إعرف عدوك

45 عاماً على السلام مع مصر.. الحرب في قطاع غزة أظهرت ضعفه، ولكن قوته أيضاً

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

من ناحية، سُمعت في الخطاب العام والرسمي في مصر وإسرائيل تعبيرات عن المشاكسات والعداء والشك وعدم الثقة؛ في المقابل، استمر الحوار الأمني الهادئ والالتزام المتبادل باتفاق السلام واستيعاب المصالح الاستراتيجية المتضمنة فيه. هذا الاختلاف، على الرغم من أنه أصبح مع مرور السنين جزءاً عضوياً من “السلام البارد”، ليس بالوضع الصحي. يجب على القاهرة والقدس أن تسعيا جاهدتين – بمساعدة أصدقائهما – لبناء هيكل علاقة محسّن يخدم مصالحهما الثنائية والإقليمية بشكل أفضل، أثناء الحرب وفي اليوم التالي.

في السابع من تشرين الأول كان هناك من توقع في إسرائيل إدانة مصرية حازمة للعملية التي ارتكبتها حماس، ابنة حركة الإخوان المسلمين. من جهتها، اكتفت القاهرة بدعوة إسرائيل إلى ضبط النفس وحمّلتها مسؤولية التصعيد. وعلى النقيض من الأسلوب المعتدل الذي يميز الرئيس عبد الفتاح السيسي عادة، فقد حذر من مظاهرات حاشدة إذا تحركت إسرائيل لنقل الفلسطينيين إلى سيناء، حتى أنه وصف إسرائيل فيما بعد بـ “نظام الاحتلال”. وتبنى كبار المسؤولين في الحكومة المصرية الموقف المتشدد الذي قدمه، واصطدم الممثلون المصريون مع إسرائيل في المناقشات التي جرت في الأمم المتحدة وفي محكمة العدل الدولية في لاهاي.

وفي الوقت نفسه، وُجهت انتقادات قاسية وغير معتادة إلى مصر من الجانب الإسرائيلي. وحمل وزير المالية بتسلئيل سموتريش القاهرة “مسؤولية كبيرة” عن أحداث 7 تشرين الأول. وعلى حدّ قوله، فإن مصر “غضّت الطرف لسنوات ومكّنت من التسليح المجنون لحماس”، وبالتالي فإن مشاركتها الوحيدة في مستقبل غزة سيتم التعبير عنها من خلال السماح لسكان القطاع بالذهاب إليها ومن خلالها إلى بلدان أخرى. وما أثار استياء مصر أن الوزراء والساسة والإعلاميين الإسرائيليين دعوا إلى نقل سكان غزة، أو أجزاء منهم، إلى أراضيها – وهي خطوة اعتبرتها القاهرة بمثابة تجاوز للخط الأحمر وتهديد لأمنها القومي.

على الرغم من رسائل التطمينات العلنية والصامتة المرسلة من القدس إلى القاهرة، فمن الواضح أن النظام المصري شكك في قدرة إسرائيل على استكمال نزع سلاح حماس دون أن يؤدي ذلك – عن طريق الخطأ أو عن قصد – إلى تدفق اللاجئين إلى مصر، وبالتالي أرسل رسائل تحذيرية إلى إسرائيل بشأن العواقب الخطيرة للعملية بالقرب من حدود رفح. بالإضافة إلى ذلك، عكس الخطاب المنتقد لإسرائيل طموح السيسي لحماية صورته في الشارع المصري والعربي ضد الأصوات المتطرفة من دول مثل إيران ومن أحزاب المعارضة الإسلامية، التي اتهمت النظام المصري بإدارة ظهره للفلسطينيين.

كما كشفت الحرب عن الانقسام القائم في الدوائر الحكومية في القاهرة بين القلة التي ترى في إسرائيل جارة مفيدة، والتيار الرئيسي الذي يواصل تبني مواقف شعبوية وعدائية ذات لهجة ناصرية وحتى إسلامية. ومن الأمثلة على هذا الانقسام الفجوة بين كلام رئيس هيئة الإعلام المصرية، ضياء رشوان، الذي حذر في كانون الثاني من أن الاحتلال الإسرائيلي لمحور فيلادلفيا سيهدد العلاقات السلمية بين البلدين، وكلام وزير الخارجية سامح شكري، الذي أكد بعد عدة أسابيع على التزام مصر الثابت بالسلام.

الخطاب الذي يتعرض له المصريون في وسائل الإعلام الرسمية لا يحسن الصورة. ويميل المعلقون العسكريون إلى اعتبار حماس حركة مقاومة مشروعة. ويتبنى الأزهر، المؤسسة الدينية الرائدة في العالم السُنّي، خطاباً مناهضاً لإسرائيل يذكرنا بخطاب الإخوان المسلمين. في يوم المذبحة، حتى قبل أن يرد عليها الجيش الإسرائيلي، أشاد الأزهر بالعمل الإرهابي الذي قامت به حماس، ومنذ ذلك الحين يشن حملة تشهير منظمة ضد إسرائيل.

