واشنطن والحرب على غزة: دعم الكيان المؤقت ليس بلا أثمان
بقلم: ابتسام الشامي
بثقلها العسكري والسياسي والإعلامي، وقفت الولايات المتحدة الأمريكية أمام الكيان المؤقت وخلفه في حربه العدوانية على قطاع غزة. من الإشراف على الحرب والمشاركة في إدارتها، وصولاً إلى توجيه مسارها العسكري ورسم أفقها السياسي..
بدت واشنطن صاحبة القرار، وطرفاً مباشراً في حرب تترك تداعياتها ليس على حليفها المركزي في المنطقة بل على وجودها فيها، وعلى الاستحقاقات السياسية الداخلية وفي مقدمها الانتخابات الرئاسية.
القيادة الأمريكية للحرب
على عتبة العام الانتخابي الأمريكي، جاءت عملية طوفان الأقصى لتنقل تركيز السياسية الخارجية الأمريكية من أوروبا حيث الصراع الروسي الأطلسي، وبحر الصين الجنوبي حيث المنافسة الاستراتيجية مع الصين، إلى غرب آسيا، والتمركز الأمريكي الذي ارتبط تاريخياً بعاملين أساسيين هما أمن الكيان المؤقت، واستمرار تدفق النفط، اللذين شكلا، إلى جانب عوامل أخرى، ذرائع للانتشار الأمريكي الأوسع في المنطقة منذ مطلع القرن الحالي، وذلك بفعل ما شهدته المنطقة من تحولات جوهرية في موازين القوى، في ضوء ما فرضته إنجازات المقاومة في لبنان، ومن ثم في فلسطين من تحديات لمستقبل الكيان المؤقت، ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.
عملية طوفان الأقصى التي باغتت فيها حركة حماس، كيان العدو وكشفت فيها هشاشته على مستويات عدة، استدعت تدخلاُ أمريكياُ إنقاذياً عاجلاً، فحضر الرئيس الأمريكي بشخصه في الأيام الأولى من المعركة بعدما سبقه إلى تل أبيب وزيرا خارجيته وحربه، وكبار الضباط العسكريين الأمريكيين، الذين أوكلت إليهم مهمة مساعدة الجيش الإسرائيلي المصدوم وتوجيه أدائه وتصويب خططه العسكرية ورسم الأهداف الواقعية للحرب. وبهذه الخلفية الإدارية التوجيهية الإنقاذية، تصدرت واشنطن قيادة الحرب على غزة، وفتحت خطاً مباشراً لنقل الأسلحة وما تحتاجه تل أبيب من عتاد عسكري لإنجاز مهمة القضاء على المقاومة في القطاع المحاصر منذ عام 2006، فيما تولت “دبلوماسيتها” إحباط مشاريع القرارات في مجلس الأمن الدولي لوقف العملية العسكرية العدوانية، والتغطية على جرائم جيش العدو ومجازره. لكن الحرب طالت من دون تحقيق إنجازات عسكرية مهمة، ومعها تنامت المخاطر المترتبة على الوجود الأمريكي في المنطقة، عندما انبرت قوى المقاومة في العراق واليمن لمناصرة غزة، في ضرب الأهداف الأمريكية، بما يرفع مستوى الضغوط على الإدارة الأمريكية لوقف المجزرة المتواصلة في غزة.
