كيف نحيا حياتنا؟…..
بقلم غسان عبد الله
ربما في غمرة انشغالنا بالحياة قد يُداهمنا سؤال مخاتل: هل في الحياة ما يكفي أن نحيا من أجله؟ وهل الحياة التي نقترفها بالمسرّات والاشتهاءات والآمال والتطلعات والهوس، تستحق أن ندافع عن وجودنا فيها، ونتمسك بها، ونمارسها مسكونينَ بالأمل والسعادة والحب واللذة؟.
وهل ثمة معنى للحياةِ، حينما تُبكينا وتقسو علينا وتدفعُنا لليأسِ والجمودِ والتراجعِ؟.. وهل علينا أن نحيا في هذه الحياة مرغمينَ بما وجدنا أنفسنا عليه؟.. وما هي الحياة أصلاً إذا كانت لا تكترثُ لوجودنا ولا تلتفتُ إلى حضورنا، ولا تعبأ بما نحن عليه، ولا تهتم بما نحن فيه وبما ننوي فعله، وما يذهبُ منها قد لا يعود إلينا لاحقاً؟.. وهل علينا أن نتمتّع ببراعةٍ فائقة في التعلق بالحياة والتماهي مع تقلباتها وتحولاتها ونزقها الدائم؟.. أم أن الأمر لا يتطلبُ منّا حيال كل ذلك سوى أن ندير لها ظهرنا، ونمضي إلى الغد الذي سيبقى رقماً يتكوّمُ تائهاً في حساب الأمس، ولا نهتمُ تالياً بأنْ نتركَ من ورائنا شيئاً ما أو أثراً ما، ذلك لأن الحياة ربما لا يمكن الاعتماد عليها دائماً؟.
وهل في الحياة ثمة منطق، حينما تسير بنا إلى حيث ما نشتهي ونتمنّى، وتحقق لنا رغباتنا، وتمنحنا كل ما نريد. ولكنها في لحظةٍ فوضويةٍ مجنونة، قد تسرقُ منا كل ذلك، وتخطفُ منّا أجمل ما نملك، وتدعُنا نتحسّر على أشهى ما كان بين أيدينا؟ أليسَ في كل ذلك بعضاً من الغرابة الشديدة واللاجدوى والعبثية؟ كيف تكون الحياة هكذا قريبةٌ منّا وفي متناولنا، وتستطيع أيضاً أن تكون بعيدة عنّا إلى درجةِ إننا لا نستطيع أن نقبض على طرف منها؟ قد تبدو الحياة هكذا، سلسلة من الصدف المتعاقبة والمتلاحقة. بعضٌ من صُدَفِها قد يكون موجعاً حدَّ الألم القاتل، وبعضها الآخر قد يحمل إلينا أجمل الأشياء التي لم نكن نتوقعها، وتفتحُ أمامنا دروباً تتسعُ لحياةٍ جميلة في أعماقنا. وليسَ غريباً أن تتخلقُ بعض صدف الحياة في الفوضى العارمة، فقد ينتجُ عنها ما يستقيم مع رغباتنا واشتهاءاتنا وتمنياتنا، وقد ينتجُ عنها في بعض الأحيان ما يوقعنا في اليأس والضجر والكآبة.
وقد ننفرُ من الحياة، حينما نعجز عن صناعتها كما نشتهي ونتمنّى ونريد، وقد تُبَادِلُنا الغرام والشغف حينما نستطيع أن نصنع منها عالماً من التلوينات والتنويعات والجماليات. وقد تبدأ الحياة عند البعض من حيث إنها انتهت أو أوشكت على الانتهاء.. وقد تنتهي عند البعض الآخر من حيث إنها قد ابتدأت أو أوشكت على الإقلاع.. وفي مطلق الأحوال، الكل ربما يبحثُ عن مبررٍ ما يدفعهُ للإقبال على الحياة أكثر.. وربما حتى أولئك الذين فقدوا الجدوى من الحياة، قد يبقون يبحثون عن مبررٍ ما يدفعهم نحو الاشتغال على ما يمنحهم قدرة التواصل والتخلّق معها.
