فضاءات فكرية

العرب والمسلمون ومسؤولية التأخر والارتكاس الحضاري

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

في الواقع يجب أن نقول منذ البداية إن تراث الدين الإسلامي ليس سبب معاناة العرب وتأخرهم الحضاري.. والإسلام والعقيدة الدينية (والثقافة وكل القيم والمعاني التي أنتجتها منظومته المعرفية ورؤيته الإنسانية الحضارية) ليست هي المسؤولة الأساسية عن مجمل هذا التدهور في حياتنا العربية وعن النتائج والمآلات السلبية التي عاشها ويعيشها العرب والمسلمون، خصوصاً على صعيد حالة شبه انعدام فاعلية الدولة العربية، وتقويض أسس استقرارها وضعف تأثيرها، وعدم تمكنها من بناء مقومات وجودها الاقتصادية والعلمية، بما يدفع إلى استغنائها عن مساعدة الدول المتقدمة في كثير من المجالات العملية.

طبعاً، في وضعنا العربي المتفجر حالياً حيث يغيب المفهوم الحقيقي التطبيقي لمعنى وماهية الدولة، هناك أمران في غاية الأهمية على هذا الصعيد هما من ساهم في عملية تقويض أسس الدولة العربية الحديثة:

الأول- البيئة السياسية المعاشة:

حيث مناخات العمل السياسية والاقتصادية وأساليب التطبيق، ومجمل السياسات واستراتيجيات العمل التي تم ويتم تنفيذها على الأرض، ليس للفرد العربي أي دور فيها، بل هي تتخذ من قبل النخب المهيمنة القائمة (صاحبة المصلحة في بقاء الأمور على ما هي عليه من ثبات واستقرار وموات وفوات تاريخي)، التي لا تلقي بالاً (يعني: لا تهتم البتة) بشيء اسمه: الحقوق، أي حقوق الفرد والمجتمع.. ولا تعرف معنى عملياً لأخلاقيات المواطنة المتساوية، ولا تهتم أيضاً بحكم القانون، ولا بأولوية الحرية وسيادة الفرد على ذاته ونفسه.. فكيف تبني دولة قوية فاعلة يسعى أبناؤها في طريق العلم والمعرفة والبناء المعرفي والعلمي، ولا يوجد فيها أي بناء سياسي حديث يقوم على الحقوق والمشاركة والحريات؟!..

الثاني- السياسات والمخططات الدولية:

حيث ما زال العبث الدولي بمقدرات المنطقة العربية وثروات أبنائها، يتحرك بقوة من قبل الدول العظمى والمحاور الدولية الكبرى، وهو مستمر منذ عقود طويلة؛ مما حرم أبناء هذه المنطقة -التي هي منطقة الأديان والرسالات والثقافات القديمة- من بناء دول مؤسسية آمنة ومستقرة، ومنعهم من الوصول إلى بناء تفاهماتٍ ومشتركات وقناعات شبه واحدة حقيقية راسخة وعميقة، تعزز الاستقرار والسلام بين شعوبه ومجتمعاته ودوله. وكل فترة من الزمن – حيث اللا استقرار هو القانون الحاكم – تندلع الحروب والصراعات الأهلية، نتيجة التوازنات الهشة القائمة، وتضارب المصالح وتناقضاتها، الأمر الذي يدخل المنطقة في أتون العنف الذي يكلفها مزيداً من الضحايا والأموال وهدر الثروات وضياع مستقبل التنمية.. وهذا سببه الأساسي حالة الفوضى وعدم الحسم التاريخي، وهيمنة عطالة الاستبداد والفساد.

ولا تقولوا لي بأن موضوعة الحسم هي موضوعة تاريخية حيث أن ثقافتنا ماضوية عتيقة غير قابلة للتطور أو التعديل، وأن إنساننا (الذي تتحكم فيه ثقافة النص التاريخي) لا يحمل في داخله بذور ونويات التطور والانفتاح على الحياة والعصر، خاصة وأنه يعيش في قلب هذا التطور العلمي والتقني..

