فضاءات فكرية

التكوينات الاجتماعية وأهمية التنوع الحضاري لبناء الدولة الحديثة

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

والاختلاف والتنوع لم يقتصر على الانتماء القومي أو الحضاري أو الاثني أو القبلي أو الديني أو غيره، بل تعداه إلى الجنس واللون والشكل، وحتى الأمزجة والطبائع والقناعات الفكرية والسياسية وغيرها تختلف من شخص لآخر..

هذا الاختلاف والتنوع والتعدد انسحب من الواقع الطبيعي البشري إلى واقع الفكر والسياسة التي تدير دفة الدولة بما هي صيغة حكم وفصل للخصومات وإقامة العدل بين الناس، كقيمة كبرى دعت إليها حركة النبوات والرسل منذ فجر الخليقة، فالاختلاف والتعدد يتحول لحركة صراع وعنف ما لم يضبطه العدل والقانون والمساواة..

وقد اعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أن هذا التعدد والتنوع الفكري والديني واختلاف المذاهب والأديان، وتعدد الطوائف والعشائر والقبائل والاختلافات الأثنية والقومية وغيرها، تقف على تضاد (وطرفي نقيض) من صيغة الدولة باعتبارها مؤسسة حكم قانونية.. وتبعاً لذلك فإن كل تلك التنوعات والانتماءات ما قبل الوطنية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي للأمة) تشكل – بمجملها – عقبات كبيرة على طريق الانتقال إلى المجتمع السياسي الحضاري المدني الذي يسود فيه القانون على الجميع.. حيث ستصر تلك الانتماءات (بحسب زعمهم) على البروز النافر – الإرادي أو القسري – في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع وآليات حكمه السياسية، وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة إليه. أي أن الانتماء القبلي – ما قبل وطني – هو الذي سيتحكم ويقود ويسيّر الأمور، ويشرف على الشؤون ومقاليد الإدارة ضارباً بعرض الحائط كل القوانين والأنظمة المؤسسية..

يجب بداية هنا التشديد على ضرورة التمييز بين الدين كحالة حضارية – بالغة الرقي والتكامل – في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء.. رغم أن الدين لم يمنع الانتماءات الأولى من الحضور في واقع الحياة والفكر والسياسة العملية للبشر، حيث اعترف بالتعدد والتنوع البشري بكل صيغه ومفاهيمه طالما بقيت آليات التعبير عنه مؤطرة بالسلمية والقيم الإنسانية البعيدة عن العصبيات والتطرف والعنف.

إنَّ للدين مضامينَ ثقافية وسياسية إنسانية تتصل بالحياة وبالتحديات والانشغالات التي تواجه الإنسان فيها، في كل ما يتصل بقضايا الحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك.. ويوجد لهذا المضمون خطاب حركي وعملي يريد من خلاله تحشيد الناس حول فكرته الحضارية في سياق عملية التغيير، وهي فكرة الأمانة والرسالة الهدائية للناس القائمة على التطلع لعالم الكمال المطلق والسعي الكدحي الارتقائي نحو ما يمثله ذلك العالم من قيم الحق.. وهنا نلاحظ أن كل خطاب تغييري (أو إصلاحي) لا بد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه – بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة – بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني والسعي الإنساني للكمال..

أما حديث بعض مثقفينا وسياسيينا عن ماضوية الدين وجمود وتكلس الانتماء والخطاب الديني والقبلي وغيره، وضرورة حسم المعركة ضد الانتماءات الفرعية التاريخية ما قبل وطنية، فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك.. وهو حديث متكلف وفاقد للمعنى والمصداقية، ويعبر عن خلل فكرري ونفسي عند هؤلاء ممن لا يرون إلا ذواتهم وأفكارهم ومصالحهم.. فالانتماء التاريخي والماضي التاريخي – بما فيه من حمولات ومفاهيم ورموز – لا يمكن إلغاؤه وخوض معارك غالية الثمن ضده، بل يمكن تشذيبه وتقليمه وإعادة ضخ روح الحياة العصرية فيه.. والناس تعود إلى انتماءاتها تلك في كل الأوقات خاصة في زمن الشدة والانعطافات المجتمعية الكبرى.. وستبقى كل تلك الانتماءات التقليدية ما قبل الوطنية (سواء القبلية أو الطائفية أو العشائرية أو الجهوية أو الإثنية، وغيرها..) حاضرة ومؤثرة فاعلة في الحركية الاجتماعية لأنها متجذرة في الوعي الشعبي في كل بلداننا ومجتمعاتنا، وقد أخطأ الكثير من المثقفين والمفكرين سابقاً في تصوراتهم (وأمانيهم الرغبوية) التي اعتقدوا من خلالها أن صيغة الدولة الحديثة وما سيجري فيها من عمليات التحديث وفاعليات الحداثة ستؤدي إلى تجاوز تلك الانتماءات، بل والقضاء عليها.. وتلك لعمري قراءات ساذجة لم تكن مبنية على قراءة متعمقة لواقعنا المجتمعي العربي والإٍسلامي، إذ برهنت أحداث العقدين الأخيرين بالذات على الحضور القوي والبروز الكبير لواحد أو أكثر من تلك الانتماءات في بلدان ما سمي (بالربيع العربي) – وفي بلدان عربية غيرها -، وإن اختلفت فيما بينها في النوع والدرجة..

