الإنسانُ بينَ قيمةِ الحُرّيّة ونعمةِ الأمنِ لا أمنَ ولا استقرارَ بلا حُقوقٍ مكفولةٍ مُصَانة
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
لا شيء يمكنه أنْ يعوّضَ غياب الأمن والأمان من حياة الإنسان والمجتمع البشري، ولا شيء يعوّض افتقاد الإنسان نتيجة لذلك، لأبسط أسس ووسائل عيشه واستقراره الطبيعي..
لقد عاشَ الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض باحثاً عن أمان يبعده عن شبح غائلتي الخوف والجوع وما ينتج عنهما من شرور ومصائب.. فسكن الكهوف والمغاور ليحتمي ويختبئ، ومن ثم استوطن الأراضي الخصبة، فزرع وبنى المستوطنات الزراعية الأولى.. وتطور وعيه وإدراكه للطبيعة مكتشفاً كثيراً من قوانينها ونواميسها، فبنى الحضارات والمدنيات الأولى، وصاغ قوانين التنظيم الاجتماعي وغير الاجتماعي.. كله كان يأتي لمواجهة أهم تحديين كانا يلازمان تفكيره ويسيران معه في كل مفصل من مفاصل حركته الوجودية، وهما، تحدي الخوف من الآخر، من الطبيعة وما فيها ومن فيها، وتحدي الجوع والخوف من فقدان أمانه الغذائي..
وحتى الصراعات التي اندلعت في تاريخه ومسيرته الزمنية منذ أيامه الأولى، كانَ الإنسانُ يشعلها خوفاً أو طمعاً أو بحثاً عن ملاذاتٍ آمنةٍ له يحتمي في ظلها.
ونحن هنا لا نودُّ أنْ نتّهمَ هذا الإنسان بأنه كائنٌ عصبي وتطرفي وغرائزي في أصل فطرته، يتحرك على طريق العنف وتوسل مواقع القوة وأدواتها المتعددة للوصول إلى غاياته ومصالحه ومنافعه على الأرض، رغم كثرة الشواهد والأدلة التاريخية التي تشير وتدلل بوضوح على ما تقدم من تحليل تدافعي لأصل وجود الإنسان في هذه الحياة.. فأنا أعتقد أن هذا الإنسان (المخلوق البشري الذي تدرج في الوجود والعيش وتأمين سبل حياته ووجوده الحقيقي الفعال والمنتج على الأرض من المغارة إلى ناطحات السحاب بالعقل والعلم فقط وليس بأي شيء آخر) ليس عنيفاً بذاته ولا متطرفاً بفطرته وجوّانيته التي ركبتها يد الخالق عز وجل على الصفاء والنقاء وسبل السلام بالقوة، ولا هو متعصباً بجيناته الوراثية، بل إنّ الظروف السيئة والبيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المسيطرة عليه، وتكدس التراكمات والعقد الفكرية التاريخية والضغوطات الظالمة عليه من هنا وهناك، هي كلها تصنع منه قنبلة متفجرة يشعل أيّ كان فتيلها وقت ما تريد مصلحته ومنافعه..!!..
إن الظروف الجيدة والملائمة لطاقاته وقدراته هي التي تصنع الإنسان، وتدفعه للبناء والإنتاج، والإسهام بنهضة مجتمعه وتطوير بلده.. ولهذا نقول: أمّنوا حاجات الناس، وأعطوها حقوقها، ستتحول إلى كتلة نار مشتعلة من العمل الخلّاق والمبدع..!!.. والمخاطبون هنا هم أصحاب القرار والمتسلطون على مواقع القوة المادية الصرفة..
طبعاً نحن هنا نتحدث عن أيامنا هذه بالذات، وليس منذ الأزل عندما كان الإنسان يفتقر لبديهيات العيش الأولي البسيط.. ولكن اليوم أضحى هذا الإنسان يعيش في حضارات وأمم ومجتمعات قوية فاعلة فيها فوائض ثروات وموارد هائلة.. بما يعني أن العلة تكمن في عدم وجود سياسات عادلة واستراتيجيات تنموية فعالة يتساوى فيها الناس أمام القانون وتؤمن لهم فرصاً متساوية للعيش الطبيعي الآمن والمستقر..