اليوم وبعد مضي خمسة أشهر على الحرب بدأت تداعياتها بالظهور على الجانب الأمريكي في وقت يلاحظ فيه سعي إدارة بايدن لوضع حد لتفاعلاتها وسط تصاعد منسوب التحذير من تلك التداعيات داخلياً وعلى “مصالح” الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. وهو ما بدأت مراكز الابحاث الأمريكية وكذلك وسائل الإعلام وخبراؤها، برصدها وقراءة تأثيراتها. في هذا السياق نشرت صحيفة نيويورك بوست مقالاً للكاتب مايكل غودوين، تحت عنوان “بايدن يلعب بالنار ويجازف بإشعال حرب عالمية ثالثة”، يشير فيها الكاتب إلى السعي الأمريكي “الحثيث” لوقف الحرب بعدما ذهبت إدارة بايدن بعيداً في دعمها، والسبب أنها أي الحرب باتت تؤثر في شعبيته في الاستحقاق الانتخابي المقبل. ويقول الكاتب إن الرئيس الأمريكي عمل على “دفْع إسرائيل إلى قبول هدنة في غزة، وإلى قبول قيام دولة فلسطينية، وذلك استرضاء للناخبين المسلمين في أمريكا وكذلك للشباب الراديكاليين في قواعد الحزب الديمقراطي”. ووفقاً للكاتب فإن بايدن، “ولكي يُقنع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بالخطوتين اللتين يرفضهما بشدة – الهدنة وإقامة دولة فلسطينية -، يُغري نتنياهو بصفقة تطبيع للعلاقات بين إسرائيل والسعودية”. واعداً السعودية في إطار هذه الصفقة “بالحصول على تكنولوجيا نووية مدنية أمريكية، فضلاً عن الحصول على وعد بحماية عسكرية للمملكة”. ويؤكد الكاتب أن الرئيس الأمريكي يسعى إلى “إنجاز كل تلك الأهداف قبل حلول الصيف المقبل بحيث يمكنه في سباق الانتخابات الرئاسية أن يستند على عدد من الإنجازات منها: وقف الحرب في غزة، والتطبيع بين السعوديين والإسرائيليين، وإعلان قيام دولة فلسطينية”.
تحول في الرأي العام الأمريكي
الدفع الأمريكي باتجاه وضع نهاية للحرب وفق تصور سياسي يقوم على معادلة دولة فلسطينية مقابل التطبيع السعودي الإسرائيلي، أعطاه تحول الرأي العام الأمريكي في الموقف من الحرب زخماً إضافياً. فقد أظهر استطلاع جديد للرأي أن نصف الأمريكيين البالغين يرون أن “إسرائيل” تمادت كثيراً في حملتها العسكرية على قطاع غزة. ووفقاً للاستطلاع، الذي أجرته وكالة أسوشيتد برس” ومركز “نورك” خلال الفترة الممتدة من 25 إلى 28 كانون الثاني الماضي، فإن عدم الرضا يتنامى في أوساط الجمهوريين والسياسيين المستقلين إزاء دعم “إسرائيل” وتعامل إدارة الرئيس جو بايدن مع الوضع. حيث كشف الاستطلاع أن 31% فقط من الأمريكيين البالغين يؤيدون طريقة تعامل بايدن مع الصراع، ويتضمن ذلك 46% فقط من الديمقراطيين، وفي هذا تراجع كبير مقارنة بالتأييد لنهج بايدن بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي. كما يُظهر الاستطلاع أن 33% من الجمهوريين يقولون الآن إن الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى تمادى كثيراً، ويشكل ذلك ارتفاعاً كبيراً من نسبة 18% بين الجمهوريين في تشرين الثاني الماضي. ويرى 52% من المستقلين الأمر ذاته، ارتفاعاً من نسبة 39%، كما يشعر 62% من الديمقراطيين الشعور نفسه، وهي الأغلبية ذاتها في تشرين الثاني الماضي. وفي الإجمال، وجد الاستطلاع أن 50% من الأمريكيين البالغين يعتقدون الآن أن الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة ذهب أبعد مما ينبغي له، ويعد هذا ارتفاعاً ملحوظاً عن نسبة 40% التي أظهرها استطلاع مشابه للجهة المستطلعة نفسها في تشرين الثاني الماضي.
ويحمل الاستطلاع الجديد للرأي إشارات غير سارة لحملة الرئيس الأمريكي جو بايدن لاسيما في أوساط القاعدة الديمقراطية. إذ بيّن الاستطلاع أن حوالي 6 من كل 10 ديمقراطيين غير بيض لا يوافقون على الطريقة التي يتعامل بها بايدن مع الصراع، بينما يوافق حوالي نصف الديمقراطيين البيض على نهجه. وبحسب نتائج الاستطلاع فإن حوالي 7 من كل 10 ديمقراطيين تحت سن 45 لا يوافقون على طريقة تعامل بايدن مع الصراع. وهذا عكس موقف الديمقراطيين الأكبر سناً، حيث يؤيد تقريباً 6 من كل 10 نهج بايدن. كما يقول نحو 7 من كل 10 ديمقراطيين الذين لا يؤيدون طريقة تعامل بايدن مع الصراع إنه من المهم جداً على الولايات المتحدة أن تساعد في إجراء مفاوضات من أجل وقف نهائي لإطلاق النار. ويُظهر الاستطلاع الآن أن 35% فقط من الأمريكيين البالغين يصفون “إسرائيل” الآن بأنها “حليف” يشارك الولايات المتحدة المصالح والقيم. وعلى الرغم من أن نحو 6 من كل 10 أمريكيين يصفون استعادة الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس بأنها أولوية أمريكية مهمة، فإن 3 من كل 10 فقط يقولون إنه من المهم جداً تزويد إسرائيل بمساعدات عسكرية لمحاربة الحركة.
