صفعة إفريقية جديدة لفرنسا.. ساحل العاج، السنغال، وتشاد، تطرد القوات الفرنسية من بلادها
بقلم ابتسام الشامي
بعد انسحابها القسري من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تجد فرنسا نفسها مضطرة إلى الخروج من دول إفريقية جديدة، كانت حتى الأمس القريب مستعمرات لنفوذها في القارة السمراء.
وعلى خطى الدول الثلاث، طالبت ساحل العاج والسنغال القوات الفرنسية مغادرة أراضيها، بعدما ألغت تشاد مطلع الشهر الماضي اتفاقيات الدفاع المشترك مع فرنسا على نحو مفاجئ، وطلبت رحيل ألف جندي فرنسي متمركزين في قاعدة نجامينا العسكرية.
طلبات إفريقية لإنهاء وجود القوات الفرنسية
صفعة إفريقية جديدة للنفوذ الفرنسي في القارة السمراء، مع تحديد رئيس ساحل العاج الحسن وتارا، الشهر الحال موعدا لبدء انسحاب القوات الفرنسية من بلاده الواقعة في غربيّ إفريقيا. وفي خطاب لمناسبة نهاية العام، قال وتارا “نفتخر بجيشنا الذي أصبح تحديثه الآن فعّالاً”، ومن أجل ذلك “قررنا أن تنسحب القوات الفرنسية بشكل منسق ومنظم” من البلاد. مشيرا إلى أن كتيبة مشاة البحرية الرابعة والثلاثون 43rd BIMA في بور بويه في أبيدجان حيث تتمركز القوات الفرنسية حالياً، ستسلم لقوات ساحل العاج المسلحة اعتباراً من الشهر الجاري، علماً أن القوات الفرنسية المتمركزة في القاعدة المذكورة وقوامها نحو ألف جندي، تتخذ من محاربة التنظيمات الإرهابية، ذريعة لاستدامة بقائها في البلاد التي تعد أكبر منتج للكاكاو في العالم، اضافة إلى امتلاكها رواسب ضخمة من الموارد الطبيعية بما في ذلك النفط والغاز والذهب.
طلب ساحل العاج من القوات الفرنسية مغادرة البلاد، سبقها إليه طلب مماثل تقدمت به كل من السنغال والتشاد في شهر تشرين الثاني الماضي. وضمن إعادة ترتيب علاقات بلاده الخارجية، أكد باسيرو ديوماي فاي رئيس السنغال التي توصف بالابنة المدللة لفرنسا، أنه في صدد القضاء على كل الوجود العسكري الأجنبي. وقال الرئيس في خطاب إلى الأمة، “لقد وجهت وزير القوات المسلحة باقتراح عقيدة جديدة للتعاون الدفاعي والأمني تتضمن إنهاء أي وجود عسكري أجنبي في السنغال اعتباراً من عام 2025”. وفي مقابلة نشرت بعد ساعات من الاعلان في صحيفة “لوموند”، قال الرئيس الجديد للسنغال إنه من “الواضح أنه قريبا لن يكون هناك جنود فرنسيون على الأراضي السنغالية”. مضيفاً أن “مجرد وجود الفرنسيين هنا منذ فترة العبودية لا يعني أنه من المستحيل التصرف بشكل مختلف”.
وفي غضون ساعات قليلة مما صدر عن العاصمة السنغالية داكار الملقبة بباريس الصغرى بالنظر إلى قوة “العلاقات” بين البلدين، أصدرت تشاد إعلاناً مماثلاً تضمن طلب مغادرة الجنود الفرنسيين أراضي الدولة الواقعة في وسط القارة الإفريقية. واختارت حكومة تشاد يوم استقلالها، مناسبة للإعلان عن إنهاء التعاون الدفاعي مع باريس، بهدف إعادة تعريف سيادتها. وفي تعبير عن الصدمة من قرار تشاد التي تعتبر أكثر شركاء فرنسا استقرارا ولاء في إفريقيا، التزمت السلطات الفرنسية الصمت حيال القرار، قبل ان تعلن لاحقا انها “في حوار وثيق” حول مستقبل الشراكة مع انجمينا. وفي قراءة لهذا التطور، نقل المركز الإفريقي للأبحاث ودراسة السياسات، عن موشاحيد دورماز، المحلل في شركة الاستشارات العالمية “فيريسك مابل كروفت”، قوله إن “قرار تشاد يمثل المسمار الأخير في نعش الهيمنة العسكرية الفرنسية ما بعد الاستعمار في منطقة الساحل بأكملها”. واصفاً قرارات السنغال وتشاد بأنها “جزء من تحول هيكلي أوسع في طريقة تعامل المنطقة مع فرنسا، حيث يستمر النفوذ السياسي والعسكري لباريس في التراجع”.
باريس تخفي الأسباب الحقيقة: إعادة تنظيم وجود قواتنا في إفريقيا
مسلسل تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا كان قد بدأ من جمهورية مالي عام 2022. الحدث الذي وصف بالزلزال آنذاك يبدو أن ارتداداته تتواصل في أرجاء القارة السمراء، مطيحة بنفوذ رمز الاستعمار الغربي لهذه القارة التي تعتبر ساحة الصراع المستقبلي بالنظر إلى غنى مواردها وثرواتها الطبيعية، ومع دخول لاعبين جدد إلى ساحتها. وإذا كانت فرنسا تستشعر خطر التحولات المنسجمة مع تطلعات الشعوب الإفريقية بالاستقلال الحقيقي، وإعادة تنظيم علاقاتها مع دول العالم بعيداً عن منطق الفرض والتسلط المفروض عليها منذ عقود طويلة، فإن الدولة الفرنسية تحاول تقديم ما يجري على أنه رغبة متبادلة بين الطرفين في التغيير، أو بمعنى آخر أنها تستجيب لرغبات الشعوب وتطلعاتها الاستقلالية، علماً أن “أمجادها” الصناعية لم تبنها سوى من ثروات تلك الدول وعلى دماء أبنائها.
