شذراتٌ فكرية ومشاهد واقعية من عالمنا (الإنساني!) المُعاصر من أفكار الحياة وقيمها الرصينة
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
مرَّ زمنٌ طويلٌ ونحنُ نسمعُ من العرب جميعاً، نخباً ومفكرين، سياسيين واقتصاديين، بأنَّ ما يجري في المنطقة هو مخطط تآمري “صهيو- أمريكي” علينا وعلى شعوبنا لمنعنا من التقدم والتطور والحداثة العلمية وغير العلمية..
ولا شك أن الغرب وعلى رأسه أمريكا، رسموا وما زالوا يرسمون الكثير من الخطط الرامية لاستهداف المنطقة في قدراتها وطاقاتها وثرواتها ومقدرات شعوبها.. ولكن على الرغم من ذلك، نسأل:
كيف تصرّفَ العربُ والمسلمون طيلة تلك المدة الزمنية الطويلة التي عاشوها لمواجهة ما قالوا إنه مؤامرات ومخططات ودسائس مستمرة طويلة دائمة شبه سرمدية البقاء والإقامة في واقع العرب والمسلمين؟!!.
مع أن هناك شعوباً وقبائلَ وأمم وحضارات واجهت ربما ما هو أفظع وأكبر وأوسع مما واجهه ويواجهه العرب من تحديات وحروب وصراعات ومؤامرات عليها، ولكنها لم تُتعِب نفسها كثيراً في الكلام والخطابات الإنشائية والشعارات البرّاقة والأيديولوجيات المنمّقة، بل صمتتْ وبذلت وضحّت، فكرت واشتغلت وصمّمت وامتلكت إرادة الفعل، فعملت بنشاط وفعالية، وصبرت بلا ضجيج ولا صخب ولا قرقعة إعلامية مستمرة؟!!..
نعم، ماذا فعل العرب؟ وماذا كانت النتائج حتى اليوم؟!!..
للأسف ما زالوا يعيشون في لجّة الفوضى والاحترابات والاقتتالات السياسية والعنفية، الرمزية منها والعضوية.. وما فتئوا يرهنون وجودهم للآخر، ويتعيشون رومانسياً على نظريات المؤامرة ويغرقون في فكر التآمر، وينسون مرارة واقعهم، ويحلمون بالتغيير دونما أي فعل، ويتّهمون غيرهم بأمراضهم المزمنة المقيمة فيهم منذ عقود بل منذ قرون.. ركزوا على مواقع ومعاني السيطرة والهيمنة والاستفراد بالثروات والمقدرات، ونسوا أنفسَهم وواجباتهم في البناء والتنمية والعمران الحقيقي والحداثة العلمية والتقنية وغيرها، واشتروا حداثة قشرية ظاهرية استهلاكية أبقتهم متطفلين على غيرهم، ولم يستفيدوا من ثرواتهم ومواردهم إلا قليلاً..!! وهذا كله جعل منهم (أي من العرب) مجرد ظاهرة صوتية فحسب..!!. حقيقةً العبرة تقول: إنه فقط وفقط عندما تعترفُ بحقيقةِ مرضك، ستبدأ رحلة التّعافي والتّشافي..!!.
-2-
الثقافة السياسية العقلانية التي تعود بالمنفعة والخير على النّاس والمجتمعات في تطورهم وازدهارهم، هي تلكَ التي تقوم على الحقوق والعلمِ والقانون، ويتميز أصحابها بالحكمة والحصافة والرصانة والمعيارية والرؤية البعيدة. فالسياسة أضحت – مثل غيرها من العلوم ومختلف فروع الدراسات الإنسانية – علماً قائماً بذاته يُبْنَى على مفرداتٍ ومعايير علمية تأسيسية متينة، تُدرّسُ بالأكاديميات والجامعات كاختصاصٍ نوعي يتخرجُ منه اختصاصيون محترفون وخبراء، وليس هواة قليلي الخبرة، ولم تعد مجرد أفكار مبعثرة ورؤى ساذجة متناثرة ومواقف عبثية مرتجلة قائمة على التحدي والشعار والصوت العالي.. لكن الوضع عند العرب – كما نراه ونعاينه في سياساتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وردود أفعالهم – مختلف كلياً عن الدول والمجتمعات الأخرى، فمثلما أنه لا قيمة كبرى عندهم للعلم، فلا قيمة لكل مفرداته ومنها السياسة التي يمارسونها تقليداً وسذاجةً ونفاقاً وتكاذباً للحفاظ على المصالح الخاصة، ولو على حساب مصالح الناس والأمة بأكملها.. فالمهم الثبات والرسوخ والتحدي، وليس التنمية والبناء والتطوير والازدهار الفردي المجتمعي..!!.
