فضاءات فكرية

لا تطوّر من دون نقد ولا ازدهار من دون معارضة بنَّاءة

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

فهذا حقّ للفرد والأمة كفله قانون الدولة الإسلامي، ورعى تطبيقه حاكم الدولة الإمام علي(ع)، بل وحرص عليه ودافع عنه، طالما أنه بقي في إطاره السلمي القانوني البعيد عن توسّل أدوات القوة والعنف.. بما يعني أنه كان يعترف رسمياً ويقرّ عملياً بضرورة وجود المعارضة وحقها الشرعي الديني في أن تقول وتتحدث وتعلن بما تشاء وترغب به وتراه انحرافاً في سياسات الدولة، أو مخالفة أو مشاركةً في تقويم الأداء وتحسين مسيرة الحكم وتطويره، طالما لم يخرج عن مناخ وسلوك الإيمان والتقوى والصدق في النقد وممارسة المحاسبة الفعالة والمنتجة.. جاء عن الإمام علي(ع): “كثرة الوفاق نفاق، وكثرة الخلاف شقاق“.

فالنقد البناء والنصح الحقيقي القائم على وجود رؤية واعية مسؤولة ضروري وحيوي ومطلوب، دعت إليه نصوص الدين العظيم، وطالبت قادة الدولة بالالتزام به، والغاية تكمن في الوقوف على مكامن الخلل والترهل والضعف وسوء الأداء في مؤسسات الدولة.. يقول الرسول الكريم(ص): “المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، ينصحه إذا غاب عنه، ويميط عنه ما يكره إذا شهده، ويوسع له في المجلس”..

لقد قدم الإمام علي(ع) نموذجاً رفيعاً في تعامله مع فكرة المعارضة في المجتمع والدولة، وكان شرطه الوحيد فقط هو ألا تقوم المعارضة بتوسّل أدوات العنف، وأن لا تسيء للنظام العام، ولا تخل بأسسه الأمنية، بما يؤدي إلى استباحة حرمات الناس والمجتمع، ويحوله إلى فوضى بلا قانون ولا عدالة.. والدليل على ذلك أنه لم يقم بأي إجراء سياسي ولا اجتماعي ولا اقتصادي بحق من رَفَضَ أنْ يبايعه، يقول (عليه السلام): “فمن بايعَ طائعاً قبلتُ منه، ومنْ أبى تركته”.. فهذه حرية حقيقية كفَلها الإمام بل كفلتْها نصوصُ الدين وهو(عليه السلام) كان المشرف على التنفيذ والقائم الحريص على آليات التطبيق.

ثم كيف يمكننا أن نقرأ طريقة تعامل الإمام علي(ع) سياسياً مع معارضيه من الخوارج الذين سبوه وشتموه ولاحقاً قتلوه من خلال فكرهم العنيف وسلوكهم العدمي ورفضهم لأية حلول سلمية؟!. لقد اعتبر الإمام علي(ع) أن الخوارج عموماً (وعلى الرغم من تخشّبهم وتجبّرهم الفكري الديني) هم مجرد طلاّب حق، لكنهم أخطأوا طريق الوصول إلى هذا الحق، وضلوا عن سبيله.. يقول(ع): “لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليسَ من طلبَ الحقَّ فأخطأه، كمَنْ طلبَ الباطلَ فأدركَه”.

ولهذا رأيناه يسمح لهم بالتجمع والتنظيم وإقامة الفعاليات واللقاءات في الجوامع وفي خارجها، كحزب أو كجماعة سياسية (دينية) معارضة له ولنهجه وخطه في قيادة الدولة والمجتمع، مع أنهم كانوا يسبونه ويشتمونه، ويعترضون للأسف على شخصه وفكره قبل قيادته وترأسه قيادة الدولة.

ومع أنهم قاموا بتكفير الإمام(ع)، وأعلنوها في الآفاق، فلم يحرمهم(عليه السلام) من حقِّ الاعتراض كمسلمين لهم حقوق سياسية وغير سياسية.. يقول(ع): “ألا عندي لكم ثلاث خصال ما كنتم معنا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم فيئاً ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا”.

وهذا كله (تقبل النقد وقبول الرأي الآخر) جاءَ تأسيساً وترسيخاً لفكرة المعارضة السلمية، وضرورتها في الدولة، وقد قدم(ع) مثالاً يحتذى عبرَ كل الأجيال عن هذه “الفطرة – القيمة” التي لم يأخذ بها كثير من العرب والمسلمين في كل مسيرتهم التاريخية للأسف الشديد، مع أنه مارسَها وكانَ يشجعُ عليها ويطلبُ من الناس الالتزام بها، رافضاً كل أشكال المديح والثناء.. ويذكر التاريخ لنا أنه عندما قام أحد الناس بمدح الإمام علي(ع) قائلاً: أنت أميرنا ونحن رعيّتك… فاخترْ علينا وأمضِ اختيارك، وائتمرْ فأمضِ ائتمارك، فإنك القائلُ المصدّقُ، والحاكمُ الموّفق..؛ فما كان منه عليه السلام إلا أن ردّ قائلاً بكلمات تكتب بماء من ذهب، وتشكل معياراً للحكم الصالح: “فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي على الله وإليكم من التقية في حقوق، افرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ“.

من هنا، وانعكاساً على واقعنا العربي والإسلامي الراهن، وقياساً على تحولاته ووقائعه، باعتبار أنه يجب دراسة تلك التجارب القيمة وأخذ العبر منها، يمكننا القول بأن الثقافة الإسلامية في عصرنا الراهن تكتسب على هذا الصعيد أهمية بالغة، تجعلها على رأس الأولويات والمهام الملقاة على عاتق كثير من الدعاة والمثقفين والنخب الملتزمة إسلامياً، وذلك من أجل العمل على إدخال هذه الثقافة الإنسانية – بتعابيرها وتجلياتها المتعددة – إلى واقع العصر المتنوع الذي نعيش فيه الآن، والذي يتميز بمظاهر جديدة، وتغيرات شديدة التنوع، والتغير، والتحول.. كما وأننا نشهد فيه ظهور حاجات، وأوضاع سياسية وثقافية واجتماعية مستحدثة تتطلب منا الوقوف المتأني والدقيق، والدراسة الموضوعية الهادئة لمجمل تلك التطورات المتعددة في أبعادها ودلالاتها. ولعل من أولى الواجبات والمهمات المطلوب العمل عليها حالياً (ودائماً) في داخل اجتماعنا الديني الإسلامي، هي مهمة النقد وقضية المساءلة النقدية الموضوعية للفكر، والسياسة، والتاريخ، والثقافة الحضارية لأمتنا ككل، بأشكالها وهمومها المختلفة.

ونحن نعتقد أن تهميش، أو غياب وتغييب هذه الوظيفة الحضارية الحيوية – والعمل على تركيز سيادة الرأي الواحد في الأمة، وغلبة الفرد (وهيمنته) على المجتمع – كان من أهم الأسباب التي أسهمت في فقدان الأمة لقدرتها على النهوض بعد سبات طويل، وتثبيط عزائم أبنائها وإرادات نُخَبِها عن العمل والحضور المنتج، وعجزها عن تجاوز كثير من موانع ومعيقات الحركة والامتداد إلى ساحة الحياة، وبالتالي وقوفه حائلاً بينها وبين وصولها إلى قيم الانفتاح والحرية والتجدد والابداع الحضاري الإنساني.

وإذا كان الدين – بعظمته، وجلال قدره – يرفض الجمود، والوقوف على الخطأ، ويستنكر التقديس الزائف، وعبادة الشخصية، وسيادة الرأي الواحد، وسيطرة القوالب المسبقة.. كما لاحظنا في تجربة حكم الإمام علي(ع)، بل وأكثر من ذلك: إذ يأمر هذا الدين أصحابه والمؤمنين به بأن يلتزموا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – وهي أساس عملية النقد والمساءلة – فلماذا لا تعمل أمتنا – التي عانت ما عانته من التخلف والجمود – على إعلاء شأن النقد، وتعميق الحس النقدي العلمي والموضوعي في كل مواقعها ومفاصلها الخاصة والعامة؟!.

وإذا عدنا – تأسيساً – إلى كلام الله تعالى، فإننا نجدَ أنّ القرآن الكريم نفسه سلك طريق النقد الهادف والمساءلة العقلية، لكل تجارب وأفكار الماضين، وبخاصة الماضي الذي كانت تعيشه الأمة التي نزل فيها القرآن. وفي ذلك تأكيد – كما نعتقد – على الحقائق الجديدة، وتوجيه للإنسان من أجل أن يبقى في حالة انفتاح وتواصل فكري متحرك.. وهو تأكيد أيضاً لكل الناس بأن الجيل الحاضر لا يتحمل مسؤولية الجيل الماضي.. كما أنّ على كل جيل أن ينطلق في الحياة ليكسب فكره، وعمله، ويمارس نشاطه وفاعليته التاريخية لوحده، وبنفسه. يقولُ تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(البقرة/134).

