دوليات

أفريقيا تستكمل تحولاتها .. رئيس السنغال الجديد يتعهد بإنهاء التبعية للخارج

بقلم: ابتسام الشامي

لم يكن الرابع والعشرون من آذار 2024 يوماً عادياً في تاريخ السنغال، فإلى حسم السباق الرئاسي من الجولة الأولى في سابقة لم يعهدها تاريخ البلاد الواقعة في غرب أفريقيا، فاز في الانتخابات مرشح المعارضة، بصيرو ديوماي فاي. الشاب ذو الأربعة والأربعين عاماً، كان قد خرج للتو من السجن ليستكمل نضاله السياسي ضد الطبقة الحاكمة التي تميّزت، كما في دول الجوار، في تبعيتها السياسية والاقتصادية وكذلك الثقافية للغرب الاستعماري، ممثلاً بشكل رئيسي بفرنسا.

الانتخابات التي جاءت بعد مناورات شاقة للرئيس السابق ماكي صال لتأجيلها، حصد فيها تأييد 56٪ من أصوات الناخبين، حاسماً النتيجة لمصلحته من الجولة الأولى.

وإذا كان الاستياء الشعبي العارم من الحكم السابق وفساده، وتبعيته الناخب الأول في الانتخابات الرئاسية، فإن خطاب فاي، لامس تطلعات السنغاليين وجذبهم إلى صناديق الاقتراع، ما شكل مفاجأة غير سارة للدولة العميقة، وراعيتها الخارجية على حد سواء.

فخلال حملته الانتخابية، أكْثَرَ من الحديث عن الإصلاح السياسي، مختصراً برنامجه للحكم بشعار “الانقطاع عن الماضي وتبنّي خيار المصالحة الوطنية”، وهما المرتكزان الأساسيان اللذان سيبني عليهما سياسته الداخلية والخارجية. وفي ما يمكن وصفه تماهياً مع التحولات السياسية الجارية في عدد من الدول الافريقية، كان لافتاً للانتباه تبنيه مشروعا لإصلاح “الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا” المعروفة باسم إيكواس، بعدما كادت أن تورط القارة بحروب غير محسوبة النتائج بدفع من المستعمر الفرنسي الذي حثها على التعامل العسكري مع الدول التي شهدت انقلابات خلال الفترة الماضية لاسيما النيجر التي رغبت باريس عبر إيكواس في إعادة تعويم نظام الرئيس المخلوع محمد البازوم.

السنغال: الموقع والدور

عدو المؤسسة كما وصفته صحيفة لوموند الفرنسية، أصبح رئيساً للسنغال، الدولة الإفريقية المعروفة بالتزامها أسس الديمقراطية في عملية الانتقال السياسي، إذ لم تسجل في تاريخها أي انقلاب عسكري، علماً أنها تقع في وسط بيئة سياسية تعج بالانقلابات. تمتد السنغال على مساحة 196 ألفاً و722 كيلومتراً مربعاً، محاطة بكل من موريتانيا من الشمال، ومالي من الشرق، وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وغامبيا من الجنوب، أما من الغرب فيحدّها المحيط الأطلسي. وعلى الرغم من أن الموارد الطبيعية لهذه الدولة محدودة بالثروة البحرية، الصيد البحري والفوسفات والحديد الخام، إلا أن أهميتها تكمن في موقعها الجغرافي، الذي كان مفضلاً للاستعمار الغربي، حيث كانت السنغال من أولى المناطق التي استعمرتها فرنسا في غرب أفريقيا، لتصبح بعد ذلك منطلقاً لجيوشها نحو الدول المجاورة، ثم عاصمة لهذه المستعمرات طيلة عقود. وما بين القرن السادس عشر والتاسع عشر، اشتهرت جزيرة غوري الواقعة قرب العاصمة داكار بكونها بوابة تجارة الرقيق من أفريقيا نحو الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

خطة الرئيس الجديد

الإضاءة على الموقع الجغرافي للسنغال – وما لازمه تاريخياً من استثمار استعماري – في سياق قراءة التحول السياسي الذي عبرت عنه الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يفيد بقوة الصفعة التي تلقتها فرنسا على وجه التحديد، فالرئيس الجديد لم يتأخر في الإعلان عن اتجاهاته السياسية ممثلة بإنهاء التبعية للمستعمر السابق والتأسيس لعلاقات متوازنة معه، وهو ما فهمته باريس بوصفه دعوة لإعادة بناء العلاقات مع داكار على أسس جديدة، تشمل “الاتفاق” على التواجد العسكري الفرنسي في البلاد. وهو ما أشارت إليه صحيفة “لو تيموان” السنغالية، التي ذكرت أن “فرنسا ستقلص وجودها العسكري، الذي يقدر بنحو 500 جندي في السنغال، بشكل كبير في نهاية عام 2024 الجاري”. ونقلت الصحيفة عن مصدر في وزارة الدفاع السنغالية قوله إن “البحرية الفرنسية ستغادر البلاد بحلول نهاية حزيران على أبعد تقدير، على أن يجري الإبقاء على 260 عنصراً فقط، معظمهم من المدربين والخبراء العسكريين”. وبمعزل عن دقة المعلومات التي أوردتها الصحيفة وتجاهلت باريس التعليق عليها نفياً أو تأكيداً، فإن الوجود العسكري الفرنسي في غرب إفريقيا يشهد تصاعداً في مستوى الرفض من شعوب دول تلك المنطقة، الأمر الذي يضع القوات الفرنسية أمام تحديات غير مسبوقة في تلك المنطقة. علماً أن صحيفة “لوموند” الفرنسية، كانت قد ذكرت في وقت سابق أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرر في كانون الأول الماضي “خفض قوات بلاده العسكرية في الغابون والسنغال وساحل العاج بشكل كبير”، مشيرة إلى أن “عملية خفض عدد العسكريين قد بدأت بالفعل في معظم القواعد الفرنسية في هذه البلدان، ولكن من المتوقع أن تتسارع هذا العام”.

