دوليات

بوتين في أذربيجان.. تطوير الشراكة الاستراتيجية لمواجهة التحديات الأمنية في جنوب القوقاز

بقلم ابتسام الشامي

علاقات تاريخية

لم ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جلاء غبار أحداث اختراق القوات الأوكرانية الأراضي الروسية في مقاطعة كورسك قبل التوجه إلى أذربيجان. زيارة الساعات الثماني والأربعين لباكو، جاءت في سياق حدث الخرق لتؤكد التعاطي الهادئ لبوتين مع تقدم القوات الأوكرانية في مساحة واسعة من المقاطعة المحاذية للحدود الشمالية الشرقية للبلاد، ليس لأن الرئيس يتعمد تجاهل خطورة الموقف، بل لقناعته ربما بأن الخرق لا يعدو ان يكون إنجازاً تكتيكياً لأوكرانيا، في مقابل إنجازات ذات طبيعة استراتيجية تحققها روسيا في شرق أوكرانيا، حيث لم تؤثر تطورات الجبهة الأولى بمسار الجبهة الثانية. وبهذا المعنى فإن زيارة أذربيجان في التوقيت الذي جرت فيه لا تحمل بالضرورة رسالة مرتبطة بذات الحدث، وإنما بالصراع الروسي الأطلسي الذي تشهد أوكرانيا وجهه العسكري في وقت يتخذ وجوها أخرى في جبهات متعددة منها إلى الجبهة الاقتصادية، محاولة تغيير البيئة السياسية المحيطة بروسيا إلى بيئة معادية.

في الإعلان الرسمي عن الزيارة، قال بيان صادر عن الكرملين إن الرئيس بوتين سيلتقي نظيره إلهام علييف للبحث في “القضايا المتعلقة بتنمية علاقات الشراكة الإستراتيجية والتحالف بين روسيا وأذربيجان، فضلاً عن قضايا دولية وإقليمية راهنة”. مشيراً أيضاً إلى أن برنامج الزيارة يشمل كذلك “مناقشات، وتوقيع إعلانات مشتركة”. ومعلوم أن البلدين تربطهما علاقات تاريخية واستراتيجية تعود إلى زمن الإمبراطورية الروسية، حيث دعمت الأخيرة استقلال أذربيجان عن الدولة الفارسية، واعترفت بها دولة مستقلة في أعقاب الثورة البلشفية عام 1917، قبل أن تنضم الدولة المستقلة حديثاً إلى الاتحاد السوفياتي بوصفها دولة إشتراكية، وتبقى فيه حتى انهياره مطلع تسعينيات القرن الماضي. على أن تفكك الاتحاد السوفيتي، لم يقطع جسور التواصل بين الدولتين، حيث وقعت موسكو في ما بعد علاقات جديدة مع باكو في 4 نيسان عام 1992، تواصل تعزيزها وتطوريها في إطار تحالف وشراكة استراتيجيتين. ويقوم التعاون الحالي بين البلدين على أساس 170 معاهدة واتفاقية في جميع المجالات، 50 اتفاقية منها في المجال الاقتصادي.

وفي إضاءة على العلاقات التي تجمع البلدين، وصف رشاد بخشالييف، في افتتاحية صحيفة “أذربيجان” الحكومية لمناسبة الزيارة، العلاقات بين موسكو وباكو باعتبارها “تحالفاً قائماً على أساس الشراكة الإستراتيجية”، مشيراً إلى أن زيارة بوتين أعطت قوة دفع إضافية لتطور علاقاتهما”. علماً أن حجم التبادل التجاري بين البلدين بلغ عام 2023 ،4.1 مليار دولار، قبل أن يرتفع في النصف الأول من العام الحالي لأكثر من 7%، ليصل إلى ملياري دولار. في حين بلغت الاستثمارات الروسية المباشرة في أذربيجان 4.2 مليار دولار، ويعمل هناك ما يقرب من 1300 شركة برأس مال روسي.

