الاستخلافُ الرّبّاني بين الوعي النّظري وإرادة الفعل الخَلّاق
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
يقول تعالى:
﴿ إنّا خلقناكم من تُراب ثم من نُطفة ثم من عَلقة ثم من مُضغة مُخلّقة وغير مخلقة لنبينَ لكم ونقرّ في الأرحام ﴾(الحج: 5)..
﴿ ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾(المؤمنون: 14).
﴿ ثم سواه ونفَخَ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون ﴾(السجدة: 9).
﴿ ولقدْ كرّمنا بَني آدَم وحَمَلنَاهُم في البرِّ والبَحرِ ورزقْنَاهُم من الطّيّبَات وفضّلناهم على كثير ممن خَلقنا تفضيلاً ﴾(الإسراء: 70).
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾(الأنعام: 165).
تُظهر قصة آدم الواردة في القرآن الكريم، بأنّ الإنسان قد وصل – خلال مراحل تطوره المادي وتغيراته (الفيزيولوجية) الوظيفية – إلى المستوى الذي حدثت من خلاله ولادة جديدة ، وذلك بنفخ الروح الإلهية في داخله.
عندئذٍ، وفي غضون عملية تطوره الطبيعية العادية، جرّب واختبر – على نحو فجائي – التغير والتبدل الإلهي كنتيجة لما قد حُوِّل إليه من هكذا موجود متفوق (أعلى)، حتى أن الملائكة أُمرت بأن تسجد له، وتقدّم فروض الاحترام والإجلال ، كما وجعلت قوى العالم تابعة ونافعة له في مدى الوجود كله، وما عليه سوى تعقل حركة الوجود من حوله، ليكتشف ويخترع ويبني ويستنهض ويطور ويجعل الحياة من حوله سهلة ومريحة قدر الإمكان.
وعندما أمَرَه تعالى بأنْ يبتعدَ عن الشّجرة المحرّمة في الجنة، فهي كانت دلالة عن ضرورة أن يكون لديه قيود وموانع وقوانين لضبط غرائزه وشهواته، فتلك الشجرة هي شجرة القوى الشهوية والغضبية والغريزية التي إنْ هيمنت حولته إلى كائن حيواني لا قيمة له في حركة الوجود، يتصرف ويمشي بلا قانون ولا مسؤولية ولا حكمة عملية ، على النقيض مما أراده له الله تعالى في أن يكون خليفة حاملاً لمسؤولية البناء والإعمار الحضاري العاقل والفاعل والمنتج في حركة الحياة.. أي مسؤولية الأمانة في الخلافة والحكم والقيادة والإشراف والتدبر والتنظيم الحياتي.. والأمانة تستلزم وتستدعي الإحساس بالواجب، ومن دون إدراك الكائن ووعيه الحقيقي لمسؤوليته لا يمكنه النهوض بمسؤوليات وأعباء ومجهودات الأمانة والإعمار العملي..
والفعل العمراني وليد هذا الاستخلاف؛ حيث يأتي العمران بفعل الإنسان الذي استخلفه الله سبحانه وتعالى في الأرض، ورسم له الخارطة التي يسير عليها في مرحلة استخلافه، وحدد له العناصر الرئيسة لمقاصد المنهجية القرآنية في بنائها للعمران؛ فلما كانت عمارة الأرض هي مهمة تكليفية من الله تعالى للإنسان، فإن العناصر الأساسية التي يتألف منها البيان القرآني لمقصد العمارة هي ثلاثة: طبيعة التكليف الإلهي للإنسان بمهمة العمارة، وهي طبيعة الاستخلاف، وطبيعة العالقة التعميرية بين الإنسان والأرض، وهي الارتفاق، وطبيعة العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهي الشهادة على الناس؛ فهذه هي العناصر الأساسية لمقاصد القرآن في بناء العمران” . وهذا كله يحتاج للعقل والتنمية العقلية وبناء المهارات الذاتية والعملية في حالة تكامل بين العقل والقيم..
نعم، إنه العقل والتفكير العقلي والعلمي المستند لأخلاقيات وقيم إنسانية لا يمكن أن تبنى الحياة المتوازنة من دونها وهي قيم الحق والعدل والحرية والمحبة والسلام وغيرها..