طبعاً هذا لا يعني أن الثقافة السياسية لدى باقي الدول لا تختزن الكذب والنفاق وممارسة التضليل وَلَي عنق الحقائق.. بالعكس كل الدول (حتى المتقدمة والمتحضرة منها) تمارس سياسات التضليل والنفاق.. فالثقافة السياسية عموماً تشتهر – من بين ما تشتهر به – بهذه القيم السالبة (التكاذب والنفاق).. لكن عند العرب بالذات يأخذ التكاذب والنفاق قيمة وبعداً تأسيسياً متجذّراً، يعني يصبح أصلاً وبنيةً وليس مجرد آليةٍ أو سلوكية خاصة بظرف أو موقف يستدعي ذلك..!!.
-3-
زمننا هو زمن المادة والجسد والرؤية العيانية.. وهو أيضاً زمن الصورة والمشهد والحركة.. زمن طغيان البعد الحسّي التجريبي على العقلي والروحي والرؤيوي التأملي.. فحتى على مستوى الحب والروح، نرى بوضوح كيف أن معاني الحب الروحية تبدلت وتغيرت وتحولت لدى الكثير من الناس.. فقصص الحب الرومانسية الروحية القائمة على مشاعر إنسانية نبيلة تكاد تكون غائبة وشبه معدومة.. نعم لقد اختلطت المفاهيم، وتداخلت القيم، وتشوشت لدينا المعاني الروحية، وأثّرتْ وسائل التواصل فينا على نحو جعلنا نزيّف قيمنا ومشاعرنا ونعطيها معاني حسية مكانية طاغية..
ربما عصر الصورة المباشرة، وسريعة الوصول إليها واستحضارها، بكل تفاصيلها وأشكالها البراقة واللماعة والجميلة ظاهرياً، ربما هو الذي طغى على معاني وقيم الحب الجميلة الراقية، حتى أصبح السواد الأعظم من العشاق يعبّرون اليوم عن مشاعر مزيفة لمجرد الإعجاب والانبهار الأول فقط، فتراهم يبوحون بكلام آلي جامد ومتكرر خالٍ من معاني الروح والعاطفة والإحساس المرهف، وفارغ تماماً من المعنى الجواني النفسي العميق..
وأعتقد أن ثقافة الصورة النمطية الآلية هذه، رسّخت في ذهنية شبابنا حالة سلبية من الإباحية المطلقة، على أساس أنها انفتاح وحداثة تتماشى مع روح العصر ومع تقدم الحياة وتطور الحضارة..
.. ولا أدري إن كان سيجدي نفعاً أنْ نعيدَ التأكيد هنا على أنّ الروحَ والمعنى والقيم الأصيلة الرفيعة تبقى هي الأساس في حركة وجودنا الحياتية، وحتى في دروب الحب والعشق والعلاقات العاطفية المفترض أن يكون فيها شيء من النبل والكرامة والفروسية الرومانسية.. إذ أنّ ما يؤسّسُ على المادة والشكل والصورة النمطية (المزيفة) الطاغية، سيزول وينتهي بانتهاء لحظته الشهوانية السريعة العابرة، وما يبقى ويستمر هو الحب الجوهري العميق الذي يستمد وجوده من معاني الروح النبيلة والقيم الإنسانية الطاهرة.. الحب الخالي من النفعية واللحظية.
-4-
صحيحٌ أنَّ الدولةَ المدنية الحيادية البعيدة عن التدين الشعبوي والعلمنة الفجّة هي الحلّ المنشود لخروج العرب من أزماتهم الوجودية التي عالجوها تطفلاً على غيرهم وبأسوأ المعايير والمعاني والآليات.. وهذه الدولة لا تتحقّق إلا بالوعي العَقلي المدني والآليات الديمقراطية الصحيحة، وإعطاء الحقوق الفردية التي دعت إليها كل القوانين والشرائع الدينية والإنسانية.
