فضاءات فكرية

صراعاتُ المنطقة وحروبها والدّور (الوظيفي) الغربي الأمريكي في تأجيجها

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

ولا شك أنه كلام جميل ومنمّق، إذ لا يوجد إنسان عاقل سوي الفطرة والتكوين النفسي يسعى للعنف والصراع، أو يريد إشعال الفتن والاضطرابات.. ولكن هلّا سأل قادة الغرب أنفسهم -وعلى رأسهم قادة الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة الدول السبع الكبار وغيرهم- عن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء تفجر مواقع العنف واشتعال نيرانه في منطقنا بين وقت وآخر؟!..

للأسف إن سياسات الغرب ذاتها تتحمل كامل المسؤولية فقي هذا المجال، لأنه تقوم على التكاذب والنفاق والدفع باتجاه التوتر في المنطقة، وعدم إيجاد حل سلمي عادل وشامل لجذر الأزمة وهو القضية الفلسطينية التي ما زالت تكمن – نتيجة وجود هذا الكيان الإرهابي الغاصب – وراء تفجر كافة حروب المنطقة وصراعاتها.. إضافة إلى تسبب الغرب ذاته في إفقار المنطقة على الرغم من ضخامة ثرواتها ومواردها، حيث تسببت سياساته بحدوث نتائج كارثية، من خلال:

أ-تحطيم آمال شعوبنا الفقيرة والمستضعفة في التحرك لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وكيانها الداخلي غير المرتهن للذات المركزية الغربية التي ما فتئت تعتبر نفسها ذاتاً علية يجب على الكل أن يدور حولها.. ويبدو ذلك واضحاً من خلال تداخل السلوك الاقتصادي مع السلوك السياسي في سياق ما يجري حالياً من إسقاط لكل الحواجز والحدود والخطط والتوجهات الدولية أمام حركة رأس المال دخولاً، وخروجاً، واستثماراً، وانتهاج طريق وحدانية السوق الرأسمالي المتوحش، وفتح السبل والمعابر الدولية كلها أمامه، حتى لو كلف ذلك ارتكاب مجازر دموية أو اشعال حروب وإثارة فتن واضطرابات داخلية هنا، وإسقاط حكومات هناك.

وهذا حقيقةً ما يدعو – بحد ذاته – للاستغراب والاستهجان، باعتبار أنه في اللحظة التي يتحرك فيها العالم نحو التوحد، والاندماج، ووحدة المصائر (بحيث أن ما يحدث في أية بقعة من العالم يمكن أن يؤثر سلباً أو إيجاباً على مجرى الأمور، ويثير على الأقل بعض ردود الأفعال في كل الأماكن الأخرى) يبدو العالم في هذه اللحظة أكثر تمزقاً، وتشتتاً، وانفراطاً، وتصدعاً من أي وقت مضى.

فلم يكن الجنوب أكثر بعداً مما هو عليه الآن عن بلدان الشمال. هناك غنى فاحش في الشمال وفقر مدقع في الجنوب، والآمال تكاد تنهار في كيفية إيجاد حلول ناجعة لا تساع رقعته بين المجتمعات النامية. وهذا الأمر لا يقتصر فقط على المعطى الاقتصادي، بل إنه يطال الجانب والمعطى السياسي أيضاً، حيث نجد حالياً أن مسألة بناء دولة وطنية ذات سيادة، وممثلة للشعب، وضامنة لحرية أفراده، لها سيادتها الكاملة على ممتلكاتها وثرواتها بصورة طبيعية، قد أصبحت أملاً صعب المنال والتحقق. ونكاد نقول بأن وعي معنى مصطلح “المواطنة والمواطنية ” في معظم بلاد الجنوب (ومنها بلداننا في هذه المنطقة) قد تلاشى وزال بالمعنى الواقعي للكلمة، وذلك يعود لأسباب كثيرة جداً بعضها داخلي خاص بطبيعة النظم السياسية المستبدة الحاكمة في تلك البلدان، وبعضها الآخر خارجي يتصل بالآثار السلبية المترتبة على ظاهرة العولمة في إطار إضعافها للدولة، وتفكيك روابط الأمة، وبالتالي إيقاظها للانتماءات (ما قبل وطنية) القبلية والعشائرية الضيقة، ودفعها المجتمع باتجاه التفتت والتفكك، والضياع، والغربة عن الواقع والحياة.

ب- انعدام الأمن والاستقرار والطمأنينة، وسيطرة العقائد العنصرية والمعادية للآخر بالمطلق في العالم، بعد حقبة طويلة من سيطرة الأيديولوجيات العالمية الليبرالية، والقومية، والاشتراكية، إضافة إلى تأكيد التيارات الأصولية الجديدة – سواء كانت دينية أو علمانية – على قضايا الهوية، والذاتية، والعودة نحو العقائد المتزمتة الرافضة لوجود الآخر.