أنا أقول بأن كل الثقافات البشرية حتى تلك التي وصفت يوماً ما بالهمجية والبربرية هي ثقافات قابلة للتعديل والتطور، وإلا لما وصل العقل البشري إلى ما وصل إليه من تقدم وتطور مذهل على كل الصعد والمستويات (حيث هذه الحضارة العلمية التقنية الراهنة التي نعيشها)، بل كان بقي في الكهف والمغاور، وعاش على الزراعة والصيد والافتراس.

لاحظوا معي أن أوروبا (الغرب) كيف كانت وعلى أي حال متطور مذهل أصبحت؟!.. فهل نسينا حروبها الأهلية البربرية التي كلفتهم ملايين الضحايا والأبرياء؟ ثم لاحقاً بنوا تفاهمات سياسية واجتماعية، فقامت الدول على أسس عقلانية صحيحة، ليرسموا أسس تقدمهم بمعاول العقل والعلم والتفكير الفلسفي العملي.. بمعنى أنه من عمق تلك النظم الاجتماعية القروسطية القديمة انبثقت وتفجرت قيم ومعاني السياسة العقلانية القائمة على حكم القانون وحق الفرد وسيادته بدلاً عن حكم الراعي والرعية والبلاطات الملكية والأميرية، وارتقى الناس في تفكيرهم ووعيهم، وتنظيم شؤونهم إلى مستوى مفهوم الدولة والقانون وأخلاق الحرية واحترام الفردية. بعيداً عن الأشكال الجماعوية للتنظيم الديني الطائفي، أو العشائري، أي ما نسميه، في العلوم الاجتماعية، بالأشكال الأهلية والعرفية والعصبيات التقليدية، التي تنتج نفسها بنفسها، من دون تفكير ولا تغيير.

إن الإنسان بطبعه الذاتي (حيث العقل البدئي) محب للعلم والتطور والتقدم، ينشد الاستكشاف والاستطلاع ومعرفة كل ما حديث وجديد.. وكل الثقافات الكبرى والصغرى التي أنتجها هذا العقل (الذي كان بربرياً وهمجياً يوماً ما في سلوكه ومعاني حياته) هي بالضرورة ثقافات قابلة للتطور، والانفتاح، والقراءات المتجددة، واستيعاب الأفكار والمعاني والقيم الجديدة لأية حضارة قائمة.. فكل البشر ينتمون إلى أرومة جنسية واحدة، وكل البشر يمتلكون نفس الخصائص الخلوية والنووية الذاتية التي كشفتها اكتشافات علوم الهندسية الوراثية.. وأن البيئة كموضوع هي من تحدد وتؤثر على طرق وأساليب العمل والوعي والسلوك، وليس الإنسان نفسه كذات.

ولهذا تقدَّمَ الغرب فقط لأنه نظم شؤونه على العقل والعلم، أي أن تقدمه المذهل لم يكن ثمرة تسامح المسيحية مع العلم وما يتعلق به من قضايا ومنظومات تفكيرية عملية وتجريبية، وإنما نتيجة الأخذ بالأسباب والمسببات ونظام العلية، أي الأخذ بالأسباب والقوانين العقلية..

أي أن قبْضَ الغرب على مفاصل الحداثة وأسس التقدم (في السيطرة على الطبيعة وكشف قوانينها وفتح آفاقها علماً واكتشافاً ونواميس كونية وحياتية) لم يكن انطلاقاً من أشكال تدينهم المعروفة في مفارقتها للواقع وهيمنة الخرافات عليها والتي أنتجت حروباً وصراعات دموية مكلفة استمرت قروناً في أوروبا.. بالعكس، أعاد الغرب (العقلي والعلمي والفلسفي) الموضوعَ الديني (المسيحي) برمّته إلى حالته ووضعه الأوّلي الطبيعي من حيث هو علاقة رأسية خاصة مع خالق الوجود، واستأنفوا حياتهم علماً وفلسفة وبحثاً وتجربة ومراكمة خبرات.

وأما تخلف الشرق وانحطاطه وتأخره الحضاري عن بناء نهضته وتقدمه، فهو لم يكن وليد الدين والتعصب، ولم يكن ثمرة رفض الإسلام للعلم والفلسفة العقلية، وإنما كان نتيجة انتشار الجهل وشيوع التخلف، وسوء تفسير الإسلام واختلاطه بالخرافة وبالعقائد الجبرية والاتكالية عند معتنقيه، وأيضاً بسبب سوء أداء السلطات السياسية عبر كل هذا التاريخ الممتد منذ قرون، وهو أداء كارثي بكل المقاييس أفضى لقمع الفرد ومنعه من حريته، والاستئثار بالثروات..

