فضاءات فكرية

الدّعوةُ إلى الإسلام القناعةُ ومبدأ “لا إكراهَ في الدّين”

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

والدعوة أسلوب ووسيلة للوصول إلى غاية نبيلة وهي إبلاغ رسالة هذا الدين، وعرضها على الناس – خصوصاً ممن لا يعتقدون به – بأفضل طريقة وأرقى وسيلة وأجمل خطاب وأوعاه وأحكمه، بما يمكن من خلاله جذبهم وتوعيتهم وإظهار حقائق هذا الدين العظيم بصورة واضحة ومبسطة وسهلة التناول والاستيعاب، فيها الموعظة الحسنة والحكمة الواعية والقيمة الهادفة.. يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ..﴾] النحل: 125[.

ويشكل الأسلوب العمود الفقري في موضوع الدعوة، فكم من أسلوب سيء فظ متعالٍ نفّر الناس، وأبعدها عن دينها، نتيجة الجهل والسذاجة والاستعراض الفكري، وادعاء امتلاك الحقيقة المقدسة، ورفض الحوار مع الآخر.. رغم ما قد يظهره الداعية من عاطفة ومحبة للدين، وهذا لا يكفي بطبيعة الحال.. فالحب شرط لازم في الدعوة، ولكنه غير كافٍ.. وهو يحتاج للعلم والوعي والحكمة والمسؤولية.. يحتاج معه الداعية ليكون فاهماً للدين في أصوله وأركانه ومعانيه ومقاصده ومبادئه الأساسية، خاصة على مستوى أن فهمه للدين، وتصوراته عنه، ليست هي الدين، بل هي اجتهادٌ ورؤية ظنية، قد تصيبُ وقد تخطئ.. وهو شأن يخصه، لا يجب ولا ينبغي ولا يجوز أن يفرضه على غيره، الآخر، خصوصاً المختلف عنه والمغاير له.. يتحدث به ويحاور فيه، بحكمة واتزان عقلي وفكري وروحي..

إن عملية الدعوة لرؤيتك الدينية وقناعاتك الدينية عزيزي الداعية، هي سلوك وطريق، يجب أن يكون منطلقاً ومتحركاً فقط بأساليب وطرق محبوبة وسهلة غير غليظة، وبعيدة عن الضغط والإكراه.

نعم، هذا هو أكبر تحدٍ ومشكلة واجهت وتواجه الإسلام كله وليس فقط الدعاة كما قلنا.. إنها مشكلة وموضوع السبيل لإبلاغ الدعوة والرؤية الدينية، وضرورة التقيد والالتزام بمبدأ عدم الإكراه في الدين، وهو المبدأ الأمثل الذي يتناسب مع المجتمع المعاصر خاصة في دول مثل دولنا المتنوعة التي تعج وتضج وتمتلئ بمختلف الألوان الاجتماعية والتكوينات التاريخية والأديان والطوائف المتعددة المختلفة.. وهذا ما أكدته الرسالة الإسلامية في دعوتها إلى الإسلام، ومن هنا نشأ مبدأ “تحريم الإكراه في الدين“، وهذا ما نصَّ عليه القرآن الكريم، يقول الله تعالى: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي﴾] البقرة: 256[. ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وهو أَعْلَمُ بالمُهْتَدِين﴾] القصص: 56[. ﴿ولو شاءَ ربّكَ لآمنَ من في الأرضِ جميعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾] يونس: 99[. ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾] المدثر: 38[.

إنّ المعنى الحقيقي الواضح في قوله تعالى: “لا إكراه في الدين“، هو أن الله لم يُكره خلقه – وهو خالقهم – على دين بعينه أو على اعتقاد بذاته، مع أنه قادر ومطلق القدرة على أنه كان من الممكن أن يقهر الإنسان المختار، كما قهر السماوات والأرض والحيوان والنبات والجماد، ولا أحد يستطيع أن يعصي أمره.. بل ترك الفطرة تتحرك عند الإنسان.. ليكون الخيار له عندما يشتد ويكبر وينظر ويتأمل ويطّلع حتى يصل ما يراه مناسباً وملائماً له كخيار اعتقادي..

ومع أنه عز وجل قادر – مطلق القدرة – على جعل الأمم كلها والخليقة بكلّيتها واحدة موحدة، لكن شاءت قدرته وإرادته أن يكونوا جميعاً مجتمعات وأمماً مختلفين متغايرين حتى في قناعاتهم ومعتقداتهم وخياراتهم الدينية.. يقول تعالى: ﴿لوْ يَشَاءُ اللهُ لهَدَى النّاسَ جَميعاً﴾] الرعد: 31[.. وهو لو أكرههم وأجبرهم ما كان أرسل لهم الرسل والأنبياء والكتب السماوية.

