أزمة المثقف مع الواقع والمجتمع
بقلم غسان عبد الله
يعيش المثقف حياته على وعي يتناسب مع واقعه الثقافي والمعرفي، ومن منطلق هذا الوعي تنعكس علاقة المثقف بالواقع والمجتمع. أما الواقع فإن الوعي يولد المسؤولية، والمسؤولية تحمّل المثقف عبء التغيير فينطلق المثقف من قاعدة الواقع محاولاً تحليله وفهم إشكالاته ووضع تصوراته للتغيير نحو الأفضل..
وسواء كان المثقف مثالياً أو واقعياً فإن معالجته للواقع وسعيه الحثيث نحو الإصلاح والتغيير ستولّد له صدمةً نتيجة الصدام المستمر مع تركيبة الواقع وما يحمل في طيّاته من ظروفٍ غير قابلةٍ للتطويعِ أو الرفضِ فيبقى المثقف ينافح في كل مرة من أجل أن يخلق الأطر التي تسمح بالتغيير ووضعها تحت الاختبار والإعادة إلى أن ينبثق من ذلك الأمل المستدام بصيصُ نورٍ نحو التجديدِ والتغييرِ فإنْ حَالَفَهُ الحظُّ تمكّن من قطفِ الثمار وإن لم يحالِفْهُ مات وفي نفسه حسرات كثيرة.
هذه هي أزمة المثقف مع الواقع وهي لا تنفك عن أزمته بالمجتمع الذي طالما أَلِفَ الواقعَ وتعايشَ معه فأصبحَ يخافُ التغييرَ ويركنُ إلى الدِّعة.
بل إن البعض بنى علاقاته وأسسها على ذلك الواقع بحيث جعل منه بيئةً خصبةً للربحِ والمكاسبِ، وبينَ الخوفِ والطمعِ تولّدتِ العداوةُ المشتركةُ لدى الكثيرِ من أطيافِ المجتمعِ مع المثقفِ وأصبح المثقفُ يشكِّلُ هاجساً لديهم وتحدياً عندهم فتصرفاتُهُ مريبةٌ ومقاصدهُ تشكل تهديداً مستمراً لا ينفك إلا بموته أو نفيه، خصوصاً إذا حرّك المثقف المياهَ الراكدةَ والتي تسبحُ تحتها المصالحُ المغلفةُ بصِيَغٍ اجتماعيةٍ يُخافُ عليها من الانكشافِ فتُبدي سوءَتَها.
لذلك تمارسُ هذه الفئاتُ من المجتمعِ ضغوطَها على المثقفِ من أجلِ هزيمتِهِ والتثبيطِ من عزيمتِهِ، وربما استخدمتْ كلَّ أساليبِ الضغطِ دونَ مراعاةٍ للمبادئ الأخلاقيةِ والقيمِ الإنسانيةِ في صراعها، كلُّ ذلك من أجلِ تحقيقِ رغبتِها العارمة لخنوعِه وردِّه إلى حظيرةِ المجتمع المستكين.
ومن هذا المنطلق تتولّد لدى المثقفِ نزعةٌ عنيفةٌ نحو الوحدةِ يشعرُ فيها بالاغترابِ والرغبةِ بالعزلةِ عن المجتمعِ لغيابِ من يفهمُهُ أو يتفهّمُهُ فإنْ وَجدَ من يشارِكُه الهمَّ والوعيَ فإنه يشكِّلُ معهم حلقةً اجتماعيةً يتنفّسُ من خلالِها ويصوغُ معها كثيراً من آرائهِ ورؤاهُ الفكريةِ، وربما انطلقَ مع هذه المجموعةِ ببعضِ التجاربِ الحياتيةِ التي تغيّرُ النمطَ السائدَ للواقعِ واعتبرَ تلك التجاربَ نواةً للتغييرِ خصوصاً إذا ما نوقِشَتْ التجربةُ وعُرِفَتْ إيجابياتُها وسلبياتُها وإصلاحُها لتكون تجربةً في الإصلاح والتغيير.
فإنْ لم يجد المثقفُ تلك الثلةَ ممن يشارِكُهُ الوعيَ والمسؤوليةَ والطموحَ فإنه يقعُ فريسةً سهلةً للاغترابِ والشعورِ بالخيباتِ المتتاليةِ فينطلِقُ من الاغترابِ الاجتماعيِّ إلى الغربةِ الذاتية فيصبحُ المثقفُ غريباً وربما يُقْدِمُ على الانتحارِ ليخلِّصَ نفسَهُ المأزومةَ بالحيرةِ والغربةِ والخيبة. فهل يستحقُّ هذا الإنسانُ الطامحُ هذه النتيجةَ المؤلمة؟.