إنَّ الواضحَ أنْ لا شيء يمكنُ أن يعوّضَ غيابَ الأمن عن أيّة دولة أو مجتمع أو أمة.. وهذا الغياب أو التغييب هو أفضل وصفة وأسهل وأيسر سبيل للتحرك السّريع على طرق الفوضى والتّفتت والتشظي واندلاع الحرائق السياسية والاقتصادية، وليسَ على طريق الحرية “المزعومة” كقيمةٍ (مقدسة طبعاً) وهدف سامٍ أعلى مفترض.
بمعنى أن هذا الغياب سرعان ما يتحول نكوصاً للوراء، وينعكس دماراً على المجتمع وحرية الناس، وأمنهم الروحي والمادي على السواء، بقطع النظر عن أسبابه ومسبباته الداخلية والذاتية البنيوية الكثيرة.. فمع غيابه (غياب الأمن) لا حرية (مرغوبة بشدة) يمكن أن تتحقق فعلياً سوى حرية الفوضى، وحرية الانفلات الغرائزي، وضروب انعدام الاستقرار، وسيرورة الدول نحو حالتها البدائية الأولى، وتفككها إلى مزق وشظايا متفجرة، تدمّر ذاتها وتهدد غيرها، خاصّة في دول متنوعة ومجتمعات متعددة عقدياً وفكرياً وسياسياً مثل مجتمعاتنا ودولنا الغنية بمكونات اتنية ودينية وقومية، لم ترق بمجموعها للحالة الوطنية أو للوعي الوطني الحقيقي، وبقي فيها التناقض قائماً بين سرها وعلانيتها، مما يفترض ويستدعي بالضرورة –في مواجهة ذلك- سياسات أمنية فيها من الحزم (القانوني طبعاً) لحماية الاختلاف والتعدد والتنوع، (وبقاء أسس الدولة) كأحد أوجه ومعايير ومعاني الحرية ذاتها.. حيث لا حرية مع الفوضى والاقتتال وإشعال نيران الفتن الطائفية.
وبطبيعة الحال تلك السياسات الأمنية هي محصورة بيد الدولة، أي هي من مختصات الدولة فحسب، وليست من وظيفة واختصاص قوى المجتمع وفعالياته وهيئاته (وكل من يغني على ليلاه من هؤلاء ومن غيرهم)، لأن الأفراد تنازلوا لمؤسسات الدولة – من خلال العقد الاجتماعي الطوعي – عن احتكار “شرعية العنف” و”منطق القوة”، من أجل منع الفتن والاضطرابات والمشاكل والأزمات الصراعية ومختلف أعمال العنف، وضمان بقاء المجتمعات مستقرة وآمنة كشرط لوجودها وحضورها وعيشها الآمن الحر.. وكلنا نعاين عمليا اليوم التداعيات والنتائج الخطيرة والمكلفة لانفراط عقد الدول ذاتها.. حيث أنّ ضعف الدول (وليس قوتها) هو ما هدّد ويتهدد وجود الفرد والمجتمع ووحدتهما.. فما يأتي مع الأمن والاستقرار، لا يأتي أبداً مع الفوضى، والتهديد بفناء المجتمعات، خاصة مجتمعاتنا التي تحول فيها الدين إلى نزعات اسطورية تدميرية.
وكل ما تقدم لا يجب أن يكون دافعاً لسياسات الانغلاق “الهوياتي”، ولرفض منح الناس حقوقها الأساسية، بحجة تحقيق الاستقرار، وتبرير النيل من مكتسبات الحقوق الهائلة المعروفة على صعيد الاعتراف بالمختلف والحريات الشخصية والعامة، ولا يجب أن يكون أيضاً مقدمة لرفض منطق الصياغات الدستورية والمكتسبات القانونية المدنية التي تمكن منها العقد الاجتماعي المدني الحديث، بعد تجارب ومراكمات نظرية وعملية كثيرة أفضت إلى بناء دول حديثة وحضارات مدنية عريقة أكسبت الإنسانية تألقها وتقدمها الفذ في كافة المجالات، كانت فيها قيمة الحرية شرط الوجود وقاعدة الإبداع.
