الشرخُ في العلاقة بين العلم والثقافة
بقلم غسان عبد الله
ثمة أسئلة كثيرة تطرح حول ماهية العلاقة بين العلم والثقافة وعلاقة كلاهما بإنتاج الإنسان وكذا علاقتهما بعموميات الوسط الاجتماعي. هل العلم نشاط نخبوي يتموضع في أبراج عاجية؟.. أم أنه نشاط إنساني له قواعد ومناخ وشروط تفاعل؟!. لكن في المقابل هل يمكن للعلم أن يقدِّمَ نفسه طواعيةً لثقافةٍ لا تمتلكُ عموميات العلم؟..
هذه الأسئلة وغيرها تفرض وجودها دون استئذان على المهتمين بأسباب التقدّم المادّي والتقنيّ في بعضِ المجتمعاتِ وتعثُّرِه في مجتمعاتٍ أخرى، باعتبارها التّحدي الأكبر الذي يواجهُ تلك المجتمعات على أبوابِ الألفيةِ الثالثة.
إننا حين نتحدّثُ عن الثقافةِ فإننا نقصدُ بها الرصيدَ الكليَّ للعملِ الإنسانيِّ ومنتجاتِهِ الاجتماعيةِ عبر صيرورةِ وجودِه التاريخية، إذن فهي نتاجٌ لتفاعلاتِ عناصرِ وجودِهِ على اختلافها وتنوُّعها.
وبما أنّ العلمَ هو نشاطٌ إنسانيٌّ كمّاً ونوعاً، فهو يمثّلُ من هذه الناحيةِ ذروةَ تلك التفاعلات. إذن فالعلمُ منتجٌ ثقافيٌّ بالأساسِ ويرتبطُ معها “أي الثقافة” بعلاقةٍ تبادلية، فبالقدر الذي توجّه فيه الثقافةُ العلمَ نحو الأخلاقِ والجمالِ يوجِّهُ العلمُ الثقافةَ ويكرِّسُ عقلانيتها، يمنعها من النّزوعِ نحو غياهِبِ اللاعقلانيةِ أو الوقوعِ في أسرِ البِدَعِ والأساطير.
إن اختلالَ ميزانِ العلاقةِ بين العلمِ والثّقافةِ يرجعُ لسبَبَيْن رئيسيَّيْن، إما لضآلةِ الوزنِ النسبيِّ للعلمِ في هذه الثقافة، بمعنى أن كسبَ مضامينها من العلم قليل، فتفسّر الظواهرَ الطبيعيةَ كالرّعدِ على أنّه سببٌ لغضبِ الطبيعةِ أو ظهورِ المذنّبات على أنها مؤشِّرُ لحدوثِ الكوارثِ ونشوبِ الحروب. حالها في ذلك حالُ الشّعوبِ البدائية. أما السببُ الآخرُ فيعودُ لعدمِ تشكّل العلمِ والثقافةِ بالمعنى الخاص في منظومة، بمعنى وجود شرخٍ في العلاقة بين العلمِ والثقافةِ، على اعتبارِ أنَّ العلمَ علمٌ والثقافةَ ثقافة. هذا الوضعُ يفضي إلى وجودِ عقليّتَيْن مختلفَتَيْن وثقافَتَيْن لا يمكنهما التواصلُ فيما بينهما. فالثقافةُ الأدبيةُ اقتصر اهتمامُها على الإنسانياتِ، كالتاريخِ، الفلسفةِ، الفنِ، الأدب.. الخ.. ويكتسبُ وصفُ المثقّفِ كلَّ من يكتُبُ في تلك المجالات. أما العلماءُ فينظرون إلى الثقافةِ الأدبيةِ من منطلقٍ استعلائيٍّ بوصفها ظاهرةً صوتيةً لا علاقة لها بضروراتِ البشرِ الأساسية.
أما المظهرُ الآخرُ من مظاهرِ القطيعةِ بين العلمِ والثقافةِ فيكمُن في وجودِ فئاتٍ متعلّمةٍ لم يتجذّر البعدُ العلميُّ في بنيتهم الثقافيةِ، وبقاؤه منعزلاً داخلَ أسوارٍ المؤسساتٍ التي ينتمونَ إليها، حيث نجدُهم علماءَ داخلها، يمارسونَ تفكيراً علمياً وسلوكاً عقلياً في مجالِ البحثِ والدراسة، بينما يسلكون خارجها سلوكاً لا يمتُّ إلى العقلِ والعلمِ بِصِلَة، سيما في مجالِ العلاقةِ بالآخرِ والعاداتِ الشخصيةِ. وقد يلجأُ بعضُهم أحياناً إلى قُرّاءِ الكفِّ وبقايا الفنجانِ لاستشرافِ المستقبلِ وكشفِ المجهول.
في الواقع لا يزال العلمُ يتموضعُ خارج سياقِ ثقافتِنا العامة، نتعاملُ معهُ بشكلٍ منفصلٍ يتأطّر فعلُهُ داخلَ المؤسساتِ العلمية، وهذا يحرمُ ثقافتنا من التّغذيةِ الراجعةِ لأساليبنا وطرائقِ تفكيرِنا ونظرتِنا إلى الأشياءِ في الحياة. فالعلمُ حتى يكتسبَ ديناميتَهُ وفاعليّتَهُ الجدليةَ، أمرٌ مرهونٌ بتوافر بيئةٍ حاضنةٍ مدركةٍ لقواعدِهِ ومتفهّمَةً لشروطِهِ، وهذا لا يتأتى إلا عبرَ الإسهامِ وبفاعليةٍ في تكثيفِ الوعي العلميِّ وترسيخِ جذورهِ في التركيبةِ الاجتماعيةِ، من أجلِ تأسيسِ بنيةٍ تحتيةٍ تمتلكُ عمومياتِ العلم وتكون قادرةً على التجاوبِ مع معطياتِهِ ونتاجاتِهِ. فالثقافةُ لا يمكنها أن تنمو وتتطوّرَ بمعزلٍ عن ملامحِ ثقافةٍ علميةٍ تكون قادرةً على إحداثِ تغييرٍ في ذهنيةِ الناس، وتزيدُ من اهتمامهم بسؤالِ العلمِ ومُخْرجاتِهِ التي طالما تمَّ التعاملُ معها على أنها تهديداتٌ موجهةٌ نحو بُنْيتِهم الاجتماعية. من هنا تأتي أهميةُ الثقافةِ العلميةِ لتغيّر من آليةِ تفكيرِنا وأساليبِنا التقليديةِ ونظرتِنا إلى الأشياءِ في الحياةِ بأساليبَ جديدةٍ ترتكزُ على دعائم قويةٍ يشكّلُ العلمُ فيها حبكةَ ثقافتنا العامة.