أنتجت شركة “المتحدة” الإعلامية، المملوكة للمخابرات العامة المصرية، مسلسلاً درامياً معادياً لإسرائيل لشهر رمضان، بعد عدة سنوات لم يُبث فيها أي محتوى بهذه الروح في مصر خلال الشهر الفضيل. كما تحظى التعبيرات المعادية للسامية بمنصة واسعة في بعض وسائل الإعلام في مصر.

وفي الوقت نفسه، هناك عدد قليل من وسائل الإعلام والمثقفين المصريين الذين يجرؤون على انتقاد تصرفات حماس في 7 تشرين الأول بشكل علني وحاسم ولا لبس فيه. عملياً، فإن معظم الذي ارتكبته حماس يوم السابع من تشرين الأول لم يتم نشرها على الإطلاق في وسائل الإعلام الرسمية في مصر. وتم إسكات مؤيدي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ووجدوا أنفسهم تحت هجوم علني مكثف، وفي إحدى الحالات، أُجبرت باحثة على مغادرة مصر خوفاً على سلامتها الشخصية. في المقابل، انتشرت في مصر دعوات لمقاطعة إسرائيل والشركات العالمية الداعمة لها. وقام أكثر من مليون مصري بتثبيت تطبيق “قضيتي” (الفلسطينية)، لتحديد الشركات التي يجب مقاطعتها، وهي الظاهرة التي أدت إلى فصل آلاف العمال المصريين.

مراسي السلام في وقت الأزمة

على الرغم من التوترات التي شهدتها العلاقات بين البلدين منذ 7 تشرين الأول، إلا أن التعاون العسكري الوثيق الذي طورته الدولتان على مدى العقد الماضي حول أمن الحدود ومكافحة الإرهاب يسجل لهما حتى خلال الأزمة الحالية. في بداية الحرب، عندما انزلقت النيران الإسرائيلية عن طريق الخطأ إلى مصر، لم يكتف المتحدث باسم الجيش المصري بعدم التعبير عن غضبه، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى تصعيد رد الفعل الشعبي، بل أصدر رسالة متوازنة لتهدئة النفوس.

بينما لم يحصل، على حد علمنا، أي حوار بين قادة الدولتين منذ اندلاع الحرب، فقد وردت تقارير عن قيام وفود أمنية رفيعة المستوى، إسرائيلية ومصرية، بالتنقل بين القدس والقاهرة وقامت بالتنسيق بين الجيشين، في إيجاد آلية لإدخال المساعدات الإنسانية من مصر إلى غزة بعد التفتيش الأمني في إسرائيل، وبالطبع – في الوساطة في صفقات المختطفين. وفي حين تتمتع قطر بتأثير على قيادة حماس في الدوحة، فضلاً عن قوتها المالية والإعلامية، فلا بديل عن مساهمة مصر في جهود تحرير المختطفين نظراً لموقعها الجغرافي، وارتباطاتها المباشرة بالفصائل في غزة ورافعات الضغط الموجود تحت تصرفها. كما أن مصر – على النقيض من قطر – تشترك مع إسرائيل في النفور المبدئي من حماس والنموذج الإسلامي الذي تمثله.

علاوة على ذلك، منحت الحرب القاهرة مكانة سياسية إقليمية رائدة على الساحة الإسرائيلية الفلسطينية، لم تتمتع بها منذ سنوات. وأمام عقد من الركود في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، تضاءل دور مصر كوسيط للسلام، في حين تحدّت أنقرة والدوحة وطهران نفوذها في قطاع غزة من خلال تمويل واستضافة وتدريب نشطاء حماس. وفي ظل هذه الظروف، اكتفت القاهرة بالوساطة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة، والمشاركة في إعادة إعمار القطاع بعد جولات القتال. وتزايد تهميشها الإقليمي بعد “اتفاقيات إبراهيم”، عندما انحرفت دول السلام الجديدة بشكل حاد عن صيغة السلام الباردة التي أملتها. ركزت واشنطن والقدس على توسيع دائرة السلام مع دول السلام الجديدة، وأقل اهتماماً بالدولة العربية الأولى التي مهدت الطريق نحوه. وهذا الواقع يتغير تدريجياً على خلفية الحرب في قطاع غزة، ومن المرجح أن يكون الأمر كذلك أيضاً بالنسبة للترتيبات التي ستتبلور بعدها.