الشراكة الاستراتيجية لاحتواء تهديد أمن جنوب القوقاز

وعلى الرغم من تواضع أرقام حجم التبادل التجاري بين البلدين، إلا أن مسار تطوير العلاقات وأهميتها بالنسبة لموسكو، ربما يفسر تعاطي روسيا الدقيق مع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان التي حسمتها الأخيرة لمصلحتها باستعادة إقليم ناغورني قرة باغ المتنازع عليه في أيلول الماضي. وعلى الرغم من أن ارتياب بوتين من الهوى الغربي لرئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان كان أيضاً أحد العوامل المؤثرة في صياغة السياسية الروسية حيال الحرب المشار إليها، إلا أن ما انتهت إليه من نتائج، دفع يريفان بقيادة باشينيان إلى تحميل موسكو مسؤولية هزيمتها العسكرية وخسارة الإقليم، وبناءً عليه، شهدت العلاقات الأرمينية الروسية تدهوراً متسارعاً، كان من أبرز مظاهره، تقارب أرمينيا مع الاتحاد الأوروبي، وإرسال “مساعدات إنسانية” إلى أوكرانيا، والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة اعتقال بحق فلاديمير بوتين.

وعلى هذا التقارب مع الغرب، تستشعر روسيا مخاطر على نفوذها في جنوب القوقاز. وفي هذا السياق يرى المتخصص في شؤون القوقاز أندريه أريشيف، في حديث للجزيرة نت(1) أنه “بات من  الواضح أن الغرب يعمل على فصل أرمينيا عن روسيا وتحويلها إلى “جورجيا ثانية”، ما يتطلب العمل على تسوية هذه التوترات، بما في ذلك من خلال البوابة الأذربيجانية ودفع الطرفين إلى توقيع اتفاق سلام نهائي بينهما”. مشيراً إلى أن “سلوك أرمينيا يدفع أذربيجان نحو مواجهة علنية مع الغرب”، لكنه مع ذلك يرجح فرضية أن “يحاول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التأثير على باكو لعدم الذهاب بعيداً في التقارب مع موسكو، حتى من خلال الضغوط على أقرب حلفاء باكو (تركيا) التي تصر على استقلالها السياسي، وهو ما يثير حفيظة الساسة الغربيين الذين يريدون الولاء الكامل منها.

وفي سياق متصل بتطوير العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، ‌نشر موقع “نيوز ري” الروسي تقريراً، لفت فيه المخاوف الروسية على أمن جنوب القوقاز، مشيراً إلى أمين مجلس الأمن الروسي سيرغي شويغو استبق زيارة بوتين بزيارة إلى باكو، لمناقشة تهديد الغرب أمن جنوب القوقاز من خلال التدخل في شؤون المنطقة. وينقل الموقع عن الأستاذ المساعد في قسم الأمن الدولي في جامعة موسكو الحكومية، أليكسي فينينكو، قوله إن التقارب بين روسيا وأذربيجان يأخذ في الاعتبار المصلحة العملية المتبادلة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأذربيجان مساعدة روسيا في مكافحة انتشار النفوذ الغربي في منطقة القوقاز، كونه لا يخدم مصالح موسكو وباكو. وبحسب فينينكو، يخلق التقارب بين موسكو وباكو ثقلاً موازناً ليريفان، التي تقع تحت حماية الولايات المتحدة وأوروبا. ويخلص فينيكو إلى القول إن “الكرملين يدرك أن أرمينيا تتجه أكثر فأكثر نحو الناتو. لم تعد مجرد دولة لديها عدد من البرامج العسكرية مع التحالف، بل أصبحت شريكا رئيسيا لحلف شمال الأطلسي في منطقة القوقاز”.

