الإنسانُ في فعلهِ الحَضاري والثّقافي هلْ من حَضارة وثقافة حقيقية إنسانية مُعاصرة؟!
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
بعْدَ أنْ وعى وامتلكَ زِمام المُبادرة وأرشدته رسالاتُ السماء وتوجيهات الأنبياء، تمكن الإنسان من بناء مستوطناته الحضارية الأولى على شكل مدن وممالك أنشأها قرب الأنهار والسواقي على الأراضي الخصيبة ليبدأ وجوده وحياته وإنتاجيته..
لقد انطلقت وبدأت أولى التجمعات والمجتمعات المستقرة في كل من العراق وسوريا ومصر، منذ الألف العاشرة قبل الميلاد، واعتبرت تلك المناطق مهداً للحضارات الإنسانية الأولى، لتشعّ منها أولى.
هذا الفعل الحضاري لم يأت لوحده، بل جاء نتيجة عمل وجهد وإنتاج ثقافي (حيث كان تأثير الدين والمقدس على حياة الإنسان وسلوكه وعلاقاته وإنتاجه الحضاري المادي.. فما هي الحضارة؟ وما هي الثقافة؟.
لقد تميز مفهوم “الحضارة” منذ ظهوره في البنية الفكرية الفريق لأول مرة عام 1772م، بغناه وتعقده إلى درجة أن “كروبر” و”كلوكهان” حلّلا ما يقرب من 160 تعريفاً له، وصنّفا هذه التعاريف في ست زمر: وصفية، وتاريخية، ومعيارية، ونفسية، وبنيوية، وتكوينية.
والواضح أن مسألة العلاقة ما بين الحضارة Civilization والثقافة Culture هي من أبرز مظاهر تلك الكثافة من التعقيد والغنى والحضور العملي.. ويعود طرحها للمرة الأولى إلى الفترة الواقعة بين عامي 1845م و1858م، حين ميز “ألكسندر دوهومبولت” بينهما، جاعلاً “الحضارة” معادلة للجوانب التقنية والمادية الصنعية البشرية، بقدر ما جعل الثقافة معادلة للجوانب الأيديولوجية والمعنوية الفكرية والرمزية.
وقد هيمنَ هذا التمييز بشكل خاص على الفكر الألماني، إلا أن تطور الفكر الأنثروبولوجي – الذي ارتبط تقليدياً بدراسة تاريخ الحضارات وتحليل الفوارق ما بينها – تخطّى حدود ومعالم هذا التمييز إلى معنى أوسع وأشمل يقوم على أن الجوانب المادية والمعنوية في كل مركّب ومتكامل، تنطلق من العلاقات الداخلية الجوهرية الكائنة بين المظاهر المادية والمظاهر الثقافية. إذ يشير مفهوم الثقافة إلى البنية “السوسيو/ثقافية” والنفسية الاجتماعية الموازية لذلك الإنتاج المادي، والمتواشجة معه، بما يخلق لدى “أصحاب الثقافة” إمكانية التأثير والسّيطرة المتعاظمة على نشاطهم، ومحيطهم، وإنتاجهم المادي، على نحو أو آخر.
من هنا صدرتْ فكرة العلاقة ما بين الثقافة والتقدّم، من حيث إن تقدم الثقافة مرتبط بتقدم العقل. وقد أعطى تطوّر الفكر “الأثنولوجي” الثقافةَ أهميةً مركزية في تعريف “الحضارة” من خلال ظهور الأنثروبولوجيا الثقافية الأنكلو ساكسونية؛ ولا أدل على هذه الأهمية من أنّ هذه الأنثروبولوجيا توسعت وانتشرت وشاعت في مديات مكانية وزمانية تحت اسم “أنثروبولوجيا الثقافة” لا تحت اسم “الأنثروبولوجيا الحضارية” الذي لم يتم استخدامه إلا على نطاق محدود. بل إن البلدان “الأنغلوساكسونية” هجَرت مصطلح “الأنثروبولوجيا” نفسه وذلك بسبب ما التصق به من حمولات عرقية عنصرية ركّزت على مواصفات الإنسان الجسدية.