التراجع الملحوظ في تأييد الأمريكيين لإدارة بايدن في موقفها من الحرب العدوانية على غزة، بدأت ترجمته العملية تظهر في الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي واللقاءات التي ينظمها بايدن مع قاعدته الشعبية. وفي هذا السياق استُقبل الرئيس الأمريكي بمظاهرات منددة بموقفه الداعم للعملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، حيث رفع محتجون لافتات تدعو لوقف إطلاق النار في القطاع الفلسطيني المحاصر وتندد بموقف الإدارة الأمريكية مما يجري. واحتشد ناشطون أمريكيون خارج قاعة احتضنت اجتماعاً بين ممثلين عن نقابة قطاع صناعة السيارات والرئيس بايدن في مدينة وارن بولاية ميشيغان. وسار المتظاهرون ملوحين بالأعلام الفلسطينية في شارع باتجاه موقع النقابة، ورددوا هتافات تقول “جو المؤيد للإبادة الجماعية يجب أن يرحل”. وفي تعبير عن الاحتجاج السياسي حيال موقف الإدارة الأمريكية من الحرب العدوانية على قطاع غزة، نقلت وكالة فرانس برس عن سامح الهادي العضو في الحزب الديمقراطي والصحافي الخبير في الشؤون الأمريكية من ديترويت قوله “إن الهدف من زيارة بايدن إلى ميتشغان هو، إلى جانب الحديث مع قطاع السيارات، التواصل مع ناشطين وقيادات الجالية العربية والمسلمة الأمريكية للحديث عن الظرف الانتخابي في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة”. مضيفاً أن “كثيراً من هؤلاء الناشطين والقيادات وأنا من بينهم، اعتذر عن عقد أي لقاء مع موظفين أو حتى مديرين أو رؤساء في قطاع الحملة الانتخابية. طلبنا الجلوس مع واضعي السياسات ومتخذي القرار في الإدارة، حرصاً على أن تصل الرسالة كاملة وواضحة للرئيس بايدن، ومفادها بأن أصوات الجالية العربية والمسلمة في ميشيغان وهي من الولايات المتأرجحة والهامة والتي سبق وأن فاز فيها الرئيس سابقاً بفارق ضئيل، وحتى تظل زرقاء ديمقراطية، فإن هناك الكثير من الجهد الذي يجب بذله”.
وفي مدينة ديربورن، دعت مجموعة من المنظمات إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. وكان رئيس بلدية المدينة عبد الله حمود قد قال في وقت سابق على منصة إكس إنه يرفض لقاء مدير حملة بايدن. وصرح: “لن أستمتع بالحديث عن الانتخابات بينما نشاهد بثاً مباشراً للإبادة الجماعية المدعومة من حكومتنا”. وبحسب سامح الهادي العضو في الحزب الديمقراطي، فإن موقف عمدة ديربورن هو لاقتناعه أن الوقت الآن ليس “للحديث عن الأصوات والحملة الانتخابية وجذب الأصوات، بل عن ضرورة العمل على وقف إطلاق النار”. موضحاً في حديثه إلى وكالة الأنباء الفرنسية، بأن ما يحدث في القطاع الفلسطيني الصغير المحاصر هو بمثابة “الأمر الشخصي بالنسبة لمعظم العرب الأمريكيين في ولاية ميشيغان خصوصاً في ديربورن. حيث إن الصلات والقرابة بين العائلات ممتدة إلى غزة وفلسطين. ونحن نعاني الألم بشكل مباشر وهذا الرفض من قبل عمدة المدينة جاء متسقاً مع موقف الجالية العربية بشكل عام ومعبراً عنه كون حمود عمدة مُنتخب”.