ولكن السؤال:
هل تتوفر مناخاتنا السياسية والثقافية العربية – التي انطبعت طويلاً بطابع الملك العضوض، وعقلية التغلّب وولاية المتغلب “الدينية!” البعيدة عن اختيارات الناس – على هذا الشرط الجوهري للبدء بعملية التحول الديمقراطي المدني الحقيقي المنشود؟ أي هل أنَّ الفردَ العربي حرّ في اختياراته، عندما يذهبُ لتأدية واجبه (وحقه) الوطني إلى صناديق الاقتراع لينتخب هذا المرشح أو ذاك الحزب؟! هل يعلم عنهما شيئاً؟! وهل علْمه ومعرفته بالمرشحين مدروس وقائم على اختيار نوعي حر؟! أم أنّ الأمر هنا مجرد تقليد شكلي أعمى، وحمى جماعية تقوم على تأييد هذا المرشح أو تلك الكتلة أو ذاك الحزب لمجرد رفعه شعارات مؤطرة ومزينة ومزخرفة بتلاوين وشعارات أيديولوجية عاطفية أو لمجرد انتمائه لجماعة ما أو لمجال تاريخي ديني تقليدي محدد خاص بهذه الفئة أو تلك، أو لمجرد أنه يخاطب مشاعر وعواطف دينية خاصة؟!.. فهل الوعي وحرية الاختيار هي معيار الانتخاب المدني الحر في مجتمعاتنا السائرة نحو الديمقراطية حالياً؟!.. ثم إن الناس عندما انتخبت وصوتت لكتلة علمانية من هنا أو كتلة إسلامية الطابع والفكر والامتداد من هناك، أدت لفوز تيار إسلامي (أو تيار علماني) مثلاً، هل كانت تدرك تمام الإدراك بحقيقة برامج تلك النخب والأحزاب، ووعودها الانتخابية، ومدى القدرة والإمكانية الموجودة لديها على تنفيذ ذلك؟!.
نعم هذه هي الديمقراطية كآلية حكم وانتخاب يسمح لأصحاب التأييد الشعبي الأكبر والأعلى في الوصول إلى السلطة من حيث الإطار والإجمال العام، وهي تقضي هنا القبول بنتائج الصندوق بقطع النظر عن المقدمات والأسباب والدوافع ومستويات الوعي ومعايير الاختيار الصحيح.. أي أن قبول النتيجة مسألة أساسية لكل الأطراف واللاعبين السياسيين، مهما كانت المعطيات التي أنتجها هذا الصندوق.. ولكن هذا شرط لازم غير كافٍ.. لأن كفايته لا تتم، والتحقق الكامل للديمقراطية الحقيقية لا يُنجز، من دون وجود ثقافة ووعي معرفي وحداثة فكرية تقوم على إعطاء الفرد حريته الكاملة في اتخاذ قراراته وتحديد مصائره بوعي وإرادة واعية كاملة من دون قسر فكري ديني أو غير ديني.
-5-
ثقافة القهر وعقلية التغلب هي التي عطلت مواقع الإبداع والعطاء في جسم هذه الأمة.. وساهمت في تقديم صورة نمطية وحيدة عن الدين من حيث هو سلطة مطلقة وحقيقة عليا تمامية والتزام نصوصي قدسي فوق إنساني، يقوم على قواعد صارمة من الإلزامات السلوكية الشكلية القادمة من عوالم الفقه والوعظ السلطاني العتيق.. هذا ما أدى إلى إغلاق عقول الناس وأفهامها على قيم الماضي البعيد الجميلة، وحطم كوامنها وإراداتها الذاتية التي كان من المفترض أن تدفعه وتحثه على العمل والإنتاج والإبداع والمشاركة في الخلق والفعل، وعدم الانزواء في الزوايا والتكايا المقدسة هنا وهناك.. وهذا هو الفهم المغلق للدين والهوية الدينية.
أما الفهم الآخر للدين المنطلق من خلال ضرورة العمل على بث روح الفعل والمبادرة في نفوس المؤمنين به، فهو دين الحرية، دين الاختيار الحر الواعي، الذي يمكن اعتباره مرجعية معنى متنوعة، ورأسمالاً معنوياً وحضارياً لمجتمعاتنا، ومنظومات فكرية وأخلاقيات عامة تنشد الجمال والكمال الروحي للذات الفردية، وإقامة العلاقات بين الناس على قواعد المحبة والتسامح والكرامة الإنسانية.. وهذا الفهم العقلاني لحركية الدين والتدين هو الذي يمكن أن يدفعنا لممارسة وجودنا وعقلانيتنا وحداثتنا – والانخراط في ميادين العمل المعاصر والمستقبلي – بصورة منتجة وفعالة ومؤثرة؛ والتفاعل مع الحياة بعقلية التشارك والتبادل والحوار والتداول والتحول المبدع على مستوى الفرد والمجموع والدولة ككل.
-6-
لا يأتي التعصبُ من فراغٍ أو لوحده هكذا لله بالله، وهو لا يورّث، بل هو أمرٌ يكتسب اكتساباً تبعاً للتربية والبيئة والتربة الفكرية والنفسية والاجتماعية التي يعيشها كل فرد، ويخضع لها في كثير من مواقع حياته.. ولهذا نجد أنّ التعصب والانغلاق ورفض الآخر تتواجد وتشتعل في بيئة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وهيمنة ظروف الحرمان، ومناخات القهر والظلم، أكثر من تواجدها واشتعالها في ظروف الراحة والاستقرار والرفاهية والحقوق المصانة بالقانون.. مع أننا كلنا متعصبون بشكل أو بآخر، لكن الوعي والعقلانية والعلم له دور في تقليل نسبة التعصب، وكذلك حصول الإنسان على حقوقه ومتطلبات وجوده كلها عوامل تعيق تفشي التعصب.. أما الحرمان والظلم فهي كلها أفضل تربة وأقوى عامل جاذب له..
إن العصبية حالة نفسية ضاغطة وقاهرة على النفس والإنسان، تربكه وتحد من قدراته، وتكبّل مواهبه وطاقاته، وتمنعه من الفعل والحضور المنتج في حياته العامة والخاصة.. بمعنى أن العصبية تحول الفرد المتعصب إلى كتلة هامدة منفعلة ومشلولة، وأحياناً ترميه في بؤرة نيران التطرف والغلو الفكري والسياسي وغيرهما.. فيتحول لقنبلة موقوتة تقتل وتفتك بالأبرياء..
ولا علاج للعصبية سوى بالحقوق واحترام كرامات الناس وتقدير مواهبها وطاقاتها وتأسيس البنية السياسية اللازمة لهذا التغيير النوعي المنشود..
-7-
لا شكّ أنّ الإرهابِ إجرام، وإلغاء للآخر، وتكريس للفوضى والدمار وانتهاك لأصل وجود الإنسان.. وهو عمل حرمته كل الشرائع الارضية والسماوية برغم اللافتات الدينية والشعارات الوضعية التي يندرج عمله تحتها..
من هنا، تستدعي مكافحة الإرهاب أن نفهم ونعي حقيقة وأسباب وجوده وتغلغله في بنى مجتمعاتنا أو مجتمعات غيرنا، حتى نستطيع أنْ نعمل ونحثّ الخطى لمعالجته، لنصل إلى مرحلة وحد أن نقضي على جذوره وامتداداته في عمق مجتمعاتنا بالذات التي عانت طويلاً وكثيراً منه..
وبطبيعة الحال، لا ينجح الإرهاب في أي بلد، ولا يتغلغل فيه من دون وجود مناخات وقواعد فكرية ومرتكزات تاريخية ومحاضن اجتماعية، وتطبيقات عمل سياسية واقتصادية نخبوية عقيمة مفروضة بقوة القهر والعسف، تبعد وتقصي الناس عن دورها وشؤونها ومصالحها.. وهذا كله قائم ومتوفر للأسف عندنا في بلاد العروبة والمسلمين..
وفي قناعتي أنه لا يولد أحدٌ من بطن أمه بقناعات إقصائية ورؤى إرهابية.. ولا يوجد عقل سوي يدعو للإرهاب والقتل والدمار.. بل هو اكتساب خارجي، ينطلق كنتيجة ومحصلة وثمرة لرؤى تطبيقية سياسية واجتماعية واقتصادية.. هو ثمرة لانسدادات ومآزق وصراعات لم يتح حلها وحسمها بالوعي والعلم والتسالم القيمي الحقوقي الاجتماعي.. وليست هذه الانسدادات إلا نتيجة خيارات سياسية واستراتيجية خاطئة قررتها وزرعتها ورسختها نخب مفارقة لا ترى غير ذاتها ومصالحها الخاصة.. إنه فكر وسلوك القسوة والحرمان.. احرم ابنك، واقمعه، واحبسه في القمقم يصبح عدوك.. ويتحالف مع ألد أعدائك ضدك..
من هنا، التربية والإصلاح السياسي الحقيقي هو أول خطوة صحيحة وعقلانية على طريق الحل الطويل.