إنَّ من واجب الداعية إذاً أن يقدم الفكر والمعرفة الدينية بخطاب سلس واضح ومعبر بعيد عن الارتجالية والعبثية والادعائية والكبر والعجب وحب الزعامة والرياسة… بحيث يتقبله الناس المخاطَبين بلا تكلف، وأن يكون مرناً كبير العقل وواسع الصدر في تقبل الأسئلة والنقد والحوار مع المختلفين، وألا يواجههم بفظاظة وغطرسة وتكبّر، ولا يمنعهم من السؤال والشك في طروحاته، بل يكون ليناً معهم يعاملهم برفق واحترام بلا غلظة أو قسوة.. يقول تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاُ غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾]آل عمران: 159[؛ فالنبي الكريم(ص) لو لم يكن يتحلى بأخلاق عظيمة، في تعامله مع الناس، ما كانوا انفتحوا عليه، وآمنوا برسالته، واتبعوا دعوته.. على الرغم من وصفه بأنه على خُلقٍ عظيم، وعلى الرغم من اتصاله بالغيب، وما يملكه من ملكات وصفات ومؤهلات، وعلى الرغم من معجزاته العظيمة من قبيل شق القمر وغيرها.. هذا كله مهم، ولكن تعامله الإنساني مع الناس وانفتاحه عليهم وأخلاقه العالية في تعاطيه معهم، كان له الدور الأهم في نجاح دعوته ورسالته..

طبعاً نحنُ عندما نتحدثُ عن واجبات الدعاة وشروط نجاحهم في الدعوة للدين، يجبُ ألا يغيب عن بالنا أيضاً أنَّ الدعوةَ ليستْ فقط من واجب الدعاة والعلماء، بل هي مسألة تكليفية على كلّ مسلم في إيمانه وتقواه وسلوكه المعبر عن إيمانه بقواعد الدين، فقد جاء عن الرسول الكريم(ص): “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَاَلْأَمِيرُ اَلَّذِي عَلَى اَلنَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَاَلرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مسؤول عَنْهُمْ، وَاَلمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ بَعْلِهَا وَوُلْدِهِ وَهِيَ مسؤولة عَنْهُمْ، وَاَلْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مسؤول عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ“.. والمسؤولية تقتضي التعلّم والوعي والمسؤولية والالتزام بضوابط الدعوة.. فأفراد الأسرة مسؤولون عن بعضهم البعض، ورئيس الشركة أو المشرف على العمال، مسؤول كذلك عن عماله وموظفيه، ولا ينبغي له أن يقول: ما علي إلا أنْ تسيرَ أمور العمل على ما يرام، ولا شأن لي في ما يصدر عن عمالي من خطأ أو ما يقومون به من الأمور المنكرة، بل ينبغي أن يكون كما قال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾]آل عمران: 104[، وليس له أن يدعوهم بالعصي والهراوة؛ بل أن يدعوهم إلى الخير بكلمة طيبة؛ فكم هم رواد المساجد الذين أصبحوا من روادها بكلمة طيبة من أخ مؤمن؛ كلمة لم تأخذ من وقته بضعة ثوان إلا أنها غيرت مجرى حياة أحدهم.. وقد يستغرب البعض عظيم الثواب على كلمة تدعو إلى الخير وهو لا يدري أنَّ النبي(ص) قال: “مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنةً عُمِلَ بها مِن بَعدِهِ كانَ لَهُ أجرُهُ ومِثلُ اُجُورِهِم مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن اُجُورِهم شيئاً“.

وقد مثّلَ أهل البيت عليهم السلام نموذجاً عالياً ورفيعاً في موضوع الدعوة إلى دين الله، ليس فقط بفكرهم ومعرفتهم العميقة والواسعة بأصل وطبيعة هذا الدين في قيمه وأركانه ومبادئه، بل بسلوكهم وقدوتهم الحسنة أيضاً، وتخلّقهم بأخلاق هذا الدين العظيم الذي ورثوه عن منبت الدعوة ومنبعها الرسول الكريم(ص)..

إنّ الدعوة إلى فكر أهل البيت(ع) كنموذج تطبيقي للإسلام، تكونُ بالعمل والسلوك الصالح والتقوى والالتزام بقيم الدين وقواعده.. وهذا ما أوضحه الإمام الصادق(ع) عند وداعِ جماعةٍ من شيعته أتوه من الكوفة، حيثُ قالَ لهم: “أوصيكم بتقوى الله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا لنا دعاة صامتين. فقالوا: يا بن رسول الله، وكيف ندعو إليكم ونحن صموت؟ قال: تعملون ما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عما نهيناكم عنه من ارتكاب محارم الله، وتعاملونَ الناس بالصدق والعدل، وتؤدون الأمانة، وتأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، ولا يطلع الناس منكم إلا على خير، فإذا رأوا ما أنتم عليه قالوا: هؤلاء الفلانية، رحم الله فلاناً، ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه، وعلموا فضل ما كان عندنا، فسارعوا إليه….”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *