البلاغة ما بين الإفهام والإبهام!!
بقلم غسان عبد الله
ثمة أسئلةٌ تتزاحم في ذهني على هامش الثقافة هذا وهي: هل علم البلاغة ضروري للإقناع؟ أم يقف هذا العلم شامخاً، فقط، عند مشارف الإفهام؟ وفي مستوى آخر، هل كلُّ ما يفهم يكون خاضعاً لنسق بلاغي؟ أم هو مجرد تخييل المعاني؟ ماذا نعني إذا قلنا إننا فهمنا كذا وكذا؟.
الإفهام هو وضوح وتجلٍّ ضد الإبهام والغموض، ديدنه رفع اللبس عن مقام الحال، فالنهضة الإسلامية قامت على سحق المشككين في الرسالة النبوية، حيث اعتبرت المعجزات إحدى الخيارات الصعبة، التي دافع بها الأنبياء والرسل عن الوحي الإلهي، وواجهوا بها عتو الكافرين والملحدين.
فالإفهام، في هذا المستوى، رسالة بلاغية يتوخّى منها نـُصرة الدين الجديد على يد المكلفين بالتبليغ، كما هو الحال بالنسبة لموسى عليه السلام، عندما تحولت عصاه، التي يهش بها على الغنم، إلى أفعى تلقفت ما صنعوا من إفك. أو عندما خرج الماء الزلال من بين أصابع المصطفى الأمين، ليروي ظمأ قومه، ويطهرهم للصلاة.
إن الإفهام لا يتعلق، دائماً، بالدلالات اللغوية، أو ربط الدال بالمدلول أو حتى تخييل المعنى، وإنما هو مرتبطٌ بالحجّةِ المنطقيةِ التي تقطعُ الشكَّ باليقين، وتمدُّ جسورَ الإفهامِ بهدفِ الإقناعِ واستمالةِ الجاحدِ والمُنْكِرِ أو التشكيك في قناعاته، عن طريقِ قطعِ روابطِ التّفكيرِ لديه. فالمعجزةُ، على سبيل المثال، حجّةٌ منطقيةٌ، بلاغتُها إفهامُ المشكِّكين بمضمونِ الرسالة، التي جاءَ بها النبي(ص)، فتوظيفُ حدودِ العقلِ يُبطِلُ النقل؛ لأن قصة موسى وعصاه، تمّت بحضورِ الفرعونِ وحاشيته.
ولأن الظاهرة البلاغية تتخلّص من شوائبها باستمرار، فإن الحاجةَ الماسةَ لرسم حدودٍ للتعاريف، أصبحتْ مطلباً رئيساً لمعرفةِ الامتداداتِ بين أهمِّ بنياتها التعبيرية.
فما البلاغة إذن؟.. إن البلاغة، في مفهومها العام، تدلُّنا على الخطابةِ، من حيث إنها مفهومٌ يكشف عن خبايا التواصل الجيّد، وقد يأتي النسقُ الحواريُّ مجسِّداً لمفاهيمَ تحومُ حولها من زاويةِ المعنى والمبنى؛ كالفنِّ والصناعةِ والإجادة… وغيرها، التي تدور في فلكٍ معرفيٍّ يتصيّدُ حُسنَ الخطابةِ والإلقاء. وفي هذا البابِ يتسنى للخطباء أن يرحلوا خببا إلى ميدان الشعر، فتـُكتم في جوفه أسرار الخطابة، وإن تعلّقت – أي الأسرار -بالصوت وطريقةِ اللباس والإنشادِ أيضاً، بما هي طقوسٌ ترافقُ جنونَ الكلام والقول.
إن اختيار الصفات الحسنة، التي لها وقعٌ على السامعِ بهدفِ إقناعهِ أو استمالتهِ، تندرِجُ ضمنَ إطارِ الخطابةِ التّداوليةِ العليمةِ بأحوالِ السامع، ومدى تمكُّنِه من الخبر ومقتضياتِه، فالخطيبُ الجيّدُ هو الذي يلقي الخبرَ وفقَ الحالِ والأحوال، بما هو اقتصادٌ في الجهدِ والعمل، حسب المقامِ التّداولي. وعلى مرّ عصورِ الأدبِ العربيِّ الفصيحِ، وفي تاريخِهِ العريق، الذي انكتبتْ فيه الغنائيةُ والإنشاد الشعري، كان حضور السمع والإفصاح عن الطرب من أهمّ الركائز، التي وطّدت بها البلاغة أسسها في الوجدان العربي، ومن الطبيعي أيضاً أن تحفلَ الطبيعةُ بالاختلافِ على مستوى إيقاعِ الأصوات، بما هو إنشادٌ تتشكّلُ منه سمفونيةُ الوجودِ. وفي هذا التّباينِ والتّشاكلِ الخاص في أصواتٍ طبيعية، أو بالأحرى أصواتِ الطبيعةِ المتمثلةِ في غنائيةِ الطيورِ والحيواناتِ وجريانِ المياهِ في الوديانِ، وصفيرِ الرياحِ في الفلاةِ والفيافي، وكلِّ ما له علاقةٌ بالكينونة، هي بمثابةُ لغةٍ طبيعيةٍ فصيحةٍ وبليغة، حسب الرومانسيين الجدد، الذين ينتصرون للتميُّز وإبراز الذات في الإبداع.
بهذا المنعطف تتداخل الخطابة بالبلاغة، ويصبحان معاً تيارين معرفيين كبيرين يغذيان الوصل الثقافي بين قديم التراث العربي وحديثه؛ لينفصلا في ما بعد إلى تيارات فكرية كبرى، تهتم بالبديع الشعري والنثري على حد سواء.
إننا، إذن، إزاء منتظم من الكلام والقول، الذي يؤشِّر لتواصلٍ مرغوبٍ فيه، بدءاً بالمعرفة البيانية، واستحداثاً لصور بنائية تأخذ مسافة مثلى بين ما هو منطقي وما هو لساني. فالمنطق سيشرعن لنا العبور الآمن إلى عوالم الحجة والإقناع، ذات النسق المركب بين السبب والمسبب، بينما اللساني يستشرف عوالم البديع وجميع المحسنات البلاغية، التي نستميل بها السامع. ورغبة في تداولية المعرفة حسب التسلسل الزمني، نجد أن ما يعرف تجنياً بعصرِ الانحطاط دوّنت فيه أسماء أعطت الشيء الكثير لإمبراطورية الإقناع البلاغي، والائتلاف بين استعمالات الألفاظ ومعانيها.