إن ذلك ينطبق تماماً على العنف والعدوان الذي يمارسه الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، في سياق نظامها ” العولمي” بحق الكثير من شعوب وبلدان العالم في فرض هيمنتها وتسلطها عليهم، وزرعها لبذور الشقاق والخلاف بين الجماعات والدول، واستخدامها للأسلحة الفتاكة ضدهم، من أجل الحفاظ على مصالحها ومنافعها السياسية والاقتصادية الكبرى في تلك البلدان، حيث أنها تقف لتدير أزمات العالم ومنها وعلى رأسها أزمة منطقتنا العربية هنا، دون القيام بمبادرات فعالة لحلها ومعالجتها جذرياً وجدياً بصورة حقيقية نهائية..

إنَّ الولاياتَ المتحدة الأمريكية – التي جعلت من نفسها شرطي العالم، وبشّرت بالنظام العالمي الجديد، وبالعولمة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وهي تمتلك الآن أكبر قوة اقتصادية وأضخم ترسانة عسكرية وأمنية وعلمية ومعلوماتية في العالم – تسعى (أكثر من أي وقت مضى) إلى مقاومة كل تيار تحرري استقلالي، وقمع كل نفس ينادي بمقاومة الظلم، ومواجهة الظالمين، والواقع الظالم، ويبحث عن حريته وكرامته في هذا العالم المتصدع، خاصة في موضوع جوهري كالقضية الفلسطينية. فأمريكا هي التي أشعلت نيران حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، وهي المسؤولة بشكل مباشر عن حرب الخليج الثانية، بحكم كونها الجهة المستفيدة والرابحة من النتائج السلبية التي آلت إليها الأمور بعد ذلك.. إنها أمريكا نفسها التي أشهرت سيوف تدخّلها الأرعن وبشكل سافر في كل من العراق ولبنان وأفغانستان، وغرانادا، والسلفادور، ونيكاراغوا، وووغيرها، والتي تغذي حركات المعارضة المتطرفة المرتزقة للقيام بعمليات القتل والاغتيال، وممارسة الإرهاب المنظم هنا وهناك..

إنّ دعم أمريكا (ومعها الغرب كله تقريباً) للكيان الصهيوني الغاصب، ومدّه بالمساعدات العسكرية والمالية والعلمية والتكنولوجية الحديثة، والدفاع عنه –وهو القاتل الظالم الغاصب الإرهابي- من على منصات ومنابر الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها، يكفي أن يكون أكبر دليل على كون أمريكا أكثر الدول رعاية ودعماً للإرهاب المنظم الذي مارسته وما زالت تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهما من بلدان المنطقة، وارتكابها للمذابح التي نصبت للمسلمين في دير ياسين، والحرم الإبراهيمي، وصبرا وشاتيلا، وجبيشت، وسحمر، وقانا، وجنتا، وغزة، وغيرها.. فضلاً عن أعمال القتل والاغتيال التي ارتكبتها بحث كثير من قادة وأركان المقاومة الأبطال في غير مكان من هذا العالم وفي منطقتنا بالذات..

إننا نلاحظ أن سياسات الظلم والعدوان وإشعال الحروب، وارتكاب المجازر والقيام بالعمليات الإرهابية قد زادت مناسيبه وارتفعت مستوياته ووتائره في ظل هذا الواقع الدولي الجديد الذي تشكلت (وتتشكل) فيه الملامح الأولية للعولمة السياسية والاقتصادية.

ومن الطبيعي أن يكون إسناد ودعم رموز هذا النظام الجديد للظلم، ووقوعهم إلى جانب القوى الظالمة – في طول الأرض وعرضه ا– هو القاعدة (النارية) الأساسية التي تدفع الفئات والجماعات المستضعفة والدول المقهورة والمظلومة لممارسة سلوكية المواجهة والثأر والانتقام، واستخدام الطرق والأساليب نفسها التي تنتجها وتمارسها ضدهم أمريكا، وحلفاؤها.. لذلك: ماذا تنتظر هذه الدول (العظمى) من الشعوب البائسة والمغلوبة على أمرها التي تعاني الأمرّين من سياسات أمريكا والغرب خاصة سياسات دعم أصابعها الرجعية في المنطقة؟!. ماذا تنتظر أمريكا -والغرب عموماً- من دول الجنوب الفقيرة التي تفاقمت فيها مشكلات الفقر والجوع والبطالة جراء استمرار استعبادها واستنزاف ثرواتها، ونهب خيراتها ومقدراتها والتلاعب بمواردها الطبيعية، وقيامها (أمريكا) بتسليط مجموعة من الحكام الطغاة عليها، وعملهم الدائم على تنفيذ أوامر البيوت البيضاء والسوداء، واتباع السياسات التي ترسم لهم من قبل أصحاب القرار العالمي حتى لو قضت (تلك السياسات) بتعذيب شعوبهم (من خلال شرائهم لأجهزة التعذيب والدمار والقمع من الدول الكبرى نفسها) ، وسحق إرادتهم، ومسخ ثقافاتهم، وتحجيم دورهم، وإبقائهم تحت نيران الذل والاستبداد بمختلف عناوينه واتجاهاته؟!.

