فضاءات فكرية

كيفَ تناولَ القرآنُ الكريمُ بني إسرائيل؟!

قراءة في المقدمات والأسباب والنتائج

نبيل علي صالح / باحث وكاتب سوري

القرآن الكريم كتاب سماوي مقدس أنزله الله تعالى وحياً على آخر الأنبياء والمرسلين النبي محمد(ص)، ويحتوي هذا الكتاب الخالد على /114/ سورة تتحدث وتحكي عن التاريخ والحياة والإنسان والكون والعلاقات البشرية والاجتماع الإنساني وغيرها من الروايات والأحداث والوقائع والقصص التي تشكل عبرة للإنسان في مسيرته الحياتية..

ومن ضمن الوقائع والقصص المهمة التي يرويها ويتحدثُ عنها القرآنُ الكريم بشكل طويل ومستمر في كثير من السور والآيات، تأتي قصص اليهود أو بنو إسرائيل كأهم وأطول القصص القرآنية التي توسع في الحديث عنها في كثير من سوره، حيث يلاحظ أن الآيات التي تتحدث عنهم كانت تقف موقف النقيض منهم في اعتقاداتهم وقناعاتهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم وأخلاقياتهم النظرية والعملية.. بل إن القرآن الكريم لعنهم في كل الكتب السماوية، قوله تعالى: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ*تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ*وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ* لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا….﴾(المائدة/78-82).. كما أنه حذر (ويحذّر) في كثير من الأحيان من أن يسلك المسلمون سلوك بني إسرائيل كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً﴾ (الأحزاب/69).

ولكن السؤال هنا، لماذا تكرر الحديث القرآني عن بني إسرائيل على نحو لم يتكرر أو لم نقرأه في أية قصة أخرى عن الأقوام والحضارات والأمم الأولى خصوصاً ممن نزلت فيهم الكتب والرسالات السماوية؟!.. ألا يجب أن نتأمل جيداً في أسباب هذا التكرار عن هؤلاء القوم بالذات دوناً عن كثير من الملل والأقوام الآخرين، لنتبين الحكمة والقصد العملي للقرآن من وراء هذا التكرار لذكرهم في كتابه الكريم؟!!.

لقد أخبرَ اللهُ تعالى وتحدث القرآن عن اليهود وبني إسرائيل في أنهم استحقوا غضبه، مسجلّاً كثيراً من أفعالهم السيئة وقبائح سلوكياتهم وتدني أخلاقياتهم، وهي لم تقتصر على عصر أو دهر أو زمن بعينه، بل استمرت معهم (أي مع بني إسرائيل) في امتداد الأيام والأزمان.. وللأسف لم يزدهم تقادم الأزمنة إلا تعلُّقاً بتلك القبائح ودفاعاً عنها وتمكّناً منها، في استباحة دماء الآخرين، والاعتداء على مقدساتهم وحرماتهم، واستخدام العنف والقوة الرعناء ضدهم من أجل الحفاظ على مصالحهم وقبائحهم وتثبيتها في مدى التاريخ كله.

لقد سجّل القرآن – في لفتةً مهمة وحيوية فيها العبرة وضرورة الوعي – كثيراً من تلك السلوكيات القبيحة والارتكابات القذرة لبني إسرائيل في مختلف مواقعهم، نختار منها:

1- نقضهم للعهود والمواثيق:

قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ (البقرة/83).

2- سوء أدبهم مع الله تعالى، وعداوتهم لملائكته، وقتلهم لأنبيائه:

قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران/181-182).

3- جحودهم الحق، وكراهتهم الخير لغيرهم بدافع الأنانية والحسد:

قوله تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُون﴾ (البقرة/100).

4- تحايلهم على استحلال محارم الله تعالى:

قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾(الأعراف/163-166).

5- نبذهم لكتاب الله، وتحريفهم لكتبه، واتباعهم للسحر والأوهام الشيطانية:

قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ*وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(البقرة/101-102).

