هامش ثقافي

مسألة الزمن والحقب التاريخية

بقلم: غسان عبد الله

لا شك أن علم التاريخ هو من أجلّ العلوم وأعظمها، وهو العلم الذي حاز على اهتمام الكثير من العلماء والمفكرين في مختلف الحضارات والأمم، ومن الجدير بالذكر أن علماء ومؤرخي المسلمين حين يتحدثون عن التاريخ يصفونه بالفن والعلم الجليل..

فالتاريخ هو العلم الذي يُعنى فيه المؤرخون بدراسة الماضي الإنساني ويدرسون الحوادث الماضية والوثائق ويبحثون ويحللون كل ما ترك القدماء من آثار، ومن تلك الآثار بالإضافة إلى الوثائق والكتب نورد التقاليد والقصص الشعبية والأعمال الفنية والمخلفات الأثرية والمدونات الأخرى بمختلف أشكالها وذلك بهدف المعرفة ومن تم إعداد وثائق جديدة تسمى أيضاً، تاريخاً. كما أن المؤرخين يدرسون كافة مظاهر الحياة الإنسانية الماضية، الاجتماعية والثقافية، تماماً مثل الحوادث السياسية والاقتصادية، كما يدرس بعضهم الماضي بهدف الوصول لفهم آلية تفكير وعمل الناس في الأزمنة المختلفة على نحو أفضل، بينما يبحث آخرون عن العبر المستفادة من تلك الأعمال والأفكار، لتكون موجها للقرارات والسياسات المعاصرة، ومن البديهي القول إن المؤرخين يختلفون فيما بينهم في الرأي حول عبر التاريخ والدروس المستفادة منه كل حسب قناعاته و أولوياته المبنية على انتماء عقائدي أو سياسي أو فكري… إلخ، وهكذا، فإن هناك العديد من التفسيرات المختلفة للماضي. كما أن المؤرخين وخلال القرون الماضية قد اهتموا في المقام الأول بالأحداث السياسية، وكانت كتاباتهم مقصورة على الدبلوماسية والحروب، وشؤون الدولة وملوكها وقصورها، حيث رتبوا الأحداث وأوردوها حسب السنين، أما الآن ولا سيما منذ بدايات القرن العشرين، فقد وجه المؤرخون اهتماماتهم نحو العديد من الموضوعات الأخرى، فينظر بعضهم في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية ويتقصى آخرون تطور الحضارات والفنون أو العناصر الأخرى للحضارات، أما البعض الآخر فقد اتجه نحو النصوص وانشغل بتحليلها والتأريخ لها محللا نصوصها ومفرداتها وأوراقها.. إلخ.    

أصبحت مسألة الزمن والحقب التاريخية تحتلّ مركز الاهتمام في العلوم الإنسانية والاجتماعية، إذ ما انفكّت تثير نقاشاً متعدد الاختصاصات يجدد إشكالياتها ومقارباتها، فقد اهتم الدارسون في العالم الغربي بهذا الموضوع منذ قرون، لكنّه لم يحظَى باهتمام كبير في البلاد العربية والإسلامية، وفي العالم غير الأوروبي عموماً، مع أنّه يمثّل حقل استكشاف وتفكير له بعد معرفي، وهو ما يطرح أرضية خصبة للنقاش بين الباحثين، جعلتهم يختلفون في الحقب التاريخية.

لقد دأب المؤرّخون على تناول التاريخ بصفته جملة من الحوادث المتعاقبة في الزمن، وتقسيم الزمن الماضي بصفته زمناً مضى وولّى، ولكن الأسئلة التي تطرح نفسها هي: كيف ننظر إلى هذا الزمن؟ وكيف نتعامل معه؟ وكيف نموقع ذواتنا فيه؟

وقد أوكلت مسألة الإجابة عن هذه الأسئلة إلى المؤرّخين المحترفين، ولكنهم لم يتّفقوا انطلاقاً من عدّة عوامل، منها ما هو أيديولوجي ومنها ما هو معرفي، وليس بغريب أن يبقى المؤرّخ العربي ملازماً لتقسيمات إمّا غربية أو محلّية وطنية، قد لا تعطي تقسيم الزمن التاريخي قيمة تسمح بتواصل الناشئة مع زمنهم بالنظر إلى زمن أجدادهم.

ولو نظرنا إلى مختلف الأمم، لوجدنا تقسيمات مختلفة للزمن، وهي تقسيمات تخضع إلى نوع من المنطق الداخلي الذي تقوده إمّا الحوادث الكبرى، وإمّا الظواهر الاجتماعية أو الاقتصادية، وإمّا غيرها من الظواهر التي تطغى على نسق الحياة الاجتماعية، وهو ما يسمح بالقول إنّ هناك تحقيباً يعتمد الحوادث منطلقاً، ويمكن أن نسمّيه التحقيب بالحوادث، وآخر يعتمد الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، ويمكن أن نسمّيه التحقيب بالظواهر، وثالثاً يعتمد الأجيال والسلالات، ويمكن أن نسمّيه التحقيب بالأجيال والسلالات.

لقد درج العرب بعد انتشار الإسلام على رصد الحقب الزمنية انطلاقاً من أصحاب السلطة، فتمّ تقسيم الزمن إلى فترات متصفة بحكامها: الفترة النبوية، وفترة الخلافة الراشدة، والفترة الأموية، والفترة العباسية، ثم تتفرع في ما يعدّ سلالات عديدة تزداد قيمة وتقلّ شأناً بحسب الظروف، ويبدو هذا التحقيب من التحقيبات التي لا تراعي إلّا من كان على رأس السلطة، من دون النظر إلى التغيرات السياسية الكبرى، ولا تراعي ما يعتمل في المجتمع من حراك اجتماعي، وتطوّر اقتصادي أو فكري، أو غير ذلك من ضروب التغيرات التي تطرأ على المجتمع.

وتطرح مسألة التحقيب في العالم العربي عدة إشكالات: كيف نلائم بين ما هو خاص بنا وخاص بغيرنا؟ وكيف نتموقع ضمن المسارات الزمنية التاريخية؟ أنظلّ بلا تحقيب واضح – والتحقيب التاريخي عندنا غير واضح – أم نحاول اعتماد ما هو موجود ونندمج ضمن تاريخ الحضارات؟.

تأسيساً على ما سبق نستخلص على أن التحقيب يشكل قضية شائكة مستعصية الحلول لدى الباحثين في علم التاريخ، وهو ما يفرض عليهم تكثيف الجهود والعمل في إطار هدف واحد من أجل صياغة تقسيم ملائم لكل شعب أو أمة، حتى تكون الصورة واضحة عن كل فترة من فترات تاريخهم.