الانصات والصمت.. قبل أن تتصحر ذواتنا
بقلم غسان عبد الله
يعتقد الكثير من الأفراد بأن القيمة التي يتحلّون بها تتجلى عند تكلمهم بينما يجزم واقع بعض الجماعات بأن قيمتهم من قوة وجودهم، ويؤكد خالقنا بأن إنصاتنا يسبقه استماعنا لآياته تدبّرا!، من قوله تعالى ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
والفرق بين الاستماع والإنصات، أن الإنصات في الظاهر هو تركُ التّكلُّم وأما الاستماع له، فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبُهُ ويتدبّرَ في ما يستمع، والمعنى بأن من لازَمَ على هذَيْن الأمرَيْن حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيراً كثيراً وعلماً غزيرا، وإيماناً مستمراً متجددا، وهدى متزايداً، وبصيرة في دينه، ولهذا رتّب اللّه حصولُ الرحمةِ عليهما، فدلّ ذلك على أن من تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يستمعْ له ويُنصت، فأنه محرومُ الحظِّ من الرحمة، وقد فاته خيرٌ كثير.
وقد نتساءل عن الإنصات والاستماع، فالإنصات هو التركيز العميق فيما يقوله المتحدّث وسطَ خضوعٍ تامٍ لجميعِ الجوارحِ بلا تصنّع أو تكلّف أما الاستماع فهو التقاط الأذنِ لحديثٍ ما، سواءً بقصد أو غير قصد.
وفي فوضى أيامُنا هذه نجد أن عظمةَ البلاغةِ تكمنُ في الصمتِ بأفضليةٍ ساحقةٍ لتفوزَ النفسُ المتكلمةُ بلسانٍ يلهجُ بالكتمانِ ليبقى خلف جدارِ الفم ذلك ليصدق بالتعبير خيرا له من أن (( يوأد )) ضمانة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام للجنة لما بين لحيينا، ولتلك الضمانات عهد اتخذه الصالحون والمفكرون ممن سبقوا أزمنتهم عقلاً راجحاً وسلوكاً متفرداً تقوده البصيرة وحُسْنُ التصرف، وما يمرُّ بالمجتمع لدينا اليوم هو الحتمية التي لازمت الكلامَ والثرثرةَ وما أعقبها من أفعالٍ هوجاءَ عكست كذبةَ الأقوالِ ودحضت فلسفةَ العلماءِ العاملين الذين دخلوا مُدَنهم الفكريةَ ضمن مصانع ومختبرات ((اعملْ بصمتٍ ودع عملك يتكلم)) والتي تكونُ الثرثرةُ فيها محظورةً ألا بعد البراهين المشيرةِ للنتائج، ما جعل بعض الدول – العربية تحديداً – في فترة زمنيةٍ معينة من كبرى الدول التي تمتلك أكبر قاعدة أبحاث علمية في جميع المجالات استندت على جلبِ الخُبُرات بعد معايشتِها وتوأمَتِها بثورةٍ علميةٍ متسارعةِ الخطى، احتضنت بعضها على الرغم من الحروب والحصار الغربي – إيران نموذجاً -. إلا أن بعضَ أصحاب العقول النيِّرة هاجروا في يوم الصخب الأكبر، باحثين عن مختبراتِ العزلةِ ليسترجعوا بذاكرتهم هوسَ البحثِ والإبداعِ في دنيا خيرِ جليسٍ ليقرأَهُ بلا نَظَر، أنما يتأمّل ما فيه صامتاً مستمعاً إلى كلِّ سكنة وحركةٍ لتغيرَ لونَ وجههِ ضاغطةً على عضلاتِ جبينِه التي لا يمنعها الانقباضُ والانبساطُ لعظمةِ ما يسمع. عالمُنا هذا هو الإنسانُ المتأمّل الذي فاته الكثير في وقت يتصارعُ فيه المسؤولون عن الفريسة وقد نسوا أنهم ضيعوا ((وقتاً)) لا يمكن استرجاعه شاغلين أنفسهم والإعلام منهمكين بالطرق والأرصفة فقط ليهيئوها للباعة وليشغلوا شعبهم بتبضع ما أنتجه الغير، تاركين نهرَ المعرفةِ ينساب بهدوء في الخليج المالح بلا هوادة ليتم قتله بتعمد على الرغم من أن سادتهم استثمروا الأنهرَ التي لا تكاد تصل إلى خليجٍ ألا بعد أن يتم استثمارها بالكامل، على الرغم من أنّ بعض المتخاذلين والمرتهنين كانوا عند أسيادهم يتباكون بتسوّل باسم الانخراط في عالم الأقوياء فلم ينقلوا عن أسيادهم سوى المزيد من الإذعان والسير في ركب حملة الحصاد الكبرى للعلم والعلماء، وهنا يريد من يكتب أو يقرأ، أن يسترسل ويصرخ ليستعيد عافيته ولو قليلاً، ليثأر لأرض السواد التي أصبحت أرض الغبار الذي تكافل مع صمتنا ليعبرُ هو الآخرُ بدماثتِه وابتعادِه عن الصّخب ليطفوا فوق رؤوسِنا بصمتٍ لعلّنا نتعلّم منه العبرَ والعظات لنتصدى لمن أثاره بحملة الاستزراع ونواجه التعرية قبل أن تتصحر ذواتنا وصفاء نفوسنا.