ممر شمال جنوب

مواجهة تحدي تحول البيئة السياسية في جنوب القوقاز، يكمن بالنسبة لروسيا في تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع أذربيجان على الرغم من علاقاتها الغربية الواضحة، وذلك من خلال العمل على انخراطها في شراكات استراتيجية مهمة مع روسيا لاسيما في مجال نقل الغاز، وهو ما يشدد عليه الخبير الاقتصادي ألكسندر رازوفاييف، مشيراً في حديث إلى موقع “نيوز ري” الروسي أن ممر “شمال جنوب” عامل بالغ الأهمية لتجارة روسيا مع الدول في جميع أنحاء حوض المحيط الهندي وهو الطريق الأفضل والأرخص والأكثر ملاءمة لربط سانت بطرسبرغ بالهند وإيران بالسكك الحديدية. وبحسب الخبير نفسه ستكون روسيا قادرة على “إقامة تجارة مع هذا الجزء من أوراسيا”، معلقاً آمالاً على بناء قسم السكك الحديدية في إيران اللازم لإطلاق المشروع بحلول نهاية العام الجاري. ويرى رازوفاييف أنه من أجل التنمية الاقتصادية الناجحة لروسيا يتعين على أذربيجان والدول الأوراسية الأخرى إنشاء منطقة اقتصادية واحدة في المستقبل، معتبراً أنه “في حال سارت الأمور على ما يرام، سيظهر اقتصاد سيادي يضم 300 مليون شخص. من الضروري أيضاً إنشاء اقتصاد واحد، منطقة مشروطة لما يسميه اليورو الأوراسي مع بيلاروسيا وكازاخستان وأذربيجان وتركيا وأوزبكستان وإيران”.

وليس بعيداً عن هذا التقدير، يعتقد محلل الشؤون الاقتصادية فيكتور لاشون في حديث إلى الجزيرة نت، أن الجانب الأهم للتعاون الثنائي بين البلدين بات يتمحور حول الخطط المشتركة لتنفيذ مشروع الشمال والجنوب، الذي ينبغي أن يربط البنية التحتية للنقل الروسية بالمحيط الهندي عبر أذربيجان وإيران. ووفقاً له، في حال جرت “إقامة ممر العبور هذا بين الشمال والجنوب، فسيشكل إنجازاً تاريخياً، يؤمّن من جملة أمور أخرى نقل الغاز الروسي إلى المحيط الهندي عبر إيران والوصول إلى الموانئ الإيرانية على شواطئ الخليج العربي”. موضحاً أن أهمية مشروع “الشمال – الجنوب” باتت أكبر بكثير على ضوء إغلاق الطرق المعتادة عبر أوروبا أمام روسيا في العام 2022، وكذلك بالنسبة للتجارة مع الشركاء الجدد لروسيا في كل من أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تشكل أذربيجان واحداً من أهم الممرات التي تربط موسكو معهما(2).

زيارة بوتين إلى أذربيجان التي يضعها الخبراء في إطار تطوير الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، شهدت إطلاق مسارات عملية لهذا التطوير، فقد أعلن الرئيس الروسي، ان بلاده وأذربيجان “ستبدآن إنتاج ناقلات نهرية بحرية حديثة لنقل المنتجات النفطية”. وأوضح بعد محادثاته مع نظيره علييف، أن استخدام الناقلات النفطية، وخصوصاً على طرق “آزوف – البحر الأسود” و”بحر قزوين”، سيجعل من الممكن رفع صادرات موارد الطاقة إلى الأسواق العالمية بشكل ملحوظ.

وإذ أعرب الرئيس الروسي عن الارتياح من نتائج زيارته لأذربيجان. وعبر عن ثقته في أن المفاوضات المنظمة والاتفاقيات التي جرى التوصل إليها سوف تواصل خدمة تعزيز الشراكة الاستراتيجية الروسية الأذربيجانية، شدد على أن الاستقرار في جنوب القوقاز يفي بالمصالح الجذرية لجميع الدول وشعوب المنطقة.

خاتمة

في اوقت الذي يترك فيه الرئيس الروسي لقواته العسكرية معالجة خرق كورسك الاوكراني عبر تطويقه واحتوائه قبل الانتقال إلى مرحلة تطهيره، يواجه بخطط استراتيجية محاولات تطويق بلاده عبر تغيير البيئة السياسية لعدد من الدول وتحويلها إلى أوكرانيا جديدة في خاصرتها. تطوير الشراكة الاستراتيجية مع آذربيجان من شأنه أن يوجه صفعة لجهود التطويق الغربية، لكن ذلك يبقى مرهوناً بمدى ثبات باكو في مواجهة الضغوط المتوقع أن تتعرض لها لفرملة اندفاعتها إلى الأحضان الروسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *