معادلة الداخل والخارج في قضية الصراع مع الآخر هزائم الخارج من انكسارات الداخل
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
هل يمكن للمجتمعات المقهورة والمظلومة والمنكسرة داخلياً في الوصول لحاجاتها وتحقيق تنميتها وتأمين مقتضيات عيشها، أن تنتصر في مواجهاتها الخارجية؟..
في الواقع لاحظنا خلال فترات زمنية طويلة، وجود حالة فكرية وسياسية في كثير من مواقعنا السياسية والثقافية العربية، مثلتها نخب حاكمة كانت تعمل على إشاعة مناخ ثقافي وسياسي عام يقوم على قاعدة الدمج والربط الكامل بين متطلبات التنمية الداخلية (للفرد والمجتمع) وبين استحقاقات المواجهة الخارجية مع القوى الإقليمية والدولية الكبرى، وذلك لناحية أن بناء الداخل ليس وقته الآن، فالعدو يتربص بنا الدوائر، وبالتالي يجب تأخير وتأجيل كل ما يتعلق بمقتضيات البناء الداخلي (بكل مفاعيله السياسية والاقتصادية القائمة على إعطاء الناس حرياتهم الطبيعية، وإعادة السياسة إلى حضن المجتمع، وتمكين الشعوب العربية من صنع قراراتها وتقرير مصيرها بنفسها، والعيش حياة طبيعية آمنة وسالمة مثل باقي خلق الله) ريثما يتم الانتهاء من إيجاد حلول ومعالجات حقيقية لمجمل أزمات الخارج وتحدياته المفصلية..!!.
فهل هذا التصور الفكري – السياسي صحيح ومنطقي ومنتج؟!.. وهل يمكن أن يكون له مفاعيل على الأرض، بحيث لا يتم استغلاله وتجييره لصالح بقاء تلك النخب السياسية في الحكم بداعي مواجهات الخارج؟.
لقد نجحت الدولة الرسمية العربية الحديثة (المتشكلة بعد عهود الاستقلال الظاهري قبل حوالي سبعة عقود أو ما يزيد قليلاً) نجاحاً باهراً في استغلال الصراع الخارجي سواء مع إسرائيل أو مع غيرها، في استغلال وتوظيف ذلك الصراع من أجل التغطية على فشلها في مجالات التنمية وتفعيل الحياة السياسية الداخلية لمجتمعاتها، وعجزها الفاضح عن الإيفاء بالتزامات بناء الداخل العربي الذي أصبح – نتيجة سياسات تلك النخب السلطوية – ضائعاً ومحطماً ومنقسماً وعرضة على الدوام لشتى أنواع وألوان القمع والاستبداد والمتاجرة بالقضايا الخارجية، واستدامة ارتكابات الفساد والنهب السلطوي وإبقاء المجتمعات مكبوتة ومقهورة ومرهونة لحاجاتها البشرية، في ظل ما مارسته من لصوصية وسرقة واحتكارات عائلية وحزبية وطائفية وفئوية، أي لم يكن لتلك النخب من اشتغال أو دور أو همّ أو أجندة سوى البقاء في الحكم ومراكمة الثروة وتعميق النفوذ، بما يجعلها بعيدة كل البعد عن التحلي والتخلق بأدنى مشاعر ومعاني وقيم الوطنية ومحبة الناس والوطن.
طبعاً نحن لا نريد أن نزيد الطين بلة كما يقال، وليس لنا أي ثأر مع الحكام والزعامات (الوطنية!) الكبرى، كما أننا لا نرغب في تثوير الواقع وتجييش المشاعر وتسخين المواقف، فنحن بعيدون عن ذلك كلياً.. فالحكام المستبدون والقائمون على أمور وشؤون اجتماعنا السياسي والديني لا يتحملون لوحدهم مسؤولية تردي أوضاعنا، ووصولنا إلى القاع الحضاري العالمي حالياً على كافة المستويات والأصعدة (التي يمكن متابعتها بدقة وإمعان من خلال مطالعة كل تقارير وإحصائيات أهم وأرقى مراكز الدراسات الإستراتيجية السياسية والاقتصادية العربية والدولية).. صحيح أنهم جلبوا – من خلال سياساتهم التي طبقوها على الشعوب – الكوارث لنا ولبلداننا، وهم تبعاً لذلك مسؤولون مباشرة – دون ريب – ويتحملون القسط الأوفر من ثقل المسؤولية عن بقاء أوضاعنا الداخلية على ما هي عليه من انحطاط وبؤس وتخلف وارتهان للخارج، ولكن هؤلاء الحكام هم – في الأساس وبالعنوان الأولي – جزء من تقاليدنا وتراثنا وثقافتنا، ولم ينزلوا إلينا من كوكب آخر، فقد ولدوا في أحضان مجتمعاتنا التي تحكمها نظم وتقاليد ونمطيات فكرية وسلوكية محددة تقليدية وبدائية، كما أنهم تربوا على عادات وأعراف ثقافتنا ومناخاتنا الفكرية والسياسية المهيمنة منذ قرون وقرون.. وبالتالي فهم – بمعنى من المعاني – صورة لنا، يعكسون طبيعة الثقافة التاريخية السائدة، ويشكلون قطعة أو جزءاً من صورة وضعنا العام الذي تشكل منذ فترة طويلة في هذا العالم المشرقي المتخلف.
من هنا ليس من المنطق العقلاني والتقدير الحقيقي المتوازن للأمور والأشياء أن نوجه اللوم فقط لحكامنا ونخبنا السياسية الحاكمة، بل ينبغي علينا (من أجل فهم تلك الحالة من التخبط والانحطاط العربي، والفشل الذريع في مجمل خطط التنمية، والتبعية والاستلحاق شبه الكامل للآخر، وتقديم التنازلات له) الوقوف ملياً ومطولاً أمام طبيعة البيئة والبنية “الثقافية-السياسية” السائدة التي تهيمن على وعي الناس عندنا، وتوجه مساراتهم، وتحدد اختياراتهم القيمية والعملية.
وحالياً لا تبدو ولا تلوح في أفق هذه الأمة الغائم والعاصف بالتحديات والمتغيرات الكبيرة أية إمكانية أو فرصة حقيقية للخروج من مأزقها الوجودي المقيم، حيث أنه طالما هناك هزيمة داخلية للفرد العربي في داخل مجتمعاته وأوطانه (الذي يظهر في عجزه الوجودي عن الحضور والإنتاج والفعالية الحضارية في عصره)، وطالما أنه فاقد للثقة بنخبه وطبقته السياسية الحاكمة، وطالما أنه غير قادر على تحصيل معاشه اليومي بشكل طبيعي (مثل باقي الناس في المجتمعات الأخرى) من دون ذل أو مهانة، وطالما لا يشعر بالحرية الحقيقة في التعبير عن رأيه وممارسة النقد بحق حكامه والقيمين على مصيره، وطالما أن تنميته الداخلية مقرونة بحل كامل للصراع مع إسرائيل، فإنه لن يكون هناك أي أمل واقعي في تحسن الأمور وتطور البلاد ونهضة العرب على الإطلاق.
إننا نعتقد أن انكسارات الشعوب والهزائم الداخلية للمجتمعات لا يمكن البتة أن تفضي وتقود إلا إلى النكبات والكوارث والهزائم الخارجية الدائمة والمستمرة في أية مواجهات مع الخارجية، سواء كانت مواجهات عسكرية أم غير عسكرية.. وهاكم الدليل الأبرز على ذلك، فبعد أكثر من سبعة عقود تقريباً على صراعنا الوجودي مع عدونا الإسرائيلي، وبعد تطبيق استراتيجيات متعددة (اقتصادية وسياسية وعسكرية حربية وو..الخ) قامت بها قياداتنا العربية (البطلة والصامدة والراسخة في عروشها وكراسيها!).. لم نتمكن بعد من السيطرة على معادلة الصراع الأساسية.. ولم نصل إلى أية نتيجة مضمونة بهذا الخصوص؟!.. فهل تحررت الأرض والأوطان؟! هل قامت الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وبعض فلسطين (حتى لا نقول فلسطين من النهر إلى البحر؟!).. بالعكس نجد اليوم أنهم سيتآمرون مع أمريكا لإفراغ قطاع غزة من ساكنيه، وبتنا نسمع عن توسيع إسرائيل لحدودها، ليس في الكواليس، بل على مرأى ومسمع الناس جميعاً، دون خوف أو وجل أو بقية من خجل..!!. وهذا سببه في واقع الأمر، أن العرب فشلوا في بناء قوة حقيقية على صعيد المواجهة الخارجية، وظلوا مهتمين ليس بالانفتاح على شعوبهم والحصول على رضى أبناء مجتمعاتهم ونهضة بلدانهم وتقويتها علمياً وصناعياً، بل بأخذ الرضى من الغر وبالتحديد الغرب الأمريكي..!!.
وللأسف سيبقى هذا الصراع ولفترة زمنية طويلة، في موقعه الهام والمصيري، وسيأخذ أبعاداً وتطورات جديدة، طالما أن منطق القسر والظلم هو المنطق السائد حالياً في معالجة كل مشاكل الساحة الراهنة المتعددة والمتفرعة من المشكلة الأم، وأعني بها مشكلة الصراع الوجودي العربي الإسرائيلي.
ومن المعروف للجميع أن دخول العرب في مفاوضات سلام مع إسرائيل كان خياراً استراتيجياً على ما كانوا (وما زالوا) يقولون، ولكنه لم يقترن إطلاقاً مع خيار آخر وهو الاستعداد بالمقابل لحالة عدم تحقق السلام المنشود (بعدله وشموليته).. أي أنهم (العرب) اعتمدوا السلام كخيار استراتيجي وحيد، ولم يأخذوا بعين الاعتبار والوعي حقيقة أن قوة هذا الاندفاع نحو خيار السلام الأوحد لابد أن يكون مرتكزاً ومدعوماً ببناء داخلهم المجتمعي على أسس قوية من تبني الخيار السياسي الديمقراطي قبل العسكري الذي يجب استحضاره دائماً، وعدم استبعاده أبداً كخيار استراتيجي أيضاً من الساحة.
ولذلك فإن ضرورة الاعتماد على الخيار العسكري المبني على:
– قاعدة سياسية تعطي الشعب كامل حريته في تداول السلطة والعيش الحر الكريم، والتغيير السياسي السلمي، وتجعل الحكومات خادمة فعلية لشعوبها، وليس على طريقتنا في تأليه الحكام، والتعبد في محرابهم ليلاً ونهاراً.
– وقاعدة اقتصادية وعلمية وتكنولوجية متطورة (تنتج وتبدع وتطور من ذاتها لا من العيش الطفيلي على فتات موائد الحضارات الأخرى)..
أقول إن هذا الاعتماد على كل تلك الأمور – في أية عمليات تفاوضية بين العرب وإسرائيل – هو الذي يكسب العرب قوة أساسية متقدمة في صميم العمل السياسي التفاوضي، وهو الذي يمكنه أيضاً أن يبعد عن هذه المواقف السياسية دلالات الضعف ومظاهر الاستسلام والعجز التي قد تظهر عليها أحياناً.
ويبدو أن افتقاد كثير من العرب والمسلمين لهذا التصور الصحيح عن بناء الداخل العربي دعماً للخارج، هو الذي تسبب لهم بحدوث انهيارات وتراجعات عسكرية واقتصادية كبيرة أمام إسرائيل منذ حرب الـــ 48، وإلى أيامنا هذه حيث التغول الوحشي الصهيوني الواسع، خصوصاً بعد أن عجزوا (العرب الرسميون) عن كسب ثقة الشارع بهم، وافتقدوا الشرعية الطوعية الحاسمة (واللازمة والضرورية والمطلوبة دائماً) منذ عهود الاستقلال الأولى وحتى الآن.. وأقول “حاسمة” لأنها المقياس الحقيقي والميزان الشرعي الوحيد الذي توزن (وتقاس) به قوة الدولة في الداخل، كما أن قدرة الدولة على مواجهة التحديات والأخطار (تحدي السلام مثلاً) هي المقياس الواقعي لمدى قوة الدولة في الخارج.