إن الانتماء الفرعي والماضي التاريخي هو تجربة أناس عاشوا قبلنا فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والبيئية، وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً.. ولذلك فإن الماضي شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة. فالحياة تحتاج إلى أن تعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها.. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين الذين قدموا لها تلك الأفكار فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة أبداً بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرف لها.

ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارف وأفكاراً تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم بما يجعل إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً. يقول تعالى: ﴿تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾ (البقرة/134). وبالنظر إلى ذلك – وإلى قوله تعالى: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾ (يوسف/111) – فإننا نعتبر أنّ الماضي – وما فيه من أفكار وانتماءات وقيم وأحداث – ساحة للدرس والاعتبار على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع..

وهذا الوعي للماضي لا يمكن يقودنا إلى تقديس أفكار الماضي – وحمولاته الانتمائية والفكرية والمجتمعية – إلا بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل بأساسيات وجوهر قيم الحياة الإنسانية..

من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر – على حد زعم تلك النخب – “ماضوية” و “ما قبل وطنية أو قومية”، يمكن أن تكون سبباً وجيهاً للتوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي للأمة، ويزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري الإسلامي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.

وهذا الأمر لا يقتصر على أمتنا ومجتمعاتنا المتنوعة، إذ أنّ الأمم جميعاً مكونة من شعوب مختلفة الانتماءات، ومن عشائر وقوميات وجهويات ومذاهب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ومع ذلك فقد استطاعت تلك الأمم بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، على ما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.

ولذلك فقد آن الأوان كي تتخلص تلك النخب الثقافية – المنغلقة والمبتورة عن جسد الأمة ومعاييرها وكيانها الثقافي والاجتماعي والتاريخي – من هاجسها وعقدتها النفسية التي تستمر من خلالها في تخويف المجتمع والأمة من (الخطر الشديد؟!) الكامن وراء تلك الانتماءات المتهمة دائماً في نظرها.. وكذلك عليها أن تدرك معَنَا حقيقتين أساسيتين:

1- أن التعدد أمر طبيعي في داخل التركيب والتكوين الاجتماعي وغير الاجتماعي للحياة والإنسان، ولا يمكن أن ينتج الانقسام وينذر بكارثة التفكك واشتعال الأزمات والصراعات، إلا إذا تمّ تجييره واستغلاله وتوظيفه سياسياً ومصلحياً من قبل بعض الأطراف من هنا وهناك، وخصوصاً طرف السلطات والنظم الحاكمة التي نشأت أصلاً على قاعدة التوسع في تمكين العصبيات المحلية – على مستوى الطائفة والقبيلة والعشيرة – من كيان سياسي تتوسع وتمتد به حدود سيطرتها وتحكمها إلى كامل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.. وقد أفضى ذلك إلى تشكيل أنظمة سياسية تأخذ “بالديكور” و”الموزاييك” السياسي الحديث مع إبقائها ومحافظتها – ضمنياً، وفي العمق – على مصالح نخب السياسة والاجتماع وغيرهما..

2- لا بد من التمييز بين الانتماء، بوصفه واقعاً موضوعياً (إنسانياً وطبيعياً)، وتعاظم الشعور به وحوله بما يحوله لعقيدة وأيديولوجية عصبوية، بحيث يتفوق على غيره من الانتماءات، أو يكاد يتحول إلى الانتماء الوحيد في بعض الحالات.فالمرء يرث انتماءه الفرعي ولا دور ولا علاقة له بموروثه.. أي ليس لديه أي خيار في انتمائه العرقي أو الطائفي أو القومي أو أو إلخ.. إنه واقع موضوعي طبيعي قائم بذاته، لا علاقة له بالإرادة أو الوعي والمسؤوليات الحياتية.. والتنوع القبلي والطائفي والإثني في بلد ما ليس، بالضرورة، مصدراً للصراع، بل قد يشكل، في حالات معينة، مصدراً للغنى الثقافي للبلد المعني.

