العلم والاستبداد لا يلتقيان
بقلم غسان عبد الله
العلاقة بين التخلّف والاستبداد هي علاقة التصاق تلازمي لا يمكن الفصل بينهما مهما تطوّرت وسائل وطرق العلاج السياسي الحديثة فلن تنجح في محاولتها، لأن هذا الالتصاق ليس من النوع البسيط بل من النوع المركب الغاية في التعقيد. لكون هذا التلازم ينفرد بكون الطرفين يشتركان في قلب واحد وعقل واحد وهو ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً ويدفع به نحو الاستحالة.
والمتابع لحركة التاريخ وقيام وسقوط وانهيار الدول والممالك والامبراطوريات، وتلاشي واضمحلال الحضارات يجدها كانت نتاج طبيعي لغياب العدل وتمكُن الاستبداد بكافة أشكاله وأنواعه، وما تمظهر به من شعارات نبيلة في ظاهرها. بعد إفراغها من مضمونها وتحويلها إلى أداة لتمرير وتبرير تصرفات المستبدّ ومصدر لتعزيز قوته وتجذير سطوته.
كلما أراد المستبد تعزيز سطوته وتبرير قسوته لا بد له من وسائل وأدوات تبدأ من القبضة الحديدية وتكميم الأفواه، وتعطيل الحريات والتضييق على الأفكار، والحجر على العقول.
وبما أن المستبد يعلم أن العلم والفكر أهم خصومه، والعقبة الكبرى التي تقف أمام جبروته وتحدّ من طغيانه فناصبهما العداء ووظّف كلّ إمكانياته وسخّر كلّ أتباعه في محاربة العلم والعلماء قتلاً وسجناً، ونفياً من الأرض التي تقع تحت بطش يده، ويمارس فيها طغيانه ويمتد إليها سلطانه.
فالعلم والاستبداد لا يلتقيان؛ فتربة العلم لا تُنبت الاستبداد والاستبداد لا يَنْبُت في تربة العلم بل له تربته وبيئته الخاصة وظروفه المناخية التي ينمو ويترعرع فيها، وكلما كان التخلف متجذراً وله صولة وجولة كلما وفّر للاستبداد فرص النموّ والتمدّد والتغول لدرجة التوحش.
إن التاريخ يدلّل على هذه العلاقة التلازمية بين التخلّف والاستبداد ومن يتابع قيام وانهيار الأمم والدول وسقوط الحضارات يكتشف أنها تسقط وتنهار بعد مرحلة من التدهور قد تطول أو تقصر إلا أن العلامة الفارقة هي غياب العدل وتغوّل الاستبداد بكافة أشكاله وصوره وفق ما يقدم من مبررات للاستبداد تارة باسم الدين وأخرى باسم العرق والطائفة أو القبيلة أو غيرها من المبرّرات التي يتّخذها المستبدّ وسيلةً لتبريرِ أعماله وتصرفاته. إلا أن الاستبداد لا ينجح ولا تقوم له قائمة إلا في بيئة متخلّفة تقبل به بل تعتنقه وتحتضنه، وتقدِّسه وتسعى وتعمل على العيش في ظلاله ولا ترى أي تصور للحياة خارج عباءته.
فبقدر درجة التخلف تزداد وتيرة الاستبداد حتى يصبح أمراً مألوفاً وضرورةً حتميةً في ضبط المجتمع ويصبح لدى شريحة كبيرة ممن طغى واستمرأ عليهم التخلف قناعة بضرورة الحاجة إلى وجود (المستبد العادل) وفي حقيقة الأمر ومن مسلّمات العقل باستحالة الجمع بين الاستبداد والعدل.
وقد اكتشف دعاة الاستبداد مبكراً هذه المعادلة وكان لهم السبق في ذلك فعمدوا إلى تبنّي هذه النظرية التي تثبّت أقدامهم وترسّخ أركان حكمهم المطلق دون أي مراجعة أو مراقبة، ورعاية التخلف من أهم أولويات المستبد لأنه صنيعته ووسيلته في الاستبداد وقهر العباد فكان المستبد هو الراعي الرسمي للتخلّف.
ونال التخلّف من المستبدين من الرعاية والعناية ما لم تنله الشعوب التي تعيش في كنف الاستبداد فهو وسيلتهم وأداتهم في الطغيان والعدوان وهما توأمان لا يعيشان في ظروف عادية ولا حياة طبيعية؛ وفي العادة عمرهما قصير لأن سنّة الحياة تقول إن البديل يسير حثيثاً لإخراجهما ليحلّ محلهما (العلم والحرية).