هل تطلبُ الحياة من الإنسان أن يعرف كيف عليه أن يحيا فيها؟ وكيف عليه أن يتواصل معها جيّداً؟ ربما الحياة لا تطلبُ كل ذلك من الإنسان، ولكنها تدفع به إلى أن يعرف كيف عليهِ أن يصنع من الحياة عالمه الذي يحيا فيه متوافقاً ومتصالحاً مع ذاته وأفكاره ورغباته واشتهاءاته وتمنّياته وانشغالاته، وحتى مع آلامه وخيباته وانكساراته.. وقد يمنحهُ ذلك قدرة دافعة على امتصاص ما قد يعترض طريقه من نتوءات وتعثرات ومنزلقات هنا وهناك. فالأمر يتطلبُ من الإنسان أولاً أن يعرف أن هناكَ قراراً عليه أن يملكهُ وهو بحوزتهِ دائماً، ويملك تبعاً لذلك أن يقرر جيّداً.. مدفوعاً بمخزون خبرته وتجاربه في الحياة من أجل أن يُقدم على عمل جيّد، يجني من وراءهِ ثمرة قراره وعمله. وأن يملكَ الإنسان قراره، قد يعني في الصميم أنه يعرف كيف يريد ومتى يريد وماذا يريد فعلاً… ويريد أن يعرف أنه بصدد أن يفعل ما يريد استناداً على ذاتية قرارهِ الحر.
وهكذا يدخل الإنسان معترك الحياة يتعلّم أن يقرّر ما يريد، مستدعياً في ذلك، الخليط المعرفي الذي يتماوج في أعماقهِ من فكر وحكمةٍ وتجربةٍ وتأمل وتفلسف. وأن يملكَ الإنسان ميزة التفلّسف، يعني أنه قد أصبحَ يعرف كيف يتلّمسُ طريقه، وكيف يجترح الصياغات والتصورات والرؤى التي تفعمهُ قدرة التواصل الإدراكي والواعي مع الحياة، مستعيناً في الوقت ذاته بتأملاته وتساؤلاته وتفكراته وتجاربه وذاكرته المعرفية الإنسانية.
وهل تمنحنا الحياة وقتاً نلتقطُ فيه أنفاسنا قبل أن تمضي سريعاً إلى طريقها، بعيدةً عنّا؟!.. ليسَ دائماً!!.. الحياةُ لا تنتظرُ أحداً، ولا تعود بنا ثانيةً إلى حيث ما نريد.. إنها تمضي.. وما دامت هي كذلك، فهل من المنطق أن نطلبَ منها أن تنتظر وتمنحنا وقتاً كافياً نتريث فيه ونستعيد به ترتيب أنفسنا على نحوٍ يضعها بين أيدينا؟ من البديهي أنه لا يحدث ذلك في المطلق، ولذلك قد نبدو في كثير من الأوقات متأخرينَ عن الحياة.. متأخرينَ عن فهمِها وإدراكها في الوقت المناسب، ومتأخرينَ عن معرفةِ تفاصيلها وإجادة مفرداتها كما يجب.. وفي هذه الحالة، هيَ تمضي بعيدةً عنّا، بينما نحن لا نزال نتخبطُ في دوامةٍ فارغة.