تأثير الحرب في نفوذ أمريكا وقوة ردعها
على أن تداعيات الدعم الأمريكي للحرب العدوانية على غزة لن تبقى محصورة في السباق الانتخابي إلى البيت الابيض، إذ تتوالى التحذيرات من تأثير ذلك في تآكل “قوة الردع” الأمريكية على خلفية توسع التورط العسكري في المعركة إلى جانب الكيان المؤقت، من بوابة الاعتداءات التي ينفذها الجيش الأمريكي ضد اليمن والعراق وسوريا. وفي هذا الإطار يعتبر المحلل السياسي الأمريكي، جون هوفمان في مقالة له في مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية، في عددها الصادر في الثاني من شباط الجاري، أن الوقت ينفذ أمام الولايات المتحدة، لمنع المزيد من المذابح في غزة، والحيلولة دون اندلاع حرب أوسع في الشرق الأوسط، من شأنها أن تقوض المصالح الأمريكية فيها لأجيال مقبلة. ويقول هوفمان، إن المشكلات السياسية في غزة ولبنان، وسوريا والعراق واليمن، لا يمكن حلها بالقوة العسكرية، كما يؤكد أن الهجمات، التي تتعرض لها القوات الأمريكية في المنطقة، ترتبط ارتباطاً مباشراً بالدعم الأمريكي للحرب الإسرائيلية على غزة.
وليس بعيداً عن هذا التقدير، يرى تقرير لشبكة CNN الاخبارية الأمريكية أن من غير المرجح أن تردع الضربات الأمريكية ضد من أسمتها الجماعات الوكيلة لإيران في الشرق الأوسط عن شن المزيد من الهجمات على الأهداف الأمريكية في المنطقة. وبحسب التقرير فإنه “من أجل إخماد احتمالات نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تركز جهودها على معالجة السبب الأساسي وراء هذا الصراع، وهو الحرب في غزة”. ويؤكد تقرير شبكة CNN أن “الضربات الأمريكية السابقة فشلت في تحقيق مفهوم الردع. فقد قصفت الولايات المتحدة أهدافاً للحوثيين في اليمن في الأسابيع الأخيرة، لكن الحوثيين استمروا في إطلاق الصواريخ على السفن التجارية في البحر الأحمر.. كما دفعت الضربة الجوية الأمريكية بطائرة من دون طيار الشهر الماضي، والتي أسفرت عن مقتل زعيم في الحشد الشعبي في بغداد، الحكومة العراقية للمطالبة بانسحاب 2500 جندي أمريكي متمركزين في العراق. والانسحاب من العراق سيكون فشلاً آخر لا يخدم إلا مصالح إيران”. ويخلص تقرير الشبكة الأمريكية إلى القول إن “ما نحتاج إليه هو اعتراف واضح بأن هذه الضربات لا تعزز الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة المتمثلة في منع الخصوم من مهاجمة الأهداف والحلفاء الأمريكيين، وأن إيران تواصل نشر نفوذها الكبير في الشرق الأوسط من اليمن جنوباً إلى لبنان شمالاً”.
إلى ذلك كان لافتاً للانتباه البرقية التي أرسلتها السفارة الأمريكية، في العاصمة الأردنية عمان والتي تحذّر بشكل صريح من أن “الولايات المتحدة الأمريكية تخسر بشدة في ساحة معركة تبادل الرسائل”. ووفقاً للبرقية التي نشرتها شبكة “سي إن إن” الأمريكية، فإن “هذا التقييم جاء بناء على “محادثات مع مجموعة واسعة من المصادر الموثوقة والرصينة”، مشيرة إلى أن “واشنطن تخسر الشعوب العربية على مدى جيل كامل، بدعمها القوي للهجوم الإسرائيلي المدمر على قطاع غزة”.
خاتمة
المسؤولية الأمريكية عن الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة لن تبقى من دون أثمان، هكذا قررت قوى المقاومة في المنطقة طبيعة نصرتها لغزة وأهلها ومقاومتها، متحملة كلفة المواجهة مع الأصيل في الصراع. وهي إذ ترى تداعيات نصرتها على الجانب الأمريكي فإنها تعتقد أنها باتت أمام فرصة حقيقية ليس لتسديد ضربات موجعة للنفوذ الأمريكي في المنطقة فحسب، وإنما تحريرها من الهيمنة المستنزفة لثرواتها ومقدراتها وقرارها السياسي.