تمتمات الرقادْ
بقلم غسان عبد الله
يحطُّ يمامٌ غريبٌ على شجر الذكريات القصيَّةِ منذ ذبول الحنينْ، كأَنْ لا حدائقَ عريانةً غير روحي ليعصفَ في فصلها الذهبيِّ.. كأَنَّ التفاصيلَ حولي مآذنُ شاهقةٌ وتذوبُ إذا ما صحوتُ كحبَّةِ ليلٍ على شفةِ الشمسِ..
كلُّ التَّفاصيلِ بوابةٌ للبكاءِ إلى آخر الجمرِ ترجُني بالصَّقيعِ على عتباتِ السُّكونْ.. كأَنّي أُجمِّعُ أطرافَ وجهيَ من فلَواتِ الغيابِ أشُدُّ السفوحَ الثَّقيلةَ من خصرها لتنامَ على كفيَّ الغضِّ ثمَّ أُلفِّقُ كلَّ الأكاذيبِ بين الجهات وحلمي
تُراني ذهبتُ، وصلَّى على شرفات مدائنيَ الآخرونْ؟ لكَ الآن يا عُمرُ أن تتدلَّى عناقيدَ من سقف صبري لأستلَّ أسئلتي وأدورَ على شفة الكأسِ سبعَ خمورٍ.. أَلَيلُكَ هذا الذي كنتُ فيهِ أُجمِّعُ صبحَ الأراجيح من رقصات الطفولةِ؟ أخطفهُ قمراً، قمراً من كتاب الحكايا لأُنفِقَ صفصافةً كنتُها فوقَ رمل اليفاعةِ، حتى تهاوت على سَكَراتِ سواحلها قبَّراتُ السِّنين؟ أَليلُكَ هذا الذي أسقطَتني طواحينُهُ يدركُ الآنَ في آخر السطرِ ما فاتَ شرفتَه من دموع انتظاري ويمطرني بالسواد الطويلِ؟.
حبيبٌ يرصِّعُ لونَ السماءِ بداليةٍ من رموش النجومِ ويأتي بُعيدَ المغيبِ ليمحوَ حبرُ قصائده دميَ الطفلَ.. ثم يعرّي بقايايَ من فاكهاتِ النَّدى ويربّي صغاراً من الشَّكِّ قرب ضفافِ اليقينْ. صديقٌ.. أفاقت لضحكتهِ من سلالِ الشّروقِ رفوفُ العصافيرِ خبَّأتُه قرب حلمي ليقطَعني فأسُ هذا الزمانِ إذا ما دنا من سماواتهِ هل تُراهُ اهتدى دون قلبي إلى الدفءِ حتى يسيلَ على نبضهِ ـ بعد عمرٍ ونيِّفَ ـ كالنَّارِ حتى يُعِدَّ لوردٍ مضى كلَّ هذا الأنينْ؟.
لكَ الآن يا عُمْرُ.. أن تترددَ مثل صدى الموجِ أن تتردد مثل الغيوم الجديدة بالهطلِ كلُّ الظلالِ التي أورثتها إلى الأرضِ قاماتُنا تتخفَّى على بعد حزنٍ وراءَ ستائرَ شفافةٍ مثل ثوب المساءِ، خمسونَ.. أسكبُ دمعَ الخطى في الشوارعِ، أَقسمُ ريحَ الليالي الطويلةِ بين البكاءِ وقلبي، وأذكرُ أنَّ سواحلَها الخضرَ كانت تموتُ على راحتيَّ، أُعزِّي شواطئَها ثم أمضي.. وأقترفُ العيشَ أكثرَ ممَّا تيسَّرَ للموتِ ثمَّ أموتُ قليلاً… وتجمَعُني بالصدى الريحُ، أكثرَ ممَّا تطيقُ من الرَّقصِ غانيةُ الريحِ تتركُ حوليَ عصفاً من الأصدقاءِ وأصواتَ من عبروا جثتي جمرةً.. جمرةً ثمَّ غابوا بلا غصةٍ مثلَ شمسِ البلادْ.
كأنّي أرى الوقتَ من عدمٍ وإلى عدمٍ، آنَ تقربُه الروحُ شيئاً… فشيئاً لتلقى عليه الحقيقةَ من فوقِ قمتَّهِ فيذوبُ بلا موعدٍ ثم ينسلُّ منها إلى موتها ويظلُّ على سفرٍ لا يحدُّ، كما سندبادْ. تفتِّشُ عنهُ خطايَ على صدرِ كلِّ الدروبِ تعانقهُ آنَ يسكنها وتسطِّرُ فيه صدى ذكريات المواعيدِ ثم يؤوبُ إلى رشدهِ آخر الليلِ يتركُها لمناديلها، ويطيل البعادْ. عميقٌ هو الوقتُ… لا أدركُ المدنَ الذَّهبيَّةَ في بئرهِ، وتموت الليالي على شاطئيهِ، أَيذكرُ أنَّ دمي منذُ هزَّ الوجيبُ توهجَهُ يتلامَعُ كيما يرى غامضَ السرِّ، يهدمُ مملكةً راودتَهُ ضلالاتُها ليسيرَ على الماءِ متَّشحاً بالهدى المُستعادْ؟ لكَ الآن يا عمرُ أن تحملَ الحزنَ من فجوةٍ لا أقلَّ من الليل عتمتها، وتموتَ وحيداً… فكلُّ الأناشيدِ تترك مقعدَها للبكاءِ، وتغفو ليثمرَ هذا المدى الليلكيُّ خلودَكَ، نَمْ ليبادلَكَ البحر ملحاً بليلاهُ.. نَمْ ليس عندي سوى تمتماتِ الرقادْ..
يَحُطُّ يمامٌ غريبٌ يقولُ: تموتُ الأناشيدُ حين نموتُ، ويتَّشحُ الكونُ بعد قصائدنا بالسوادْ.