إن الدين الإسلامي يتوافق مع العقل والعلم، ويتصالح مع كل موضوعات النظر العقلي والفلسفي، ولم يقفْ يوماً في وجه أية حالة أو حركة للنهوض العقلي والعلمي. وحتى على مستوى الإصلاح الديني وغايته، لا يمكن أن يجري هذا من دون عقل وتفكير عقلي وعلمي.. أي من دون الأخذ بالأسباب والمسببات.

نعم يمكن للدين أن يكون محرضاً ودافعاً للعلم والمعرفة كما هي حال الإسلام (الدين الوسطي) الذي طالب الناس بالبحث والتطلع والاكتشاف وأعطاهم الغايات المثلى، ولكنه بالقطع لم يكن – ولا يمكنه أن يكون – علماً ومعرفة علمية “مادية” بالمعنى الاصطلاحي الذاتي للكلمة.. هو هدايةٌ للقيم والمبادئ العليا فحسب التي تعطي حياة المؤمن معاني إنسانية وأخلاقية راقية تساعده على العيش الحكيم والمسؤول في الحياة..

طبعاً حداثة الغرب التي أبعدت الدين عن ساحة الحياة العملية، ليس المطلوب رميها وشتمها مثلما يفعل كثير من نخب الدين عندنا، بوصفها سبب الاستلاب والتخلف والتبعية، وإنما نظام السيطرة الغربية الذي ارتبطَ بها وترسخ عبر محاكاة نماذجها.. كما أنه ليس مطلوباً محو الشخصية وتجريد الشعوب من ثقافتها الخاصة باسم الحداثة، وإنما مواجهة مشاكل الاندراج الاقتصادي والسياسي والثقافي في العصر، الذي يشكل وحده مصدر إحياء الثقافات وتجديدها وتحويلها إلى حامل فعلي لهويات حية وتاريخية لا لعصبية طبيعية.

أي أننا ينبغي أن ننظر للحداثة من خارج منطق النقل والاقتداء والمحاكاة لنماذجها الجاهزة، أي خارج أفق السيطرة والهيمنة الغربية، والذهاب للتعاطي معها بمذهب وتفكير ومنهجية أخرى تقوم على الاستثمار الفعال فيها ومن خلالها، وبناء نموذجنا الحضاري القائم على العقل والمعنى..

إن مستقبل دولنا ومجتمعاتنا لا يمكن أن يكون خارج أفق قيم التقدم والتطور المبني على العقل والعلم، وقيم التنمية واستقلال الأفراد وسيادتهم على أنفسهم.. لكننا للأسف ما زلنا نرى ونعيش في بلداننا رسوخ أنظمة التعصب والإعاقة العلمية والحضارية.. وعلى الأرض ما زالت سبل العدل في أوطاننا تسير في عكس توجهات سبل العدالة والحرية وحقوق الإنسان الموجودة في كثير من دول العالم الأخرى.

وعلى الرغم من إمكانياتنا وقدراتنا، وما وصله الإنسان من تطور مذهل، ما زالت تتسيدنا ثقافة الوهم، ويعيش الناس واقع الارتكاس والخوف، حيث يتصدر الجهلة والإفساديون المشهد كله، ويفتقد الناس للقيم العملية والنماذج العليا الواقعية، يفتقدون للمرجعية الأخلاقية والقيمية، فالكل بات في همّ سفلي واحد، تتغلب فيه الصور المُنمّطة على البواطن النبيلة والغايات القيمية الإنسانية الكبرى..

وللأسف الغرب السياسي وأزلامه في المنطقة العربية وجوارها، هم أكبر المتاجرين بثرواتها وخيراتها، ورأسمالها الحضاري، ومستقبل أجيالها، ومنْعهم من التطور والحداثة الحقيقية.. ولهذا:

لا قيامة للعرب والمسلمين في ظل نخب تسلطية وغرب سياسي عدواني نفعي وشعوب مقهورة بلقمة عيشها..!!.