هامش ثقافي

صحافتنا إلى أين؟؟

بقلم غسان عبد الله

لقد أصبحنا أمام نمط جديد من الصحافة الموجهة إلى قارئ لم يعد يبحث عن الإفادة والمطالعة بقدر البحث عن الأخبار.. وأضحت الصحافة المكتوبة تُنعتُ بأبشع النعوت والأوصاف من قِبَلِ جماهير عريضة من المجتمع، وعلى الرغم من التوضيحات والتفسيرات لمالكي الصحف عن الأسباب العميقة للتركيز على الموضوعات ذات الإثارة التي لا تتضمن أي إفادة للقارئ وإنما لجلب انتباهه ودفعه إلى الاطلاع على المضمون.

ومن خلال هذا التغيير في التوجه الصحفي والذي يجد تبريرات واسعة لدى أغلب مالكي الصحف بدأ هناك اعتقاد أن الصحافة المكتوبة ابتعدت عن أهدافها الأساسية وانحرفت عن المسار الصحيح وتحولت إلى واجهة إشهارية من خلال كثرة الإعلانات في أغلب صفحات الجرائد.

إنّ العمل الصحفي ليس مجرد هواية تقوم على المزاجية والهوى الشخصي، ولكن العمل الصحفي، في مفهومه الصحيح، أصبح اليوم مهنة معقدة ذات رسالة وهدف، وتقوم على قواعد وأسس بعيداً عن المزاجية والارتجال والاجتهادات الشخصية.

ومما لا شك فيه أن مهنة العمل الصحفي اليوم تحكمها الأبجديات التي يتعلمها الممارس لهذه المهنة، سواء على مقعد الدرس والتحصيل العلمي في الجامعات والمعاهد المتخصصة، أم على محك التجربة والممارسة العملية في الميدان الواقعي، وعندما يفتقر العمل الصحفي المهني إلى هذه الأبجديات فإنه يفقد احترامه ومصداقيته، ولا شك أن ذلك يؤثر تأثيراً سلبياً على العلاقة بين الصحفي والمتلقي الذي تسعى الصحافة إلى الوصول إليه والتفاعل معه والتأثير فيه.

والمتأمل في واقع أغلب صحافتنا العربية يجد أنه كثيراً ما تغيب هذه الأبجديات أو بعضها في ميدان الممارسة الصحفية، ما يوقع القارئ في حيرة وقلق ويجعله يبتعد عن صحافته ويعيش في غربة معها. وقد يصل الأمر إلى حد فقدان القارئ الثقة فيما تقدمه هذه الصحافة، وبذلك تفقد عنصراً هاماً من عناصر نجاحها وهو عنصر المصداقية.

إنّ من أولى أبجديات الصحافة التي يتعلمها الصحفي الممتهن أن الخبر الصحفي لا أهمية له إلا بقدر صلته بالقارئ، وتلبيته لحاجاته وتعلقه بواقعه وظروفه ومشكلاته. فكثيراً مما ينشر في الصحافة العربية لا يعبر عن الاهتمامات الحقيقية لجمهور القراء العرب، بل إننا نجد في كثير من الأحيان أن بعض الصحف تنشر أخباراً تصطدم مع قيم القراء وسلم أوَّلياتهم.

لقد تعلمنا أن من أبجديات العمل الصحفي أن يسعى الصحفي إلى الخبر، لا أن ينتظر الخبر ليصل إليه جاهزاً معلباً، سواء من وكالات الأنباء المحلية أو الأجنبية، أو من مكاتب العلاقات العامة في الدوائر أو الشركات، أو من طرق شخصية بعضها شريف وبعضها الآخر فيه امتهان لرسالة الصحافة ودورها الرائد الموجه في المجتمع.

إنّ نظرة فاحصة إلى صحافتنا العربية تدلنا على أن هذه الأبجدية تكاد تكون شبه غائبة في الممارسة الواقعية، كما أن العمل الصحفي العربي في معظمه عمل مكتبي معزول عن حركة الحياة والواقع.

وينطبق هذا على القضايا المحلية التي تهم القارئ، إذ لا يستقطب كثير من هذه القضايا المحلية عناية الصحافة إلا بقدر محدود، ولا تحظى إلا بخدمة شحيحة ومتابعة وغير ناضجة تبعاً للنَفسِ الضيِّق والمستعجِل للعاملين في الصحافة، وهم في معظمهم من الهواة والمتعاونين الذين يعدون العمل الصحفي أمراً ثانوياً يحققون عن طريقه مصالح شخصية لا أكثر.

ومن هذا المنطلق تغيّرت المفاهيم والقيم الصحفية التي كانت تميز العمل الصحفي وأصبح اهتمام الصحف مرتكزاً على الموضوعات ذات الطابع الاستهلاكي الكمي دون النوعي وهو ما انعكس على ثقافة المتلقي الذي تعود على نوعية محتوى صحفي ذي الاستهلاك الفوري كأخبار مشاهير الفن ونجوم الرياضة التي تملأ أعمدة الصحف اليومية.

إن مشكلة غياب العديد من أبجديات العمل الصحفي في صحافتنا العربية المكتوبة مردها إلى عوامل عديدة، من أهمها الاعتماد شبه التام على المصادر الثانوية في الحصول على الخبر والمادة الصحفية من وكالات أجنبية ووسائل قد لا تدرك طبيعة العمل الصحفي ورسالته.

ومن تلك العوامل أيضاً غياب الرؤية المهنية الواضحة للعمل الصحفي ورسالته لدى المؤسسات الصحفية والقيادات التي توجه هذه المؤسسات، إذ إنها – في معظمها – تبحث عن الأسهل والأيسر والأقل تكلفة، فهي تنظر إلى الصحافة نظرة تجارية أكثر من أنها رسالة ومهنة ذات مسؤولية اجتماعية.

كما أن غياب المعرفة الحقيقية بالقارئ المتلقي للمادة الصحفية، وفقدان الدراسات الميدانية التي تكشف عن اهتمامات القارئ وتوجهاته يؤدي إلى استمرار حالة (السلق) الصحفي الذي يتسم به كثير من الأعمال الصحفية العربية.

ويبقى أخيراً عامل هام، وهو افتقار الساحة الصحفية العربية إلى صحفيين مبدعين يحملون همّ الرسالة الصحفية ويعشقونه، ويعرقون من أجله ويكافحون ويناضلون في سبيل أن يحصلوا على الخبر، وأن يتابعوه ويخدموه ليقدموه بعد ذلك إلى القارئ المتلهف في طبق شهي تفوح منه رائحة العناء والتعب.

إننا إذا أردنا للعمل الصحفي في صحافتنا العربية المكتوبة أن يرتقي ويتطور فلا بد لنا من أن نعيد إليه أبجدياته التي لا غنى عنها، وحينئذ يحق لنا أن نقول إن لدينا عملاً صحفياً حقيقياً يحقق رسالته في المجتمع العربي بتنويره وخدمته وحفزه إلى التطلع نحو المستقبل.