6- حرصهم الشديد على زخارف الدنيا وتقاعسهم عن العمل في سبيل الله:

قوله تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (البقرة/96).

وقوله تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ…..﴾ (البقرة-75-79).

.. وبطبيعة الحال هناك فظائع وقبائح ورذائل كثيرة أخرى ذكرها القرآن عن قوم بني إسرائيل، يمكن العودة إليها في مصادر كثيرة، كي لا نطيل ونستطرد، وهو أمر يحتاج لدراسات وكتب، وليس مجرد مقالٍ مصغّر.. كعبادتهم العجل، وتنطّعهم في الدين، وتهربهم الدائم من الحق والإيمان، ووإلخ.

طبعاً نحنُ عندما نذكر مساوئ اليهود وقبائحهم التي تحدَّثَ عنها القرآن الكريم بإسهاب وتوسُّع، علينا أن نذكر بالمقابل أن الله تعالى ميّز في آياته الكريمة في طبيعة نظرته لليهود (وعموم بني إسرائيل) بين نوعين أو فئتين أو صنفين منهم، صنف مؤمنون صالحون، وصنف ظالمون عُصاة فاسقون.. ولكن الصفات الغالبة على هؤلاء القوم هي الصفات السلبية السيئة للغاية، صفات الكفر والغدر والخيانة والفسوق والفجور والعنصرية..

فقد مدح القرآن الكريم مؤمنيهم، وذمّ فاسقيهم، وهو لم يَتعامل معهم (مع بني إسرائيل أو اليهود) باعتبارهم جنساً أو قوماً بذاتهم، يُقبَل بأكملِه أو يُرفَض بأكملِه؛ وإنما باعتبارهم أفراداً أو بشراً أو أشخاصاً لهم قناعات وأفكار وعقائد، يَنتمون إما إلى مُعسكَر الإيمان أو معسكر الكفر؛ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إسرائيل*وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة/23-24). وقوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا *وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا*لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (النساء/160-162).

يقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ (المائدة/66).

أما عن أسباب ودوافع هذا التركيز القرآني العميق والطويلة والدائم على اليهود (وبني إسرائيل) كقومٍ ضلّوا وحرفوا وانتهكوا ونكثوا العهود والمواثيق، ونشروا الفتن والاضطرابات، وحاربوا الرسالات، وغدروا بالأنبياء، وقتلوا الأئمة والمقدسين، وسعوا في الأرض خراباً وفساداً وفجوراً وقتلاً ونهباً وووإلخ، إلى يومنا هذا، فالحقيقة أن الملاحظة الأساسية التي يمكن استنتاجها مما تقدم أن هناك قناعة وعقيدة حسية مادية يعتقد بها هؤلاء القوم، أي أنهم ينظرون لكل شيء من منظور الرؤية المادية الشمولية الكلية، حتى للأديان وقضايا الإيمان والأخلاق والقيم والروحانيات.. إذ ليس لديهم من معتقد إلا ويستند على البعد المادي الفج، فهذا هو معيارهم ودينهم وديدنهم، يحتكمون إليه، ويحاكمون كل شيء عبره ومن خلاله، حتى على مستوى علاقاتهم مع بعض وليس فقط مع غيرهم.. وعلينا هنا ألا نستغرب كثيراً من سلوكياتهم النفعية الضيقة والأنانية هذه، طالما أن عقيدتهم الدينية ذاتها قائمة – كما قلنا – على تصور مادي حتى للإله نفسه..!!. يقول تعالى في حديث عنهم عندما سألوا النبي موسى بأن يريهم الله إراءة مادية بصرية: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ..﴾(النساء/153).. ويقول تعالى:﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (الأعراف/138).. وأنهم رفضوا حتى عبادة الخالق العظيم متخذين العجل بدلاً عنه، يقول تعالى: ﴿…. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا﴾ (النساء/153).. وعن هذا يتحدث صاحب الميزان العلامة الراحل محمد حسين الطباطبائي، مؤكداً على أن بني إسرائيل كانوا على شريعة جدهم إبراهيم عليه السلام، وقد خلا فيهم من الأنبياء إسحاق ويعقوب ويوسف، وهم على دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا الله سبحانه وحده لا شريك له المتعالي عن أن يكون جسماً أو جسمانياً يعرض له شكل أو قدر، غير أن بني إسرائيل – كما يستفاد من قصصهم – كانوا قوماً ماديين حسيين يجرون في حياتهم على أصالة الحس، ولا يعتنون بما وراء الحس إلا اعتناء تشريفياً من غير أصالة ولا حقيقة، وقد مكثوا تحت إسارة القبط سنين متطاولة، وهم يعبدونَ الأوثانَ فتأثرتْ من ذلك أرواحهم وإنْ كانت العصبية القومية تحفظُ لهم دين آبائهم بوجه.. ولذلك كان جلهم لا يتصورون من الله سبحانه إلا أنه جسم من الأجسام، بل جوهر أُلوهي يشاكل الإِنسان، كما هو الظاهر المستفاد من التوراة الدائرة اليوم، وكلما كان موسى يقرب الحق من أذهانهم حوّلوه إلى أشكال وتماثيل يتوهمون له تعالى لهذه العلة لما شاهدوا في مسيرهم قوماً يعكفون على أصنام لهم استحسنوا مثل ذلك لأنفسهم فسألوا موسى(ع) أنْ يجعلَ لهم إلهاً كما لهم آلهة يعكفون عليها.. فلم يجد موسى عليه السلام بداً من أن يتنزل في بيان توحيد الله سبحانه إلى ما يقارب أفهامهم على قصورها، فلامهم أولاً على جهلهم بمقام ربهم مع وضوح أن طريق الوثنية طريق باطل هالك ثم عرف لهم ربهم بالصفة، وأنه لا يقبل صنماً ولا يحد بمثال.

