لم يعُدِ الألمُ مفهوماً.. ما أكبرَ فضاءَ هذه الغربة!!
بقلم غسان عبد الله
عندما كانت الغربةُ وجوهاً لا أعرفها.. ونظراتِ ريبةٍ لهذا الجنوبيِّ الدخيلِ (أنا) الذي يتسكّع في شوارع البرجِ المُتعَبة!.. ذات اضطراب..!.. ذات مسٍّ!.. ذاتَ ألم!.. ذات جحود.. ذات وحشة!!.
عندما كانت الغربة شوارع أمشيها كلَّ مرةٍ ومعملُ ألبانٍ (هَمْبا) متواضعٍ في الحيّ مقابلِ منزلِ الأهلِ.. وشحاذٌ يركضُ خلفَ “أبو ماهر الميسور.. الله يوفقك أعطيني خمسة قروش”. كان الألمُ مباحاً لأعينِ الناس وكانتِ الشكوى مفهومةً!!. غريبٌ يتذمَّر!! “أهل البرج كلُّ منْ عَداهم غريب”! ما أكثرَ الغرباءِ الذين يتذمَّرونَ!!. لا جديدَ.. تحت الهمس!!.
عاد الغريبُ اليوم إلى بيتِهِ بـ “لحيةٍ وتعتير”.. وألمٍ جديد!.. وتغيَّرتِ الغربةُ وتغيّرت مفاهيمُ الألمِ ومقاييسُهُ فلم يعد ألمي مفهوماً..!. ولا شكوايَ مباحةً!!.. ولم يبقَ للمؤمنين إلا مَنْ له البقاءُ!.. اتّسعت نطاقاتُ الغربةِ وشملتْ وجوهاً تخصّني.. وربما شمَلَتْ وجهي أحياناً!.. وطالتْ كلَّ مناحي الحياة.. غربةُ الإنسان.. غربةُ الاقتصاد.. غربةُ المال.. غربةُ الدواء.. غربةُ كلّ ما يعني الحياة.
لم يعُدِ الألمُ مفهوماً.. تعدّدَتْ موارِدُهُ.. لم يعُدِ الحرمانُ واضحاً تضخّمت وتعملَقت صورتُه حتى غطّت كل شبرٍ في هذا الوطن.. وضاحيتي الأبية.. باتت مرتعاً للعذاب.. وموئلاً لكلِّ المحتكرينَ المفسدين.. حوانيتها آلاتٌ حاسبةٌ تحتسِبُ سعر الدولار كلَّ زبون.. والذي يرتفعُ سعرُهُ لا يهبط.. والتعاونياتُ أصبحت تعاونياتٌ للنهب.. والبلدياتُ مغلولةُ اليدِ إلا ما رحمَ ربي.
لم يعُدِ الألمُ مفهوماً.. وهذه الروحُ المؤمنةُ دائماً تتساءلُ.. هل أنت مؤمنٌ؟!!. أحملُ كيسَ “حسناتي” في جيبي وأُغري الآخرينَ بالآخرةِ.. وأُدَنْدِنُ لهمْ حولَ الجنةِ.. والصبرِ والبصيرةِ.. ولا أحدَ يستجيبُ.. آ.. آ.. آه!!.. نسيت أني غريب!.. وأن لغتي ليستْ مفهومةً في (مضاربِ بني العاجلةِ).. فأعودُ أدراجَ السكوتِ بكيسِ حسناتي التي لم تجْد من يصرِفَها إلى “الدولار”!.
ما أكبرَ فضاءَ هذه الغربة.. وأخشى أن أستيقظَ غداً وإذا بي “لا أعرِفُني”!.. اللهم يا مقلِّبَ القلوبِ والأبصارِ ثبّتْ قلبي على دينِك.