يبدو أنه مع تقدم إسرائيل في المعركة ضد حماس وتهدئة المخاوف المصرية بشأن نقل لاجئي غزة، سيكون لذلك تأثير إيجابي على الخطاب في مصر، ولو بشكل طفيف. وفي شباط، هاجم وزير الخارجية شكري حماس، قائلاً إن المنظمة “خارجة عن الإجماع الفلسطيني”. تعكس هذه الكلمات موقف مصر التاريخي منذ الانقلاب في القطاع عام 2007، ولكنها قد تشير أيضاً إلى اعترافها الأولي بموقف التنظيم الضعيف على الساحة الفلسطينية. إلى ذلك، ميز المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد بين التصريحات القادمة من سياسيين من نهاية الطيف السياسي في إسرائيل والخط الرسمي لحكومتها.

النقطة المضيئة الأخرى هي العلاقات الاقتصادية بين مصر وإسرائيل، خصوصاً في مجال الطاقة، والتي استمرت كالمعتاد حتى أثناء الحرب. وعلى الرغم من التوقف المؤقت في تدفق الغاز من إسرائيل إلى مصر في بداية القتال، سرعان ما عادت العلاقات إلى مسارها، واستمرت خطط توسّعها المستقبلي في آذار. وسجلت واردات الغاز الإسرائيلي إلى مصر زيادة بنسبة 25% في عام 2023، ومن المتوقع أن تزيد في السنوات التالية بشرط توسيع البنية التحتية لنقل الغاز. وعلى الرغم من الدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية، فإن حصة كبيرة من الغاز الذي تعتمد عليه مصر في الطهي واحتياجات الكهرباء – حتى خلال شهر رمضان الأخير – تتدفق من إسرائيل، لصالح الجانبين.

توصيات

تشكل الحرب تذكيراً أساسياً بقيمة السلام ومصلحة الأطراف في الحفاظ عليه. يتعين على مصر أن تخفف من حدة الخطاب المناهض لإسرائيل الذي استخدمته في الأشهر الستة الماضية، والذي كان موجهاً في بعض الأحيان من أعلى. إن مثل هذا الخطاب لا يسهم في جهود إحلال السلام الإقليمي، بل يصب الزيت على النار المشتعلة حالياً في الرأي العام في مصر والدول العربية. كما أن التعبير عن الكراهية ضد إسرائيل واليهود يخدم أجندة الإخوان المسلمين وإيران والمحور الذي يزعزع استقرار المنطقة. إن الموقف المصري المتوازن، الذي يشجب حماس – البادئة بالحرب – على أفعالها، ويشير في الوقت نفسه إلى الأخطاء المتعلقة بسلوك إسرائيل في الماضي والحاضر على الساحة الفلسطينية وفي حربها ضد الإرهاب، سيكون أكثر فائدة وإنصافاً.

إسرائيل مطالبة من جانبها بإبداء حساسية أكبر تجاه هموم مصر ومصالحها في غزة وسيناء، ولاعتبارات الرأي العام أمام أعين قادتها. إن الدخول الإسرائيلي المكثف إلى رفح يجب أن يتم بالتنسيق مع القاهرة وواشنطن، وبعد دراسة البدائل الأخرى. كما أنه من الأفضل لإسرائيل أن تتجنب التصريحات العلنية التي قد تحرج مصر. وعليها أن تفضل الحلول التي سيتم التوصل إليها من خلال حوار هادئ مع القاهرة، حتى لو كان الجيش الإسرائيلي عندما يدخل رفح سيصادف أنفاقاً كانت حماس تستخدمها لتهريب الأسلحة من مصر إلى غزة.

ويمكن لدول الخليج البراغماتية، بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتي لديها مصلحة في إنهاء حكم حماس في غزة وتمهيد الطرق لحل المشكلة الفلسطينية، تقديم المساعدة المالية لمصر في إعادة إعمار غزة والمساهمة في الجهود المبذولة لتشكيل واقع يضمن الاستقرار طويل الأمد في القطاع والساحة الفلسطينية والمنطقة.

يجب على واشنطن أيضاً أن تشجع مصر على اتخاذ موقع قيادي في القضايا الإسرائيلية الفلسطينية وأن تكون لها الأسبقية على الدول المؤيدة للإسلاميين، وخصوصاً تركيا وقطر، المهتمتين ببقاء حماس في قطاع غزة. بل ويمكن لمصر أن تلعب أدواراً في تدريب المسؤولين الحكوميين الفلسطينيين الجدد في غزة ونقل المساعدات الإنسانية إليهم، وفي زيادة الجهود الرامية إلى إحباط التهريب من سيناء إلى غزة، فوق الحدود وتحتها، وفي إعادة تأهيل غزة، وفي استئناف محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وعندما تكون الظروف مهيأة لذلك. كما أن هذه الخطوات من شأنها أن تعزز مكانة مصر الإقليمية واستقرارها الداخلي.

وأخيراً، ستكون العلاقات الإسرائيلية المصرية مربحة إذا تم الترويج لها كجزء من المبادرات الأمريكية لتشجيع التطبيع بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية الأخرى.