وفي هذا المجال نحنُ نعتبرُ أنّ اكتسابَ الفكر والمعرفة النقدية -اللازمة للشروع بمستلزمات النهوض، والقيام بدور المثقف الناقد لتجربة الحاضر، وتجارب الماضين- يتم من خلال ما يلي:

  1. إعادة الاعتبار لمكانة ودور العقل، وجعله أساساً للوعي والتفكير الإنساني.
  2. التأسيس الجدي للحوار في كل مفاصل الأمة، والاعتماد عليه كوسيلة رئيسية من وسائل الوصول إلى حل الخلافات، والانقسامات الراهنة.
  3. دفع الإنسان المسلم إلى مواقع العمل والانتاج الروحي والمادي، من خلال الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، والسعي باتجاه امتلاك زمام المبادرة في ميادين الحياة.
  4. إثارة الكفاءات الفكرية والعلمية، واعتماد الجهد العملي والانضباط المسؤول أساساً للتمايز والتفاضل في كل مواقع الحياة الإسلامية.
  5. الدعوة إلى (والدفاع عن) هدف الحرية العامة في المجتمع، في نطاق المسؤولية والالتزام الواعي كمنطلق للإنسانية الرفيعة والكاملة.
  6. تحريك الطاقات والمواهب العامة للناس -في مختلف مواقع المجتمع- باتجاه الحق والمعرفة الملتزمة والمعتبرة، من أجل المساهمة في تعزيز حضور الأمة، وشهودها، ومقاومة الموت المفروض عليها، (التخلف والكبت والقلق السلبي والجهل والحصر ووإلخ). 
  7. تعميقُ حس الالتزام بالضوابط الأخلاقية الشرعية والإنسانية من خلال الانفتاح على الله تعالى مطلق الكون والوجود والحياة، ليزداد الإنسان –من خلال ذلك- نمواً واتساعاً وارتفاعاً في مواقع الخصب والعطاء والانتاج.

بمعنى آخر علينا إطلاق الإسلام القرآني كدليل تقدم واقعي، وكمنطلق تيار حضاري نقدي منتج وفاعل.. ولا شكّ بأننا لنْ نخطو خطوةً واحدة باتجاه تمثّل وتحقيق تلك القيم والمبادئ ما لم نعيد النظر في طبيعة البنية الداخلية الإسلامية، بأن نشتغل على إصلاحها من جديد. فالجزء الأساسي من المعركة الحقيقية مع التحديات الخارجية كائن أصلاً في داخل ذاتنا الحضارية الراهنة، قبل أن يكون مع بنية التحديات الخارجية.. لأن إنجاز مشروع النهوض لا بد أن يمر عبر إعادة بناء إنساننا.. بناء الفرد، والعمل –كما ذكرنا-على إثارته وتحريك طاقاته الهائلة، من خلال إقامة الدولة العادلة الحقوقية المؤسسية.. يتم فيها ومن خلالها تهيئة أجواء إفساح المجال (للفرد – المواطن) ليشعر بأنه يعيش في مجتمع سياسي، يعترف بوجوده، وتتسع فيه مساحة الحقوق والواجبات.

أجل إنها معركة تحرير الذات والبنية العربية الإسلامية من الفرد وصولاً إلى الدولة، من علاقات النفي والنفي المتبادل إلى علاقات التكامل، من عدم الاعتراف بحق الأفراد في الاختلاف إلى قيام أوسع دائرة من الاعتراف بحق الاختلاف في الاجتماع العربي الإسلامي.. وهذا لن يتم ويتحقق إلا بوجود مساحة مهمة وحيوية للمعارضة البنّاءة والمسؤولة، فهي حاجةٌ ضرورية وملحّة وأكثر من حيوية، وهي تكون بمثابة “نظام المناعة” في أي جسم بشري، يأتي ليكون جهازَ إنذار منبّه وكاشف عن مواطن الضعف والسقم والخلل..!!

ولهذا فلنْ يكسبَ العربُ أية معركة داخلية أو خارجية دون كسب معركة النقد والمعارضة، أي معركة الحرية والعدالة، والاعتراف بحق الإنسان العربي في أن يكون مواطناً حراً كريماً فاعلاً حاصلاً على كافة حقوقه المواطنية في بلدانه.. المواطن المحروم من أبسط حقوقه، خاسر على كل الجبهات وفي كل المعارك..!!.