وفي محاولتها تقديم وجهة نظر مختلفة عن أسباب مسلسل طردها من عدد من الدول الأوروبية، تتحدث باريس عن خطة معدة لتخفيف أعباء حضورها في القارة السمراء. وفي هذا السياق، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن في شهر شباط من عام 2023 نيته خفض القوات الفرنسية في إفريقيا، قبل أن يعيَّن في العام التالي “جان – ماري بوكل” مبعوثاً خاصاً إلى إفريقيا، مكلفاً بإعداد خطة لإعادة هيكلة الوجود العسكري الفرنسي في أربع دول إفريقية هي: تشاد، والغابون، وكوت ديفوار، والسنغال. وفي الخامس والعشرين من تشرين الثاني الماضي، رفع المبعوث إلى ماكرون تقريره حول المهمة المكلف بها. وعلى الرغم أن التقرير لم ينشر إلا أن المركز الإفريقي لدراسة السياسات، قدم خلاصات عن التقرير نقلاً عن مسؤولين فرنسيين لم يسمهم. وبحسب هؤلاء فإن “فرنسا تهدف إلى تقليص كبير لوجودها العسكري في جميع قواعدها في إفريقيا، باستثناء دولة جيبوتي الواقعة في منطقة القرن الإفريقي”. وأوضح المسؤولون أن ذلك “لا يعني بالضرورة تقليص التعاون العسكري، بل يعني الاستجابة للاحتياجات التي تعبر عنها الدول. وقد يشمل ذلك تقديم تدريب أكثر تحديداً في مجالات مثل مراقبة المجال الجوي أو استخدام الطائرات بدون طيار وطائرات أخرى. كما قد تقوم فرنسا بنشر قوات بشكل مؤقت عند الحاجة”. وإذ رفض المسؤولون تحديد أعداد القوات التي سيجري تقليصها، وصفوا التخفيض بالكبير. ووفقاً للمصدر نفسه، “تحاول فرنسا تعزيز وجودها الاقتصادي في الدول الإفريقية الناطقة بالإنجليزية مثل نيجيريا” المصنفة وجنوب إفريقيا كأكبر شريكين تجاريين لفرنسا في القارة. ويبدو من خلال ما تقدم أن الخطة الفرنسية تتلخص في استبدال الترتيبات العسكرية الثقيلة بوحدات ارتباط دائمة مع الدول المضيفة، مع التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية”.
فرنسا تخسر نفوذها في إفريقيا
محاولة فرنسا تغييب الأسباب الحقيقة لانحسار نفوذها في إفريقيا، يكشفه الإعلام الفرنسي نفسه، الذي بات يتحدث عن انفصال فرنسي عن الواقع، وعمى استخباراتي. وفي تحقيق لصحيفة لو فيغارو الفرنسية حول الموضوع، تقول الصحيفة لقد “اعتقدت فرنسا أنها قادرة على التراجع إلى النيجر” بعد انسحابها من مالي، “لكن إعادة تنظيم عملية برخان العسكرية لا يوقف ديناميكية الظواهر الاجتماعية العميقة وعدم الاستقرار السياسي والخطاب المناهض لفرنسا الذي أصبح خطاب السلطات الرسمية في منطقة الساحل، وهكذا استولى ضباط آخرون على السلطة في بوركينا فاسو ثم آخرون في النيجر، ولم ير الفرنسيون شيئاً، مما يكشف عن عمى مثير للقلق”. وتضيف اعتقدت فرنسا أنها قادرة على التراجع إلى النيجر. لكن: الظواهر الاجتماعية العميقة، وعدم الاستقرار السياسي، والخطاب المناهض لفرنسا الذي أصبح خطاب السلطات الرسمية في منطقة الساحل. وفي أعقاب الانقلاب في مالي، استولى ضباط آخرون على السلطة فعلياً في بوركينا فاسو أولا، ثم في النيجر. ويشير التحقيق إلى أن هذا “الانسحاب القسري من دول الساحل لم يكن سوى بداية الهزيمة، إذ يقول ضابط كبير متخصص في المخابرات في إفريقيا، إنه يجب على الفرنسيين تقليل ظهورهم، وما يحدث هناك سوف يتذكره الفرنسيون أولاً وقبل كل شيء لأسباب تتعلق بالهجرة، ثم لأن إفريقيا ستكون في المستقبل موطنا لمركز ثقل “الإرهاب”، وأخيرا لأنها منطقة صراع بين القوى الكبرى”.
خاتمة
يتسارع انحسار النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية، مدفوعاً برغبة شعوب دولها في التحرر من الاستعمار، وإذ تحاول فرنسا جاهدةً وقف نزيف نفوذها، إلا انها تبدو عاجزة، امام قوة الدفع الشعبية، الأمر الذي يضطرها إلى القبول بواقع جديد في مستعمراتها القديمة، تجد نفسها فيه، متراجعة، تحاول حسر خسائرها وتقليل مستويات أضرارها.