاج سياسات غير حكيمة في تناول الشأن السوداني – السوداني، لكن منها كذلك ما هو نتاج الطبيعة الإثنية والدينية المتعددة للبلاد والتي كانت دائماً ذات أبعاد متعددة، أحياناً قبلية، وأحياناً دينية (مسلمين، مسيحيين، احيائيين) بالإضافة إلى أبعاد إثنية (أفارقة، عرب… إلخ).
كما أن أزمة السودان تتجسد في أزمة ديموقراطية وأزمة حادة في الهوية. ففي السودان أنْ يصف شخص نفسه بالأخلاق العربية يعني أنَّه أعلى شأناً من السودانيين ذوي البشرة الأدكن. فالإرث الاستعماري الذي خلق تقسيمات عنصرية بين ما يعرف بالمسلم “العربي” في الشمال والمسيحي والإحيائي في الجنوب والمسلم “الإفريقي” في الغرب استمر مع الأسف بدرجات مختلفة مع الحكومات السودانية المختلفة، إضافة إلى استمرار التهميش والمعاناة لدى السودانيين في جنوب وغرب وشرق وشمال البلاد. وقد نتج عن ذلك نظام طائفي غير معلن مبني على أساس اللون والدين والعرق.
والحالة هذه فإنَّه لإيجاد مخرج لأزمة السودان، يتطلب الأمر حكومة مرنة ومستعدة تماماً للتفاوض مع حركات التمرد الأخرى، والعمل بجد على سد الهوة الفاصلة، وهذا يتطلب من جهة الإقرار بمشروعية المطالب والعمل على تلبيتها وتوفير الحلول اللازمة، كما يتطلب من جهة الحركات المسلحة نوعاً من البراغماتية، والتنازلات المتبادلة، وعدم التعصب.
التسوية السياسية هي المخرج الحقيقي للأزمة السودانية، لكنَّ هذه التسوية يجب أن تقوم على توافقٍ وطنيٍّ داخليٍّ حقيقيٍّ يتجاوز المصالح الضيقة، ويضع مصلحة السودان فوق كل اعتبارٍ، ووقف التدخلات الإقليمية التي تغذي نيران الحرب الأهلية والتقسيم للبلاد. ومن شروط هذه التسوية تحقيق وقفٍ شاملٍ ومستدامٍ لإطلاق النار لا يقتصر على الأغراض الإنسانية، واستئناف العملية السياسية لبناء دولة مدنية عادلة تسمح بالتنوع وتمكن استعادة مؤسسات الدولة الوطنية. كما تتطلب هذه التسوية دعماً دولياً وإقليمياً غير متدخلٍ، بسهم في إطلاق عملية السلام المستدامة، بدلاً من إعادة إنتاج الأزمة.