وهنا أرى ضرورة أنْ أشيرَ إلى نقطة مهمة – في هذا السياق – وهي أنّ هذا العقل البشري الذي صنعَ معجزةَ الحضارة الإنسانية، واكتشفَ مجاهل الكون، ونظّم معادلات رياضية، واخترع وسائل راحة البشرية وإسعادها، ليس منتمياً لدين أو مذهب أو طائفة، وبالأساس لا يريده تعالى أن ينتمي فئوياً أو قومياً أو جهوياً أو غيرها من الانتماءات الفرعية.. هو عقلٌ مجرّد تأمل وفكر ولاحظ وسجل وجرّب، سقط مرة ونجح أخرى… لهذا لا معنى برأيي – من الناحية العلمية المجرّدة – لصياغة مُصطلح عقل غربي أو عقل إسلامي أو أو إلخ… فالعقلُ عند الإنسان الشرقي هو ذاته هو عندَ الإنسان الغربي، الفارقُ يبرزُ ويظهرُ فقط في توفر الفرص، وبناء الإمكانات، وتأسيس القابليات، وتنمية الإدراكات، وتعميق المهارات والتجارب.
هذا العقل هو مفتاح الدخول للمعرفة، معرفة كل شيء، معرفة نفسه، وواقعه، ومحيطه، معرفة مجتمعه، ومعاشه وتدبر شؤونه وتنظيم حياته، وغير ذلك من أشكال وألوان المعرفة الذاتية والموضوعية.. والله تعالى هو الذي علم هذا الإنسان المعرفة وسبلها وطرقها ..
ومن عظمة هذه المعرفة أن الله تعالى جعلها من العوامل التي ربح الإنسان من خلالها التفوق والأفضلية (الأعلوية) حتى على الملائكة، كما في قوله تعالى:﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة..﴾(البقرة: 31).
وتمهيداً لتأسيس واستثمار هذه المعرفة العقلانية، وتسهيلاً لعملها، فقد سخّر الله تعالى للإنسان كل ما في ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، يقول تعالى:﴿ الله الذي سخّر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾(الجاثية: 12-13).. وغاية المعرفة هي القيام بمسؤوليات الاستخلاف الرباني في عمران الأرض مادياً ومعنوياً بما أرادها الله تعالى، وبحسب العهد الذي أخذه الإنسان على نفسه مع خالقه، يقول تعالى:﴿ إنا عرضنا الأمانةَ على السّموات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنَها وأشفقنَ منها وحَمَلَها الإنسانُ إنّه كانِ ظلوماً جهولا﴾..
والعمرانُ هنا كما قلنا، هو عمران عقلي وعلمي وليس فقط عمران الأخلاق والقيم الروحية.. وضرورة وعي العلاقة الحقيقية الذاتية بين العمران العَقلي العلمي وكيفية تحقق شروطه على نحو منتج ومؤثر، وبين العمران الروحي والأخلاقي الذي لا يمكن تحققه من دون تجسيد مضمون للحقوق الفردية جعلها الله تعالى واجبة وجوباً شرعياً.. لأن الإنسان بلا كرامة ولا حقوق لا قيمة لوجوده، وهو يساوي أي كائن مقبور في باطن الأرض..!!.. وبالتالي لا يمكن لهذا الإنسان أن يمارس دوره الفاعل كخليفة مستأمَن، ويعمل على بناء حضارة مزدهرة أو مجتمع متمدن أو دولة متقدمة ومتطورة (حاضرة ولها مكانة ودور وفاعلية)، من دون بناء وتنمية ذاته وقدراته، ومن دون حصوله على حقوقه، وبالتالي وصوله إلى كمالاته.. بما يعني أن العمران في القرآن لا يقتصر فقط على البناء المادي (العقلي العلمي) فحسب، بل هو يشمل العمران الروحي والوجداني والحقوقي العملي.. حيث يخاطبُ القرآن الكريم الإنسان في عقله للتفكر والتأمل والتدبر في جميع ما حوله من مفردات ومسخرات تساعده في تحقيق هذه الخلافة والعمارة في الأرض وصولاً للتمكين الوجودي بكل معانيه..
يقول تعالى:﴿ ٱالَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى الأرض أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُور ﴾(الحج: 41).