إن ما ينبغي ألا يغيب عن أذهان العرب أن مجتمعاتهم قد وصلت إلى أدنى حالات السوء من تخلف وفقر وجهل وأمية سياسية ومعرفية، وطالما أن الوضع العربي الراهن على هذا النحو من التردي والتفكك والتشظي، وأنه ربما لا أمل بحدوث تغيير ولو جزئي بسيط لحالة اليأس والتخلف السائدة، فقد كان من الطبيعي جداً أن يخرج العرب من معركة (السلام!) المزعوم وهم أكثر تشتتاً وانقساماً مما كانوا عليه من قبل، وأكثر شكاً بقدراتهم وطاقاتهم وأنفسهم، وانعدام وجود إرادة تغيير حقيقي لديهم لمواجهة تهديدات أمنهم ومصالحهم، وأكثر قطيعة بينهم وبين شعوبهم المفقرة والبعيدة كلياً عن ممارسة (والتعاطي مع) الشأن السياسي.
وباعتقادي أن السبب الرئيسي لكل هذا الوضع المتدهور والمزري هو الطابع العام اللاعقلاني للسلطة العربية القائمة حالياً، والمسيطرة على العباد والبلاد بقوانين الطوارئ وأحكام الاستثناء، والتي يمكن أن نعتبرها امتداداً طبيعياً أو صورة واقعية عن دولة الملك العضوض التاريخية التي تأسست في ماضي العرب القديم، والتي تغيرت بشكلها (وإطاراتها) مع بقاء المضمون العملي ذاته. وبالنتيجة نقول إن معادلة الصراع ضد إسرائيل – اليوم وغداً وبعد غد – لا يمكن أن تكون صحيحة ومنتجة وفاعلة ومؤثرة في واقع هذا العالم القائم على القوة والمصالح، إلا بتغيير مقدماتها الأساسية وهي هنا متمثلة في شروط النهضة العربية المنشودة بما يؤدي إلى تغيير موازين القوى الداخلية، ويقود مباشرة إلى إحداث تغير (واختراق) نوعي كبير في استراتيجية السلام والتفاوض مع الآخرين.
وهذا يعني – كما نذكر، ونحب أن نذكّر غيرنا – بالعنوان الجوهري إعادة الاعتبار للشعب والمجتمع في مشاركته الحقيقية في صلب العملية التنموية الشاملة.. أي نزع القيود عن مشاركة الناس والمجتمعات في الحركة الوطنية العامة، والتعاطي معهم كأفراد يحتاجون إلى الاحترام والتقدير والكرامة والعزة، والشعور بالحرية والثقة بالنفس.. كمقدمة أساسية للبدء الجدي بعملية الإبداع والإنتاج والتطور.
إننا نعتقد أن إصلاح الحاضر كمقدمة للنهوض به من أجل استثمار رابح للمستقبل لمصلحة الأمة ككل، لا بد وأن يمر أولاً على طريق إصلاح الماضي المسيطر عليناً حالياً وربما مستقبلاً. فالماضي – بما هو خزان الفكر والثقافة وذاكرة الأمم والشعوب والحضارات ومستودع العناصر الروحية والمادية فيها – لن يموت، ولا أحد قادر على إلغائه وإزالته من ذهنية الناس، بل سيبقى فاعلاً بقوة في مختلف جوانب عالمنا العربي والإسلامي، خصوصاً وأنه هو المحرك الأكثر فاعلية وتحريكاً لطاقات شعوبنا، وهو المحرض الأهم لديها للفعل والإنجاز والعمل، إذا ما تمت تعريته من عناصر الجمود والتخشب والماضوية السلبية المهيمنة عليه حتى الآن..
من هنا إصرارنا على ضرورة تعميق الحالة النقدية للفكر والقيمة والسلوك التراثي الهائل المتحكم بكافة مفاصل هذه الأمة، ودراسة ووعي هذا التراث المادي والروحي الكمي الكبير المسيطر على العقول والأفئدة عندنا من داخله، وعلى ضوء معطيات الثقافة والفكر الإنساني المعاصر والمتطور.. وهذه العودة لا تعني أن ننساق وراء القديم وهي لا تعني مطلقاً أن نستعيد التاريخ المنقضي تكراراً واجتراراً كما نقول دائماً، ولا هي اتباع وتقليد أعمى لكل ما هو جديد، وإنما هي حركة نقدية لواؤها العقل والتفكير النقدي الحر “ما حكم به العقل، حكم به الشرع”، ومصباحها الواقع والتطورات الكبيرة الهائلة في الزمان والمكان. أي أنها عودة عقلانية صرفة تعني رؤية التراث الماضي، في ما هو، وفي جميع أحواله، لكي نعرف كيف ننفصل لنغادر ونفارق، وكيف نتصل لنتفاعل ونتعاون.
وبالاستناد إلى ما تقدم نؤكد أن مواجهة الخارج مرهون كلياً لبناء الداخل، وإصلاح مكوناته الذاتية القائمة، وبناء فرد سليم معافى خال من الأمراض، يمكنه المساهمة – مع باقي أفراد المجتمع – في إبداع عناصر القوة الاجتماعية والسياسية والعلمية والتكنولوجية اللازمة للتحرر الخارجي. ونحن نجزم هنا بأن مجتمعاتنا وشعوبنا كانت واقفة على الدوام في موقع التضحية والبذل، وهي لا تزال مستعدة الآن وفي المستقبل أيضاً لتقديم الكثير والمزيد من التضحيات والعطاء أكثر فأكثر (بالرغم من ظروفها الصعبة التي تكابدها حالياً من بؤس وإحباط وقمع وتجويع وقهر وحصار روحي ومادي) في سبيل الخروج من نفق الانهيار الوطني والقومي العام والشامل، شرط أن تكون لتضحياتها نتائج وفوائد ملموسة على صعيد العمل والبناء والتطوير والازدهار المجتمعي العام، خصوصاً إذا شعر –أبناء مجتمعاتنا- أن النوايا طيبة وصادقة، والعمل الجدي الصحيح يسير على طريق الإصلاح والتغيير الحقيقي. وإلا فإن المصائر المجهولة تتهددنا نحن العرب والمسلمين، وسنواجه لا محالة واقع الإفلاس والهامشية الحضارية، ولن ينفع عندها الندم ولطم الصدور والبكاء على الأطلال.
والتاريخ عنوان وحاضر وشاهد.. ومن لم يقرأ التاريخَ، لن يكونَ له أي دور وحضور، وقدرة على فهم الحاضر.. وقراءة التاريخ لا تعني سحبه ونقله إلى الراهن (فهذا تصور خيالي)، بل تعني تلك القراءة (المفترض أن تكون عقلانية علمية) دراسته ووعيه وتحليله، وأخذ العبر والدروس منه خاصة في أزمان الصراعات والمنازعات التي حكمتها سنن تاريخية.
والتاريخ العربي (وما يسمى بالإسلامي أيضاً) يقول لنا في أحد أهم وأقصى دروسه: الدم يستقي الدم، والعنف يولّد ويجر العنف.. والعرب هم من أهم المجتمعات الولّادة لأسوأ وأفظع أشكال وألوان العنف، حيث أنهم قتلوا بعضهم بعضاً أكثر بكثير مما قتلهم أعداءهم، في حروب أهلية محلية مارسوا فيها بحق أنفسهم أشد أشكال القتل فظاعة تحت مسمّيات ومبررات قومية ودينية وعرقية وجهوية وطائفية وأيديولوجية وووإلخ..!.. ولم يتمكنوا من بناء مجتمعاتهم على أسس قوية من الوعي والمسؤولية والانفتاح.
واليوم لو نظرنا إلى واقع وتاريخ أي بلد عربي (العراق – سوريا – لبنان – مصر – اليمن – ليبيا…)، ليس منذ مئات السنين، بل منذ عهود قريبة، ستجدون فيها العجب العجاب، وما يشيب له شعر الولدان، من أعمال التنكيل والقتل والتصفيات والذبح وووإلخ..
ماذا يعني هذا؟.. هل يعني أن العرب فعلاً غير قادرين بالمطلق على إقامة دول قانون وحقوق حقيقية مثل كثير من بقية الدول والمجتمعات التي عاشت ربما ظروفاً وتعقيدات صعبة مثلهم في داخل تنظيمهم واجتماعهم الأهلي وفي علاقاتهم كدول بين بعضهم بعضاً؟!..
كانوا يقولون إنّ “السلطة عند العرب، مفسدة”.. بتُّ أقول: إنها مذبحةٌ ومقتلةٌ مستمرةٌ على طول مسار هذا التاريخ والاجتماع العربي، الذي لم ينقطع فيه النزف العربي، والدم عن السيلان..!!.