وقد ارتبطَ التعريفُ الأنثروبولوجي للثقافة باسم تايلور (1833–1917)م الذي كان أول من صاغ مفهوم الثقافة، وحدده بأنه “الكل المعقّد الذي يشتمل على المعارف، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقوانين، والأعراف، وغيرها من الاستعدادات والعادات التي يكتسبها المرء بوصفه عضواً في المجتمع”. ويرتبطُ هذا التعريف – على حد تعبير كلود ليفي ستراوس – بالاختلاف المميز بين الإنسان والحيوان، أو الثقافة والطبيعة، حيث يظهر الإنسان كفاعل منتج وكصانع أدوات للعيش والتمكُّن، فتبدو عندئذٍ العادات والمعتقدات والمؤسسات تقنيات بين أخرى، ذات طبيعة ثقافية، أي تقنيات في خدمة الحياة الاجتماعية.. ومن هنا أخذ مفهوم الثقافة يتضمن -في الاستخدام الفعلي– مفهوم الحضارة إلى درجة أننا لم نلمس اليوم سيادة نوع من مفهوم ثقافي خالص “للحضارة” يسلم باستخدام “الحضارة” و”الثقافة” في دلالة واحدة.
ويمكن القول هنا بأن الثقافة الألمانية هي وحدها التي استطاعت – من بين الثقافات الغربية كلها – أن تميز بوضوح بين الحضارة والثقافة، فضمنت المصطلح الأول – كما ذكرنا – كل ما يتعلق بالمكتسبات البشرية التقنية، وضمّنت الثاني وما يتعلق بالمكتسبات الفكرية والأدبية. أما في باقي الثقافات البشرية فلا يزال هناك خلط كبير بين هذين المصطلحين، وعادة ما يستخدم الواحد مكان الآخر من دون أي تأمل أو تفكّر.
أما في الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة فنحن نستخدم مصطلح” الحضارة ” للدلالة على معاني متعددة ومختلفة، يمكن أن تشمل على كل ما هو متحضر بالمقارنة مع ما هو همجي.. حيث نقوم بوصف نظمنا أو سلوكياتنا وأفكارنا بأنها “حضارية” للدلالة على مدنيتها ورقيها ورفعتها ومجدها، أو غير “حضارية” للدلالة على فقرها، وتخلفها وانحطاطها وانخفاض مستواها.
وإذا عدنا إلى قاموسنا العربي الكلاسيكي فإننا نجد أن كلمة “حضارة” مرادفة لكلمة “حاضرة” وهي مشتقة من “الحضر (أي سكان المدن) عكس “البدو” (أي سكان البادية). وعندما تحدّثَ ابن خلدون عما يشبه مفهوم الحضارة بلغتنا – أي التقدم المادي والمعنوي للإنسان أو للمجتمعات – استخدم كلمة “العمران” التي تشير إلى عمارة الأرض وبنائها على أسس مادية صلبة، ومن ثم ازدهار العمران والفنون، والفنون، والصنائع، والأفكار. لكنه نظر إلى هذا الازدهار من منظور كلاسيكي جعلَ منه دورةً ضمن دورات وحلقات نشوء الدولة وانهيارها. وارتبطت الحضارة عنده بالطور الأخير من العمران، الذي ترق فيه العوائد، والأذواق، وتزداد أنماط المعيشة دعة ورفاهاً. إن العمران مرتبط عند ابن خلدون بنشوء الدولة واستقرارها.. ولكنه اكتشف أيضاً – بموازاة ذلك – علاقة أساسية بين هذا الازدهار التابع لاستقرار الدولة، وبين عدم انقطاع حبل العلم. ومن هذه الناحية يقترب ابن خلدون كثيراً من بعض النظريات الحديثة التي تنظر إلى الحضارة من منظور تطور العلم، وتراكم المعرفة والتقنية البشرية.
والواقع أنه عندما انطلق العرب والمسلمون – خارج جزيرتهم خلال مراحل ومديات زمنية طويلة ليصطدموا لاحقاً بالواقع الجديد للحضارة الغربية من خلال حركة الاستعمار الحديث – استخدموا كلمة “المدنية” في مقابل كلمة الحضارة، وميزوا بين “المدنية الإسلامية” و”المدنية الغربية”، وعملوا على استيعاب الخبرة والمعرفة الجديدة القادمة من الحضارة الغربية، من خلال محاولتهم الارتقاء التاريخي ببعض وسائل وأساليب تنظيم حياتهم الاجتماعية والفكرية، وحتى السياسية.
وإذا أردنا أنْ ندخلَ في مسألة الفرق بين الحضارة والمدنية، فإننا نرى أن مفهوم “المدنية” ربما يكون أخص من مفهوم “الحضارة“. لأن الحضارة تشمل كل الحالات الإنسانية بما فيها الحالات التي تنطلق في أجواء الإنسان الذي يتميز ببعض الموروثات أو المكونات البدائية؛ وأما “المدنية” فهي التي تمثل المنهج السلوكي في حياة الإنسان من خلال المجتمع الذي يتميز بطريقة معنية في تكوين البيئة الاجتماعية، وفي تكوين النظام الذي يحكم الناس بشكل متقدم يبتعد بهم عن حالة البداوة.