مسار التحرر

وتأتي التطورات في السنغال في سياق تحول تعيشه منطقة غرب أفريقيا والساحل، عنوانه العام، التحرر من الاستعمار القديم وثقله السياسي والإداري الذي يحول دون وصول شعوب دول تلك المنطقة إلى حقها في استثمار ثرواتها وقراراها السيادي في علاقاتها الخارجية. وبعد نجاح كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر في طرد القوات الفرنسية والأمريكية، اكتسبت الاندفاعة التحررية قوة أكبر في عموم القارة الأفريقية بما يشكل تهديداً وجودياً للاستعمار الفرنسي التاريخي. في هذا الإطار نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية، مقالة مطولة للصحافي هوارد فرانش بعنوان: هل شارفت “أفريقيا الفرنسية” على نهايتها؟ يشرح فيها ضمن سياق تاريخي واستشرافي، تأثير ما يجري في أفريقيا على “المصالح” الفرنسية، وتحدث الكاتب عن بروز “معالم انتفاضة ضد النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، وهي إحدى المناطق الأفريقية التي كانت الهيمنة الفرنسية فيها أكثر شمولاُ على مدى العقود الماضية”. فقد هاجم زعماء ثلاث دول في هذه المنطقة شبه القاحلة وهي النيجر وبوركينا فاسو ومالي، واحداُ تلو الآخر، النفوذ الفرنسي في منطقة غرب أفريقيا “واتخذوا إجراءات للحد من وجود الجنود والشركات والدبلوماسيين الفرنسيين في بلدانهم أو القضاء عليه”.

ولعل الأمر الأهم الذي يتحدث عنه الكاتب الأمريكي، أن أفريقيا تحولت إلى ساحة صراع على النفوذ، بين الغرب الاستعماري التقليدي وكل من روسيا والصين، مشيراً في هذا السياق، إلى أن الدول الثلاث المذكورة والمصنفة من بين أفقر الدول في العالم، “رحبت في بعض الأحيان باضطلاع روسيا بدور أكبر فيها، سواء في المساعدة على تعزيز أمنها الداخلي أو في استخراج ثرواتها المعدنية مثل الذهب واليورانيوم المدفونين في أراضيها. وفي حالة روسيا فإن هذين الأمرين غالباُ ما يسيران بخطى متوازية”.

وليس تهديد الوجود العسكري على الأراضي الأفريقية، وكذلك مزاحمة روسيا هو التحدي الجدي الوحيد الذي باتت تواجهه فرنسا، في ضوء ما يجري من تحولات في أفريقيا، فبحسب الصحافي الأمريكي هوارد فرانش في الفورين بوليسي، فإن الزعماء الجدد لكل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر ألمحوا “إلى إنهاء التعاون مع فرنسا بشأن السيطرة على تدفق الهجرة الأفريقية شمالاً عبر الصحراء نحو أوروبا. وكانوا يناقشون الخروج من الاتحاد النقدي العريق، منطقة الفرنك الأفريقي، الذي أنشأته قبل الاستقلال في الغالب كوسيلة لدعم الصادرات الفرنسية في المنطقة”. وهي المنطقة الاقتصادية التي يرى معارضوها الأفارقة أن من أهم أهدافها إدامة الهيمنة الفرنسية، من خلال ما تلزم به الدول الأعضاء بإيداع احتياطاتها الأجنبية لدى الخزانة الفرنسية. مشيراً إلى أن” الدول الثلاث تناقش مسألة إنشاء عملة ساحلية جديدة لتحل محل الفرنك الأفريقي”.

خاتمة

مع كل تحول سياسي أفريقي، تبرز فرنسا بوصفها الخاسر الأكبر، وما يجري في القارة السمراء أشبه ما يكون بعدوى تنتقل من دولة إلى أخرى، فتجربة مالي وبوركينا فاسو والنيجر في منطقة الساحل، دغدغت بحسب مجلة فورين بوليسي “خيال ملايين الأفارقة الذين يعيشون في مستعمرات فرنسية سابقة أخرى وخارجها، بما في ذلك الدول الساحلية الأكثر ثراءً التي لم تنقطع علاقاتها الرسمية مع فرنسا بشكل جدي حتى الآن. إلا أن أكثر ما أثار استياء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تزايد خطورة هذا الوضع الذي بدا وكأنه تصفية حسابات”.