إن ردود أفعال الجماعات والدول التي تحاربها أمريكا، وتشن ضدها حملات سياسية وعسكرية، وحصارات اقتصادية وعلمية – تحت ستار مكافحة الإرهاب، والتبشير بحقوق الإنسان العالمية – ستكون بنفس حجم وقوة الفعل إن لم تكن أكثر، فمن حق الدول المتضرّرة الدفاع عن سيادتها ومصالحها وثرواتها وأمن شعوبها..!!.

فهل تتوقع الولايات المتحدة – ومن لفّ لفّها – مثلاً أن تقدم لهم هذه الشعوب المفقرة المستضعفة، الورود والأزهار والرياحين جراء نهبها لثروتها، وسحقها لكرامات أبنائها، ووقوفها في وجه تحررهم واستقلالهم، ومحاربتها لكل القيم والمثل الإنسانية النبيلة.؟! ماذا تفعل الدول والشعوب بعد أنْ أعطت القوى الكبرى –المتزعمة للسلطة العالمية– إجازة مفتوحة لضميرها وأخلاقها الإنسانية خاصة هنا في منطقتنا العربية حيث القتل والدمار واستمرار الحروب والصراعات وسيل الدماء؟!

طبعاً لن نستغرب لأن من قرأ وراجع “استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الخاصة بالقرن العشرين”، استنتج مسبقاً أنه قرن يتحرك باتجاه مزيد من العنف، واللا استقرار، وانعدام السكينة والطمأنينة بين الناس..!!. والسبب تصادم المصالح وتناقضها، وتغليب القوة على السلم الأهلي والسلام الدولي.

إن تعزيز الأمن القومي الأمريكي – دعم رخاء أمريكا الاقتصادية، وتشجيع الديمقراطية في الخارج (وفق المصالح الأمريكية طبعاً) – يعبر صراحة عن نزعة الهيمنة (والغطرسة) الأمريكية على العالم في كل الميادين. كما وأنها تشكل – في الوقت نفسه – أهدافاً استفزازية لمشاعر الآخرين، وكراماتهم، وحقوقهم. لأن أمريكا لا تتورع عن القيام بأبشع الأفعال إذا كان ذلك يحقق مصالحها، ويزيد مرابحها المادية.

إن ما فعلته وارتكبته (وما زالت تفعله وترتكبه) ضد فلسطين وعموم الدول العربية، يعد استعماراً وإرهاباً دولياً بكل المقاييس.. فجيوشها موجودة في سيناء، وفي منطقة الخليج، وفي سوريا والعراق وتركيا، وفي الأردن ومصر إسرائيل، وفي البحار المحيطة بالمنطقة، وهي تحتل طرق البحار المؤدية إليها.. وتقوم قواتها بتدريب قوات بعض الدول العربية، وتمدّها بالسلاح والعتاد الحربي لتكونَ جاهزةً لأي عمل عسكري في إطار استراتيجية القوات الأمريكية نفسها.. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ ذلك سيدفع الشعوب المقهورة، وجماعاتها، وتياراتها إلى الرد بالمثل وفق إمكاناتها وقدراتها المتاحة أمامها، وبالتالي سيزداد شعور الإنسانية باللا استقرار، واللا أمان، نظراً لازدياد عوامله وبواعثه التي تغذيها وتثيرها الدول الكبرى في هذا الموقع أو ذاك.

نعم، وللأسف، هذه المنطقة العربية من العالم، لم تهدأ ولم تستقر في كثير من مراحلها الزمنية، وأتصور أنه من الصعب جداً الوصول إلى حالة استقرار راسخ ومتين فيها خلال المديات الزمنية الطويلة القادمة، طالما أن التحديات الجمة التي تواجه شعوبها (وعلى رأسها تحدي بناء الذات ووضع منهجية حقيقية صارمة للتغيير على أسس العدالة والكرامة والحرية وبما يعكس مصالح شعوب المنطقة) لا تلقى العناية اللازمة المطلوبة للسير بها، مضافاً إليه انعدام التوافقات وتصادم إرادات القوى المعنية المتدخلة والمتداخلة في منطقتنا العربية هذه.. وللأسف، الملفات كلها متراكبة ومعقدة، وهي تدار إقليمياً ودولياً بعقلية إدارة الأزمة لا حلّ… وهذا ما تفعله وترسخه سياسات الدول الغربية بقيادة أمريكا التي تريد إبقاء أزمات المنطقة متفاقمة ومشكلاتها مشتعلة بلا حل، كي تتفرغ هي لإدارتها وتسيير أشرعتها بحسب رياح مصالحها هي فقط..!!.