.. ويبدو لنا أن حلّ هذه الإشكالية (إشكالية عدم تحول الانتماء لحالة صراع) لا يكمن في تطبيق الحالة الاندماجية والتجانسية الواحدة – إذا صح التعبير – باعتبارها تفتقر للأساس الموضوعي في المقدمة والنتيجة.. بل في البدء الفوري بإجراءات تحويل السلطة إلى ملكية عامة من حق المواطنين جميعاً، وإعادة السياسة إلى موقعها الحقيقي في المجتمع، وبحيث تكون (هذه السلطة) قابلة للتداول السلمي فيما بين أبنائه، ومن دون وجود عراقيل أو خطوط حمراء قد تتستر وراء شعارات المحافظة، والمواجهة، وووإلخ، بما يؤدي إلى تفكيك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوي في داخل المجتمع الأهلي، من خلال فسح المجال لها لتعبر عن ذاتها (وقيمها ومفاهيمها وثقافتها) بالحوار الواعي والعقلاني البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر.. باعتبار أن السبب الجوهري الذي أدى إلى نشوء الصراعات والعصبيات – وتوظيفها سياسياً – كان يأتي ويتحدد من خلال قيام منظومات السلطة الحاكمة في اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي بالهيمنة والتسلط، واستخدامها لأدوات القمع والفرض المختلفة، واستبعادها للجماعات الاجتماعية الأخرى.. الأمر الذي ولّد (ويولّد) لدى هذه الجماعات – المقصيّة والمحرومة من حق المشاركة في صنع السياسة وتداول السلطة – شعور عميق بالقهر والظلم في توزيع السلطة، والاستفادة منها، مما يدفعها للانكفاء، والانعزال، والتفكير بالعمل تحت الأرض، أو على الأقل التقوقع على همومها، وعصائبها، وذاتها بما يضمن لها الدفاع – بالحد الأدنى – عن وجودها.

من هنا اعتقادنا أن أهم شرط لعدم تحول الانتماء إلى طائفة أو قبيلة أو إثنية إلى عامل للصراع والفتنة واشتعال الحروب يتمثل في ضرورة قيام حياة تعددية للأنظمة السياسية والحياة الاجتماعية في بلداننا التي هيمنت وتهيمن عليها نظم سياسية متمحورة حول مصالحها، لم تتمكن ولن تتمكن من إلغاء الإرث الاجتماعي الثقافي للهويات والانتماءات الفرعية ما قبل الوطنية، رغم كل ما قامت به من أعمال تحديث (قشرية بطبيعة الحال) لمجمل هياكلها المدنية خلال العقود السبعة الأخيرة منذ أيام الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي..!!.  

ولا شك بأن إفلاس الفكر السياسي العربي المعاصر– تحديداً فكر النخب القيادية المرتكز أساساً على ثقافة سياسية مضى زمنها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الواقع – هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج وصياغة أمثال تلك الأزمات والكوارث التي لا تزال تستنزف الجسد العربي والإسلامي عموماً.. ولذلك لابد من البدء الفوري بإنتاج ثقافة سياسية حقوقية إنسانية جديدة تبنى على معايير وأسس واقعية وإنسانية، تضمن للفرد حرياته الفكرية والسياسية كاملة، وتضع الشروط المعنوية والنفسية والسياسية التي تحمي هذا الفرد المستقل، وتقوم عليها فكرة المواطنة. ومالم تبدأ الدولة العربية الحديثة السير على هذا الطريق فإنّ أزمتها -التي تمثلت في فرض إرادتها القسرية الهادفة لبناء مواطن مستقل ومتحرر من ضغط المجتمعات والعصبيات الجزئية– ستستمر وتتوالد ذاتياً بمظاهر وألوان جديدة بين كل وقت وآخر.

أي أنه لا بديل عن بناء وتشييد أنظمة تعددية تؤسس للشعور بالمواطنة المتساوية التي تحل محل الشعور بالانتماء إلى الطائفة أو القبيلة أو الإثنية أو القومية أو المذهبية أو غيرها، عن طريق إجراء تحولات اجتماعية اقتصادية وسياسية عميقة في بنية وأساس دولنا، تؤدي في النهاية إلى تحقق العدالة الاجتماعية، بما يؤدي إلى تحسين مستوى الناس المعيشي والحياتي.. ويدفعهم للحضور الفاعل والواعي في صلب حركية مجتمعاتهم.. أما عندما يرى الناس أن حكامهم فاسدون مفسدون، ظالمون قامعون مستبدون، يضطهدونهم ويسرقونهم ويسلبونهم حرياتهم وخيرات بلادهم، ويسلمونها للغريب، فإنهم يكتشفون زيف الشعارات الوطنية والقومية وما شابهها، ويتحول قسم كبير وواسع منهم إلى قبليين أو طائفيين أو متعصبين لإثنيتهم وانتماءتهم الفرعية والتاريخية الماضوية، ويلوذون بها وإليها كملجأ حماية ومنبع قيم..!!. إن للعصبيات والصراعات مقرٌ واحد ومنبعٌ واحد هو الإقصاء والمصادرة والقمع والاستبداد..!!.