-8-
عندما تضيقُ الحياةُ على الناس، وتنخفضُ مستويات معيشتهم إلى الحضيض، تنخفض معها أخلاقياتهم، وتتزايد مظاهر تفككهم وانحلالهم وانخراطهم في ارتكابات وسلوكيات عنفية متطرفة، وتتصاعد معدلات السرقات واللصوصية وحتى الجرائم في بيئتهم بشكل غير معتاد.. بما يعني أنه لا يمكننا فصل تفشي العنف وانتشار الجريمة والسلوكيات العنيفة الرعناء -في أي مجتمع- عن تدني معيشة الناس فيه، وانعدام فرص العيش الآدمي البسيط، بل وانغلاق الآفاق أمامهم..
بطبيعة الحال، هذا ليس تبريراً بقدر ما هو إحاطة تفسيرية وتشخيص اجتماعي علمي لواقع سلبي سيء تتصاعد خطورته ويزداد انحطاطاً بما يستوجب دراسته ومعالجته.
-9-
في نظرة تحليلٍ وتأمّلٍ لكلّ حوادثِ التاريخ وتحولاته ووقائعه وأحداثه، هناك درس ثابت وراسخ عبر كل هذا التاريخ وهو:
عندما تضع نفسك (فرداً أم مجتمعاً) تحت ظلّ (وهيمنة) الآخرين (أيا كان هؤلاء الآخرون)، عليك أن تتوقع منهم أي شيء، وصولاً إلى المساومة عليك، والتصرف بك كيفما يشاؤون… وحيثما تدور أو تقف أو تتحرك سفن مصالحهم ومطامعهم.. فـــــ “المصالح حاكمة ثابتة، والصداقات محكومة متغيرة”.. والبشر عموماً (أفراداً ومجتمعات) محكومون ومرهونون وتابعون ومستلحقون لحاجاتهم وشؤونهم ومصالحهم الدائمة.. خاصة في الظروف الضاغطة المعقدة والصعبة والاستثنائية.
-10-
يعود أبو صالح (الأب) بعد غياب عامين عن بلده وقريته وأهله فيستقبله ابنه البكر (صالح)، وفي طريقهما إلى المنزل يسألُ الأب عن أحوال أسرته في غيابه، فيرد الابن: الحمد لله يا بيي، كل شيء تمام.. فيعقّب الأب: يعني ألم يحدث أي شيء معكم خلال فترة غيابي، يجيب الولد: أبداً يا بيي كل شيء تمام، بس، “أي لكن بلهجة أهل الشام”.
يسأل الأب بلهفة: بس شو يا صالح، يرد الابن: كُسرت عصا الرفش “المعول”، يتنفس الأب الصعداء ويقول: وقفتَ لي قلبي، من ثم يستدرك سائلاً: وكيف كُسرت عصا الرفش، يردّ الابن: وقت كنا نحفر قبراً لبقرتنا الحلوب..!!. يندهش الأب ويسأل: وهل ماتت بقرتنا، لا حول ولا قوة إلا الله، هذه حال الدنيا، ولكن كيف ماتت البقرة يا بني؟!، يرد الولد: “ماتت حرقاً يا أبي وقت كانت مربوطة قرب بيدر القمح وقت احترق”، يندهش الأب: “وكيف احترق البيدر”، يجيبه ابنه، “حينما رمى أخي عبود الصغير السيجارة قربه”.
يسأل الأب بما تبقّى لديه من صبر وقدرة على الوقوف، ومنذ متى يدخن عبود، يرد الولد: “منذ ماتت أمي قبل ستة أشهر يا بيي، فجميع إخوتي يدخنون”.
مسك الرجل نفسه من السقوط وسأل:
“كيف ماتت أمك يا صالح؟!!”، يرد الولد: “لشدة حزنها على أختي نظمية، بعد وفاة زوجها”، “وكيف مات زوج نظمية يا صالح”. يتابع الأب الأسئلة، فيرد الولد: “دهسه تركتورنا “جرارنا” غير اللازم بعد أن بعنا أرضنا لإيفاء الديون”..
وبأنفاسه الأخيرة قبل أن يسقط، يسأل ياسر العظمة ابنه، “وممن استدنتم ولماذا”، يرد الولد، “استدنا من المختار لندفع ديّة لآل الخشاب، بعد أن قتل أخي ابنهم إثر خلاف على سقاية الأرض يا بيي”.
وبسؤاله الأخير وقبيل إغمائه وسقوطه، يقول أبو صالح لابنه: “هل بقيت أخبار تسم البدن يا صالح؟!!”، يرد الولد: “لا يا بيي، كل شي تمام”..!!!!!.
فعلاً كل شي تمام..!!!. ويا هيك التّمام يا بلى..!!!.