أحلام صغيرة.. أحلام مؤجَّرَةْ… لكنها أحلام…
بقلم غسان عبد الله
على خليج الحياة العاثرة أشعر أحياناً أن بعض الأحلام قد تبدِّدُ غيومَ هذه العاصفةِ التي لا تريدُ أن تزولَ عن هذا الخليجِ المسمى حياتي.. أحمقٌ أنا حين أفكِّرُ أن أجتازَ هذا المحيطَ الاجتماعيَّ دون أن أبيعَ ما أملِكُهُ من قيمٍ ومبادئَ أمام هذا الزحفِ للموتِ القادِمِ من جحفل جند المحافظين الجدد الذي يحمل رائحة رعاةِ البقرِ ودمَ الهنودِ الحمر..
في لحظاتِ التمني القاتِلِ الذي لا يحققُ الأملْ… بحاجةٍ لأكثرَ من أمنية… بحاجةٍ لعمل.. لكن ما العمل حين تحملُ معكَ كلَّ همومِ الناسِ، وتعيشُ برأسِ مالٍ هو الإحساس.. ما العملْ حين تدقِّقُ في كلِّ حساباتك اليوميةِ مع الناس.. وفي أي مكانٍ يمكن أن تجدَ فيه عملاً يومياً فلا تجدُ من يحتاجُكَ مدقِّقَ حساباتٍ أو عاملَ بناءْ..
أحمق حين أكتُبُ مقالةَ أو قصيدةَ وأحاولُ نشرَها في صحيفةٍ وأشتري الصحيفةَ في اليوم التالي لأحاولَ قراءةَ هذه القصيدةِ كاملةً دون أن أراها قد تعرَّضَتْ لعمليةٍ جراحيةٍ أو تجميلية أو تجهيلية عبرَ مقصِّ الرقيبِ ومقص المحرر ومقص النادلِ الذي سكب القهوة عليها في مكتب رئيس التحرير.
أحمق حين أظنُّ أني أقولُ الحقيقة فيما أكتب، وفيما أُحدِّث، وحتى في تفكيري مع نفسي أصدّق، فالصدقُ كذبةٌ تعلمناها من قصصِ الأجدادِ مثلَ كرمِ حاتِم الطائيِّ الذي ذَبحَ فرسَهُ العربيةَ ليُطْعِمَ ضيفَهُ العربيَّ وحين دخلنا بعضَ الدولِّ العربية بحثنا عن حاتمٍ بين المباني والحاراتِ، وجدْنا أنهم ذبحوه مع فرسِهِ للضيفِ الأمريكيِّ القادِمِ على حاملة طائرات. أحمق حين أكتبُ كلَّ ما سلفَ من حماقاتي وأضيفُ ثلاث نقاطٍ في نهايةِ كلِّ حماقةٍ أشيرُ بها أن الحدثَ ما يزالُ مستمراً وقابلاً للاستئناف.. أحمق حين أعرفُ كلَّ حماقاتي السالفةِ وأرتكِبُها بمحضِ الإرادةِ الحرةِ والحماقةِ الحرة.. أحلامٌ.. أحلامٌ حمقاء.. أحلامٌ صغيرة.. أحلامٌ مستعارة.. أحلامٌ مستهلكة.. أحلام مؤجَّرَةْ لكنها أحلامٌ.
في محاولتي خلال الحُلُمِ أن أقنِعَ نفسي أني أمتلكُ رصيداً في البنك وعلبةَ سجائرٍ لم أستدنها من البقالة في أخر زاويةِ الحارةِ، وطاولةً جديدة للكتابة، ولديَّ عملٌ ولديَّ سائقٌ بلا سيارة – كي لا يُصْبِحَ الحُلُمُ مبالغاً فيه – يعملُ في نقلِ أوراقي ويشتري لي صحيفةَ اليوم ويُعِدُ لي فنجانَ القهوة الحلوةِ جداً، وأني سأسافِرُ هذا النهارَ لأقطعَ كلَّ الأنهارِ العربيةِ دون جوازِ سَفَر.. دونَ ضررٍ وضرارْ، وأني سأحَلّقُ مثلَ العصافيرِ المهاجرةِ فوقَ كلِّ حروفِ اللغةِ ومفرداتِها، انتقي ما أشاءُ من كلماتٍ من كلِّ العيارات والعباراتِ الثقيلةِ والخفيفةِ وأكتُبُ ما شئتُ لمن شئتُ، فأُفيقُ من النومِ فلا أعرفُ نفسي.. أكون بذلك قد ارتكبت أيضاً حماقة..