انطلاقاً مما تقدم يمكن أن نقول بأن الحضارة – في مفهومها العام – هي كلّ شكل من أشكال تنظيم الحياة البشرية.. وهي – بالتالي – ثمرة جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته (في تفاعله التبادلي المادي مع الطبيعة ومحيطه الطبيعي)، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرات مقصوداً، أم غير مقصود، وسواء كانت الثمرة مادية أم معنوية. وبذلك تكون الحضارة حصيلة إيجاد علاقة خاصة، ونمط تعامل الإنسان مع العالم. ويتجلى في الإجابة عن التساؤلات، وتلبية الاحتياجات التي تظهر إلى الوجود بوحي من هذه العلاقة. وبناءً على هذا المعنى فللبدو أيضاً نوع من الحضارة. كما أن الإنسان منذ أن عاش بصورة جماعية كان يتمتع بصورة من صور الحضارة.
ولكن ما يجبُ لفت الانتباه إليه هنا هو أنه ليس كل تطور حضاري وصله الإنسان وحققه بجهده وكفاحه وكدحه الحياتي، هو دلالة على تطوره الثقافي العقلي.. كما أن التقدم العلمي ليس دليلًا على الثقافة والرقي الثقافي العقلي.. فالتعليمُ وحده لا يرقى بالناس، ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه، أو أكثر حرية، أو أكثر إنسانية، أو أكثر عدالةً.. إنّ العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر تمكيناً للناس والمجتمع، ولكنه يحتاج لثقافة أصيلة إنسانية (وقيم ومبادئ) إنسانية توجهه وتقاوده وتحدد له مساراته الطيبة والنافعة والخيرة في الحياة..
وفي قراءة سريعة للتاريخ – ليس القديم بل الحديث منه – يمكن أن ندلل على صدق ما تقدم، فقد شنت إدارات سياسية تحكم شعوباً متحضرة راقية مدنية، أبشع الظالمة الاستئصالية ضد دول ومجتمعات وشعوب مختلفة معها أقلَّ منها تقدماً علمياً.. ولكن ليس لهم من ذنب سوى أنهم يتطلعون للحرية والاستقلال والعيش الإنساني مثل بقية شعوب الأرض.. وهذا المثال الفلسطيني اليوم شاهداً حياً على ذلك.. حيث العدوان الصهيوني مستمر على قتل وسحق الفلسطينيين بدعم وغطاء غربي من دول متقدمة علمياً وحضارياً.. فها هي أمريكا أقوى قوة علمية وعسكرية في العالم تدعم القتلة والمجرمين والطغاة في كل مكان وخاصة بني صهيون في فلسطين المحتلة.. ولكنها ليست أعظم دول العالم ثقافةً (إنسانية طبعاً).. وهي هنا تشبه روما القديمة التي كانت نموذج لحضارة قوية، ولكنها كانت محرومة من الثقافة والمبادئ الثقافية الإنسانية الأصيلة.
إننا في اجتماعنا العربي والإسلامي لدينا حضارة ثقافية إنسانية أصيلة، انطلقت من مبادئ الأخلاق والدعوة للحقوق الإنسانية وعلى رأسها الخرية والعدل والكرامة.. وحضارتنا عاشت مع الغريب والمختلف، قبِلتِ الآخر، وتفاعلتْ معه أخذاً وعطاءً، انطلاقاً من معاييرها الدينية الإنسانية، ولم يفرضْ عليها أحدٌ هذا الوعي الإنساني الأصيل، كما وتعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره قانوناً وسنةً من سُنَنِ الكون والحياة.. ومن يراجع كتب الإسلام المعيارية المقدسة ونصوص الحديث النبوي والإمامي يجد أن الإسلام والحضارة الإسلامية هي حضارة تعايشية إنسانية متميزة تقوم على أسس ثابتة من العدل والأخلاق، وهي حضارة إنسانية تقوم على التفاعل الخلّاق والتكامل مع الحضارات الأخرى، وليس على التناقضات والصراعات والحروب وإثارة الفتن والقلاقل.. والقيم الإنسانية في الإسلام – التي تقوم عليها هذه الحضارة – هي قِيَمٌ معيارية راسخة وثابتة مع الجميع، وفي كل الأحوال والمتغيرات الطبيعية والبشرية.