وأما عن الحِكمة من هذا التركيز والتكرار في القصص القرآني عن أولئك القوم، فالحقيقة أنها تأتي في سياق أن الله يختبر الناس والأقوام والملل – كما يقول الشيخ الغزالي – بالرفعة والوضاعة، يَختبِرهم بالزلزلة والتَّمكين، يَختبرهم بالخَوف والأمن، يَختبِرهم بالثروة يُعطيها وبالفقر يُرسله، يَختبِر بالضَّحِك والبكاء؛ قال تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾(النجم/42-44)، يَختبرهم بالأمرَين، وعندما يَختبر هو عالم بخلقه، ولكنَّ القاضي لا يَحكم بعِلمه؛ إنما يَحكمُ بين العبادِ بما يَظهرُ مِن أمرِهم؛ حتى تَنقطِع الأعذار، وتخرس الألسنة التي مرنَت على الجدل؛ فإنّ ناساً سوف يُبعثون يوم القيامة وهم مُشركون ويقولون لله:﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾(الأنعام/23)، فلا بدّ مِن إقامة الدليل على الناس مِن عملهم هم..

نعم إن الله تعالى يريد من الناس جميعاً وخصوصاً منهم المسلمون أن يتعظوا بغيرهم من الأمم والأقوام والملل، في ضرورة أن يؤمنوا ويتبعوا الرسل ونهج الحق وسبل الصدق والسلام.. قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف/111).. وأيضاً في ضرورة أن يعرفوا كيف يتعاملوا ويتعاطوا مع هؤلاء القوم الذين ترسخت لديهم عقيدة الكفر والشرك والمادة العمياء، وتثبتت في سلوكياتهم صفات الغدر والخيانة والقتل والعصبيات والعنصرية.. بما يدفعنا إلى أن لا نصدِّقهم، وأن نأخذ منهم دوماً جانب الحذر والحيطة في كل شيء، قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾(الحديد/16)، وقوله تعالى في تحذيره ونهيه لنا عن التفرقِ والاختلاف الذي حلّ بهم: ﴿ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(آل عمران/105).