حين أكتشفُ أني أزاولُ حماقةً بفعل ما كتَبتُهُ أو فعلْتُهُ فاستمرُّ بفعلِهِ وقولِهِ دون أن أجدَ مبرراً لهذه الحماقةِ أكون قد ارتكبتُ أيضاً حماقةً.. حين أجِدُ شخصاً يخصُّني في الشارعِ أو في السوقِ أو في التاكسي يرتَكِبُ حماقةً كأنْ يحاولُ أن يحلُمَ ولا أساعِدُهُ على التخلُّصِ من حماقاتِهِ أو أسانِدُهُ في حماقَتِهِ وأعطيهِ مدىً للحلُمِ والتمادي فيه دونَ أذنٍ رسميٍّ مصدَّقٍ من مختارِ الحارة ومخفر الدركِ المجاورِ أكون قد ارتكبت حماقة..
أن أكتُبَ كلَّ ما سلفَ وآتي بعد ذلك لأكتبَ أحلامي الصغيرةَ وأبقى مستمراً في ارتكابِ حماقةٍ – وهذا ما يسميه القانونُ الجريمةَ المستمرةَ -، وأنا أعلمُ أن القانونَ يُحاكِمُ الأحمقَ الذي يحلُمُ بمنعه من النومِ.. أكون أيضاً أحمق!.
على الرغم من كل حماقتي السابقة لا بد أن أكتب أحلامي الصغيرة..: لديَّ بعضُ الأحلامِ.. وهي أحلامٌ لا تفارِقُني منذُ الطفولةِ، فعلاً أحلامُ طفولة.. لأنها لا تريد أن تفارِقَني منذُ كنت جاهلاً لا أعي مصالحي، فمنذ أن بدأت أعي وأفهمُ معنى المصلحةِ العامةِ والشأن الداخليِّ وأمورِ البيت الداخليةِ والسياسةِ الخارجيةِ امتنعتُ والحمد لله عن الأحلامِ التي تسببُ الإزعاج الأمني لغيري.. لكني.. ما زلتُ مصراً على اقترافِ هذه الأحلامِ عامداً متعمداً متقصداً إثارةَ كلِّ من يعارِضُ من يعارضونَ أحلامَ الفقراءِ بلا سببٍ سوى أنهم فقراءُ لا يملكونَ ثمنَ حُلْمٍ جديدٍ أو علبةِ حليبٍ لأطفالهم فيكررونَ ذاتَ الحلُمِ كل مساءٍ ويعيرونهُ أيضاً لأطفالهم الذين ينامون جوعى، وقد أفادَ مصدرٌ مسؤولٌ رَفَضَ ذِكْرَ اسمِهِ أن بعضَ الفقراءِ يعيرونَ هذه الأحلامَ المستعارةَ لأصدقاءَ مقربينَ لهم، وذكرت صحيفةُ رسميةُ أنهم وفي حالاتٍ يؤجِّرونها أحلاماً مفروشة وغير مفروشة..
أحلمُ بأن يمرَّ يومٌ ولا آخذُ فيه حبَّةً زهريةَ اللون لتُمسِك أعصابي المهترئة وتضعَ حداً لسرسباتي.. أحلُمُ بيومٍ من دون أي دواء.. من دون شكايةٍ ونقٍّ على زوجتي المسكينة المخدوعةِ بي حيث ظنّت أني “صاغ سليم” عندما رضِيَتْ بالزواجِ بي.. أحلُمُ بيومٍ من دونِ تركيزٍ على أني مريضُ بالسرطان أو ما دونَه من المُميتات.. أحلُم بيومٍ من دون أحلام.. حين أصف أحلامي الصغيرة ولا أجد من يقرأها غير نفسي أكون قد ارتكبت حماقة، ولكن من الحماقة أيضاً أن أسمح للناس بقراءةِ حماقاتي أو سماعِها بصوتي!!.. ألم أقل منذ البداية أني أحمق يملك أحلاماً صغيرة؟!.