وقد يقولُ البعض، إن الحقوق مهمة وضرورية، ولكن العلم أهم وأرسخ وأكثر ضرورة…!!.
في الوقع، لا نشك لحظة في أهمية العلم، لكن العلم ليس غاية بل وسيلة مهمة للعيش المستقر والرغيد وأداة من أدوات توفر الإنسان على أمانه واستقراره.. أنظروا للطائرة مثلاً، هذا الاختراع العظيم الذي تمكن منه العقل البشري.. إنه يستخدم في اتجاهين، اتجاه خدمة البشر، واتجاه آخر لقتلهم وتدميرهم.. والسؤال هنا: من يحدد هذا الاستثمار والاستفادة على طريق الحياة والبناء أو الموت والدمار؟!.. ليسَ العلم – من يحدد – بل قناعات البشر، أفكارهم، مصالحهم، نزعاتهم، ما يؤمنون به من أفكار وعقائد ورؤى معرفية وكونية.. يحدده إيمانهم بأيديولوجيات فكرية (دينية أو غير دينية على السواء..!!.
نعم العلم بعدما سما وارتفع، تبيّن لنا مدى صلاحياته وغاية إمكاناته وقدراته، فهو دون شك أو تعقيد ضياءٌ لمعرفة الحقيقة ووسيلة مهمة وحقة لرؤية الواقع في مختلف جوانب الواقع وتنوع حقول الحقيقة، بمعنى أنه يكشف الحقيقة أمام الإنسان، ولكنه (أي العلم) ليس محرّكاً للإنسان في حياته ولا دافعاً له في تكامله وقيمه ومعاني وجوده، بل يقتصر دوره ووظيفته كما قلنا على كشف الحياة وتوضيح التكامل ووضع الوسائل والأدوات.
إنَّ القوة الأساسية والمحرّك الحقيقي للإنسان في سعيه الحياتي للأمن والحقوق وتفعيل وجوده وحضوره الأرضي، هو طبيعته وغرائزه وميوله، فالإنسان خُلق بفطرة نقية، خلق وعنده طموح يدفعه ساعياً نحو هدف محبوب وقيّم له متحركاً نحو ما يراه الأفضل من الحال، ويأنف الوقوف والجمود، ولكن الاندفاع الطبيعي للإنسان – كما يقول العالِم يوسف مروة – ليس نابعاً من مؤثر واحد، فقد يتحرك لدوافع شخصية أو نوعية، أو قد يندفعُ لأسباب فورية سطحية، وقد يلاحظ العواقب، وقد تؤثّر فيه عوامل مادية أو معنوية، وقد يحرّكه شعور يختلف عن شعور آخر سمواً وانخفاضاً، وهذه الألوان من دوافع الإنسان في سيره، وهي مشهودة لجميعنا نعيشها بوضوح.
فالعلمُ ينير الطّرق والسبل أمام الإنسان، والدوافع النفسية البشرية للحركة في هذا الطريق مختلفة ومتعددة، وهنا نصلُ إلى الشّعور بالحاجة الملحّة الى غربلة هذه الدوافع واختيار أصلحها للإنسان.. فهناك دافع شخصي مادي، وهناك دافع فطري إنساني نبيل، وهناك وهناك، وووإلخ. ولكن ما هو أهم وأكثر ضرورة من العلم هو شعور الإنسان بالأمن والأمان والاستقرار الروحي والمادي كشرط لبناء الحياة الفاضلة والمزدهرة.. وهو لا يتحقق فقط بالعلم والمعرفة، بل أيضاً بالحقوق وعلى رأسها العدالة وحق الحرية المصانة المضمونة.
ولكن في نظرة لما هو قائم تطبيقاً في كثير من بلداننا ومجتمعاتنا نجد أن العدالة مفقودة بالعموم، والحريات غير مصانة، بل مسحوقة.. والأمر الواضح والسافر في وضوحه، هو التّمتعُ بثرواتِ الناس وأموال الشّعوب وصَرْفَها على الملذّات والشّهوات وشراء القصور التاريخية واليخوت وقطارات السيارات الفارهة والفلل الفخمة وشراء الأندية واسطبلات الخيول والملاعب والمراكز الترفيهية والمواقع العالمية الجميلة، وووإلخ، كظاهرة نراها بالذات في مجتمعاتنا التي نزلت فيها الرسالات السماوية الداعية للعدالة.. نراها في عالم عربي، هو في ذيل الأمم تنموياً وحضارياً وصحياً وعلمياً وتقنياً وإنسانياً وحقوقياً، وربما في كل المستويات والأصعدة.. فمتى تنتهي هذه الظاهرة – التي تعبر عن أزمة أخلاق وأزمة فكر وإنسان وأزمة قلة إيمان – عند نخب العرب المنفصلة عن واقع البشر والمجتمعات؟!.. خاصة وأنها ظاهرة كلّفت شعوبنا العربية مئات مئات مليارات الدولارات، تم تبديدها على لا شيء..!!.. في وقت كانت المجتمعات أحق بها لتطوير واقعها الصحي والعلمي والتنموي وغيرها… ثم بأي حق (وبناءً على أيّ منطق وقانون وحكم وشرع) قام (ويقوم) المترفون والمتنفّذون العرب بنهبِ خيرات مجتمعاتهم وموارد بلدانهم الهائلة (والتي كانت من الضخامة بحيث أنها تكفي مؤونة مئات ملايين البشر ولمئات السنين)..؟!!..
يعني هل يعقل أن نرى الواحد منهم لديه عشرات القصور وكل قصر مساحته عشرات آلاف الأمتار المربعة (للسكن طبعاً) من غير الأراضي والحدائق التابعة له.. وممكن جداً ألا يأتي إلى أي قصر من تلك القصور إلا مرة كل عدة أعوام، بينما ينامُ كثير من الناس في مدن الصفيح، ولا يجد كثيرون منهم قوت يومهم من الغذاء والطعام والشراب، ويفتقدون للأمان والاستقرار المعيشي..!!.
إنّ ما فَعَله نخبُ العرب – من حكام القوة والعسف والظلام – بشعوبهم وثروات بلدانهم التي هي أمانة في رقابهم وأعناقهم (سيحاسبون عليها يوماً ما عند قويّ مقتدر)، لم يفعله أحد على هذا الكوكب إلا قليلاً..!!..
وللأسف ما زادَ الأوضاع العربية سوءاً هو أنْ تلكَ النخب العربية المفارِقة ترسّختْ ليسَ بقوة انتمائها لشعوبها وتعبيرها عن مصالح الناس، بل بقوة الخارج من القوى الكبرى التي منعت التغيير لصالح الشعوب، وتدخلت في شؤون الدول الداخلية، ورسخت حكم الطغيان والاستبداد العربي..!!.
فمتى يتغير العربُ ويدركون أنَّ بناءَ الإنسان من الداخل على العلم والمعرفة والأخلاق والحقوق الرصينة (الحقيقية لا الشكلية) هو أساس أي حكم شرعي وقانوني عادل، وهو قاعدة الإنتاج وبالتالي التطور والازدهار وتحقق السعادة وحدوث الاستقرار، والأمن والأمان الفردي والمجتمعي؟!..
إنه يتحقّقُ ويتجسّد فقط في ظل منظومة حقوق ترعاها وتجسدها دولة، تكون وظيفتها الحقيقية مشابهة لوظيفة الأم الحانية على أولادها، بوصفها الأرض والوطن والأمن والأمان والغذاء والحماية والحب والحنان والرعاية والاهتمام بكل مواطنيها وأفرادها بلا تمييز ولا مفاضلة، والفرق طبعاً بين الأم والدولة يكمن في كون الأولى مفطورة على الأمومة، ولها قلب وعيون، بينما الدولة عبارة عن مؤسسة مدنية جامعة للجميع بحكم الدستور والقانون الذي ليس له قلب أو عيون، وهذا ما يؤمن المساواة والعدالة بين جميع مواطنيها.