هامش ثقافي

دور النخب الثقافية في المجتمع

بقلم غسان عبد الله

وهنا نرى أن أي مجتمع يتطور، وتتغير مسيرته نحو الأمام؛ فإن المحرك له ليست فئة واحدة بل عدة فئات. ولكن ما تسميات هذه الفئات أو حتى الجماعات طالما أن التغيير والبناء بحاجة إلى عقول ومسؤوليات متعددة المجالات والتخصصات، وهذا بالفعل ما جعل الأوطان تختلف عن بعضها البعض وفقاً لهذه الفئات والجماعات التي تقود المسيرة، لذلك ترى مجتمعاً يتصف بالتطور والتقدم والتحديث المستمر، في مقابل مجتمع لا يزال في مثلث الفقر والجهل والمرض.

وبما أن المجتمعات الإنسانية بحاجة إلى هذه الفئات، فإنها لا محال تعيش تحت مفهوم أو مصطلح يعرّفها ويوضّحها للمجتمع والتاريخ، وهذا المفهوم هو النخبة، أو النخب المجتمعية، فهناك نخب سياسية، ونخب اجتماعية، ونخب اقتصادية ونخب ثقافية ونخب دينية، وفي سياق هذا التعدد هناك ما يجمع هذه النخب في دلالات معينة أو يجعلها في محيط يكاد يكون واحداً أو على الأقل متشابهاً.

ولو دخلنا في كل هذه الجماعات النخبوية فلن ننتهي سواء في دلالتها أم في نوعية عملها أو في دورها المجتمعي لما لهذه النخب من أفكار سياسية وتطلعات قد تكون حزبية، وبرامج ربما مؤدلجة، ولكن نقف أمام النخبة المثقفة سواء بثقافة عامة أم بثقافة خاصة، التي ينبغي عليها أن تسهم في رقي المجتمع فكراً وتطوراً في ممارسة الدور المجتمعي، وهو دور ليس سهلاً أو بسيطاً على أرض الواقع، حيث النخب الثقافية لم تأت صدفة أو وفقاً للنسب والمال، وإنما حضور النخبة الثقافية منطلق من التعليم والثقافة والقراءة والكتابة والإبداع في مجالات الفنون والآداب والفكر، لذلك يكون عملها متشعباً بين العلاقة الأهلية وبين فئات المجتمع، وبين أصحاب القرار في الشأن الثقافي، وبين تلك التطلعات التي تحلم بها وهي ترسم سياسات المشهد الثقافي للمجتمع، ومدى تحمُّلها مسؤولية الدفاع عن القضايا الثقافية الكبرى المعنية بالمواقف الثقافية تجاه القضايا العالمية أو العربية أو حتى المحلية، وكذلك دورها في احتضان المثقفين الشباب، فضلاً عما يتعلق بالكتابة والنشر وغيرها.

ولكن للأسف مع تقدم العالم في وسائله وتطلعاته من جهة، والتقدم العلمي والتكنولوجي من جهة ثانية؛ تغيرت كل المعايير وتبدلت المثل وتحولت الأفكار من تلك التي تصب في الصالح العام والبناء المجتمعي ونكران الذوات، إلى الاستحواذ وحب التملك والرغبة في العمل الفردي، والابتعاد عن هموم الشارع.

وإذ لا نلوم من ابتعد وجعل دوره في البحث عن الأفكار والتقوقع مع الذات، إلا أن أي مثقف أو بالمعنى الكبير النخب المثقفة عليها أدوار جمة شاءت أم أبت طالما أفراد هذه الفئات دخلت عالم الثقافة، حيث شعور النخب المثقفة في ظهور التطرف وأحادية الفكر والتوجه ونكران الآخر وعدم الاهتمام بهذه النخبة من قبل السلطات السياسة عامة والمؤسسات الثقافية الرسمية التي حاولت بعض النخب جماعات أو أفراداً التقرب إلى أصحاب القرار السياسي من تقديم الرؤى وتحويل ما تؤمن به إلى واقع ملموس، في مقابل هذا هناك نخب ثقافية اعتقدت عكس ذلك، فهي مؤمنة بأن تحقيق أحلام المجتمعات يكمن بالمطالبة بعيداً عن القرار السياسي، لكن الاثنين تقوقعا في أمكنتهما ولم يخرجا للنور، أما الذين تملقوا وحاولوا الوصول فهؤلاء ليسوا المعنيين بالأمر، لأن مصالحهم هي الأساس.

وبعدما هيأت بعض الأحداث، لخروج بعض أفراد المجتمع مدعين أنهم نخب ثقافية، ونادت بالدفاع والعمل؛ علينا أن ننظر إلى تلك النخب التي فضلت الانزواء، فأتصور أن هناك أسباباً داخلة في صلب تكوين هذه النخب بعيداً عن الظروف الموضوعية، مثل: طبيعة هذه النخب التي برزت في مجتمع كان بحاجة ماسة لها، وبالتحديد تلك النخب المنادية بالتطور الفكري والثقافي والاجتماعي، وكذلك حالة الانسجام بين أفراد كل جماعة من الجماعات التي تمثل النخبة، سواء أكان هذا في التعليم والتخصص، أم في التنشئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية أم الدينية، أم في المرحلة العمرية، وهذا الانسجام بالطبع يسهم في بلورة الأفكار والتطلعات والأحلام، وكيفية العمل للمحافظة على المصالح الخاصة لهذه المجموعة أو تلك، وهنا لا أعني كما يشاع بين البعض أن هذه النخب لم يعد لها دور في المجتمع، بل ليس المجتمع بحاجة لها، فهي نخب تقليدية، وأتصور هذا إجحاف بحق هذه النخب.

أما اليوم فإن وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية صنعت العديد من الذين يرون أنفسهم من النخب وهم لا يحملون فكراً ولا تنويراً ولا رؤية تجاه التغيير والتطوير، إنما دورهم في الجانب الاجتماعي السطحي تماماً، وهنا ربما يقع اللوم على المؤسسات الإعلامية والمحطات الفضائية التي تفتقد البرامج ليس التوعوية بل البرامج الثقافية العميقة التي تحفر في القضايا المصيرية للإنسان والمجتمع والعالم، لا أن تستخف بالعقول، لأن لهذه المحطات دوراً في صناعة النخب أيضاً، ومن يتابع محطاتنا الفضائية في المنطقة يعرف هذا تماماً، بل إن الظروف المحيطة بالإنسان عامة، وفي المنطقة بشكل خاص قد هيأت أيضاً لظهور جماعات غير جماعات الإنترنت، وصنعتها معطيات دولية على اختلاف تعاطيها مع هذه الفئة أو تلك، هي جماعات أرادت تغيير المجتمعات بحسب ما تؤمن به، وهذا ما كان يتعارض وفكر النخب المثقفة التي صنعتها الدراسة والثقافة والحلم الذي يرتقي بالمجتمع لا يعود به إلى التاريخ.