وما يضعنا في هذه الحالة المتأخرة من تعلّم الحياة، هو إننا لا نعرف كيف علينا أن نحياها، وكيف علينا معايشتها والانتصار فيها لذواتنا ولاختياراتنا الحرة وللحظتنا الراهنة. وكيف نجترحُ سُبل التواصل الحميمي معها؟ فهناكَ مَن ينظر إلى الحياة على إنها هيَ ذاتها الحياة الفانية ولا يستدعي الأمر منه الاعتناء بها أو حتى مجرد الالتفات إليها، بل عليه أن ينشغل عنها بالانصراف إلى ما هو أعظمُ منها وأرفع شأناً. وهناكَ مَن يعيشها فقط من خلال الآخرين، وذلك يوفرُ عليه حتماً جهد صناعتها، لأن هناكَ مَن يصنعها ويقررها بدلاً عنّه، ويرتبها له وفقاً لرغباته وأفكاره وأهدافهِ، وليسَ أمامه سوى أن يرفلَ بالراحة والطمأنينة والسلامة، فالحياة لا تستحق منه أن يُجهِدَ نفسه وعقله من أجل معرفتها. وهناكَ مَن يجدها أنها قد انتقلتْ إليه بمحض التوارث، ولا شيء سواه، وعليه أن يتيّقنُ أنه في الأكيد المطلق يتوارثها كما هيَ من أسلافه الصالحين السابقين، وعليه تالياً أن يتوارثها بكامل محتوياتها وأثاثها ومخزوناتها منهم، وإذا لم يتوارثها بهذه الطريقة، فإنه يخونهم ويعتدي على قداسة ونزاهة تاريخه ومنقولاته وتراثه. ومَن يرى أن عليهِ أن يحيا حياته هكذا، لن يتعلّم الحياة، ويتأخّرُ عنها كثيراً، ولا يصلُ لشيء، وتسبقهُ الحياة بمراحلَ كبيرة.. فقط يعيشُ حياته التي لم تكن يوماً بين يديه من الأساس، مستأنساً ومنتشياً ومفاخراً بتكرار غيره وتكرار موروثاته وتراثياته..
أن يعيش الإنسان حياته، ويتعلّم كيف يحياها ويحبّها ويملأها بالسعادة والإشتهاءات والرغبات والنجاحات والتوثبات، ذلك يقتضي منه أن يعيشها بإرادته وبذاته وبعقله وبتفكيره.. حينها يراها جديرةً بالتآلفِ مع سياقاتها وأنساقها المختلفة، وجديرةٌ بجهدهِ وسعيه وحماسه ووقته وتواصلاته.. ويُقدِمُ عليها مسترشداً بالمعرفةِ، وعاشقاً للحكمة، ومُفعماً بشهوة التفلسف فيها، وجريئاً في اجتراح صياغاته الثقافية والفكرية، ومُبادراً في اكتساب الجديد والمغاير من المعرفيات والثقافات.. فهذه الأشياء تمدّهُ بالسعادة الذاتية والانتشاء الذهني والتوهّج العقلي، وتمنحه قدرةً على مواجهة الألم واليأس والتراجع والضجر والتلاشي. إنهُ يصنع لحظته الراهنة بالتفلسفِ فيها صياغةً وطريقةً تتوافق انسجاماً وتصالحاً مع ذاته وخياره وتفكيره، يصنعها في أعماقهِ ومن أدواته وإبداعاتهِ في التفكير والابتكار والتخلّق. ويعملُ على صناعة الأشياء التي يوجدها بالحس التفاعلي الجمالي مع الحياة، ويتناولها بطريقتهِ واشتغالاته في محاكاتها عقلياً وتفكيرياً ونقدياً، ولا يجفلُ لاحقاً من تغييرها أو تطويرها أو حتى تجاوزها، ويصنعُ من ذلك وجوداً واقعياً يضعهُ على قيد الاشتغال به وممارسته بالاشتهاء المعرفي والشغف التفلسفي. إنه يرتاد هذه الحياة كما قرّرها وأحبّها وكما يريد أن يحبّها ويحياها، وكما يشتهي أن تكون هي ذاتها الحياة الحاضرة دائماً في أعماقهِ أبداً، تلهمهُ الشغف والحب والمغامرة والفرح والسعادة والتألق.