فضاءات فكرية

الإسلامُ والغَرب علاقة إشكالية تاريخية وتأزم صدامي متواصل

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

حيث تتصاعد حدّتها حيناً لتهبط حيناً آخر، بحسب طبيعة الملفّات الساخنة الحاضرة بقوة في وقت تفجُّر أي صراع (وعلى أي سبب) بين الكتلتين الحضاريتين الكبيرتين، الإسلام والغرب.. فنحن نتعامل مع الغرب بصورة يومية في كافة مفردات وجودنا، وثقافته ووسائل تفاعلها وتواصلها مع الآخر، لها – هي الأخرى – بالغ الأثر والحضور على الساحة العالمية، نتأثر بها سلباً وإيجاباً، فضلاً عن حضور الغرب الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري التاريخي والمعاصر، في واقعنا وثقافتنا وسلوكنا، نحن الذين نعيش ضمن منطقة غنيّة حضارياً ومادياً، بثرواتها ومواردها.. غنية برأسمالها الرمزي والمعنوي وتراثها الدّيني والحضاري الرّوحي، وغنية بطاقاتها البشرية والطبيعية الهائلة، ما جعلها نقطة جذب وساحة صراع تاريخي دائم؛ الأمر الذي لا بد أن يدفع لضرورة الوعي وحتمية إدراك حقيقة هذه الإشكالية القائمة بيننا وبينهم في الغرب منذ زمن ليس بالقصير، وهي الّتي ما تزال خاضعةً لرؤى واعتبارات ذاتيّة تاريخيّة تؤثّر سلباً على مستقبل الشعوب وتطور البلدان وتنميتها في هذه المنطقة، وتستنزف خيراتها ومواردها (التي من المفترض أن تسهم في دفع عجلة النمو والتطور في بلداننا نحو الأمام لتحقيق رفاهيتها وإسعاد شعوبها) ما يتسبب في أزمات سياسية وهزات أمنية مستمرة.. حتى باتت منطقتنا لا ترتاح من حرب أو صراع عسكري دموي حتى تدخل في آخر، يكون الغرب فيه أحد الأطراف المباشرة أو غير المباشرة، ولنا أن نعيد الذاكرة قليلاً إلى الوراء عدة عقود، لنحصي عدد تلك الحروب الدموية التي اندلعت (وما تزال نيرانها مشتعلة إلى اليوم) في منطقتنا حيث النفط والغاز والثروات والموقع الممتاز والتواجد الجغرافي الحيوي والمميز.. وحتى هذا العدوان الهمجي والبربري الأخير على غزة، لا يخرج كثيراً عن الإطار السابق، إذ أنه بالتوصيف الأساسي هو حيّز أو جزء أو مرحلة من مراحل هذا الصراع المستمر والمتواصل الذي قد تُوكل فيه لإسرائيل مهمة ووظيفة لعب دور جوهري فيه..!!.

نعم، إنه “الصراع الفكري والحضاري” بين الحضارتين، مع بعض التحفظ على آليات المجابهة وعناوين الصراع وطرق معالجة هذا الملف أو هذه الإشكالية القائمة..

وإذا ما أردنا أن نقيّم فعلياً وواقعياً حقيقة “العلاقة بين الغرب والإسلام” بلا شعارات ولا عواطف ولا خلفيّات فكرية ولا قناعات عقدية مسبقة، لنوصّفها موضوعياً بكلمة مقتضبّة دقيقة ومعبّرة، نقول بأنّها ما تزال بالفعل والواقع العملي علاقة إشكالية “صراعية” “تنابذية” بامتياز، مهما تغلّفت (وتأطرتْ) في أروقة الثقافة والمؤتمرات بكلمات فضاضة وعناوين براقة، حيث لم تتمكن كل تلك المؤتمرات واللقاءات الفكرية والتفاعلات والرؤى الحوارية والعلاقات الاقتصادية والسياسية القائمة بين شرقنا وغربهم من التأثير في المضمون الصراعي التاريخي لتلك الإشكالية، فبقيت تثير مزيداً من الشكوك والأسئلة في المستويات الفكرية والمعرفية والحضارية والسياسية والإنسانية..

.. هي – إذاً – علاقة تدافعية، بقي الجزء المخفي والمكبوت (تاريخياً ودينياً منها) مؤثراً بقوة في مسيرة الأحداث والصراعات التاريخية، واستمرت الأسئلة الإشكالية المثارة تاريخياً عن تلك العلاقة باحثةً عن إجابات عملية شافية من قبل الإدارات والمؤسسات السياسية والهيئات والمراكز البحثية، على الرغم من كل مظاهر الحوار واللقاء والاتفاق الشكلية التي جرت طيلة عقود عديدة سابقة، بين نخب ومشاريع سياسية فقط دون تحقُّق الحدود الدنيا المطلوبة للتقارب والتفاعل على مستوى الشعوب (صاحبة المصلحة الحقيقية في أية علاقة متوازنة سلمية بين الأمم والحضارات الإنسانية) التي تعيش ذهنية الصراع الديني والتاريخي منذ قرون طويلة، وتتحدث بلغة “انتصاروية” تاريخانية بعيدة عن منطق الواقع والواقعية السياسية العملية.. ولا تعبأ بالسنن التاريخية، والقوانين والنواميس الكونية الحاكمة على الحياة والإنسان والوجود.

لقد لاحظنا أن الكثير من الساسة والنخب العربية والإٍسلامية المثقَّفة تبني نظرتَها ورؤيتها (العقلانية!!) للغرب بناءً على فكرة الصراع والصدام، وقد جاء ذلك في سياق نقدها لنظريتي “صراع الحضارات” لصموئيل هنتنغتون، و”نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، اللتين انتشرتا وراجتا خلال تسعينيات القرن الماضي (القرن العشرون).. حيث اعتبروا أن غاية نظرية صدام الحضارات (التي تم الترويج لها بصورة أكبر من الترويج لنظرية أو مقولة نهاية التاريخ) هي الحرب على الإسلام، حيث جرى اعتماد وتخصيص مبالغ ضخمة للميزانيات الدفاعية الخاصة بالدول الغربية وعلى رأسها أمريكا.

واليوم حقيقةً نشهد صحة تلك المقولات النظرية التي باتت أمراً واقعاً بشكل أو بآخر، والذي ساعد على ذلك، إضعاف (أو تضعيف) العرب والمسلمين لأنفسهم، ووقوعهم فريسةً سهلة لمصائد تلك الدول، ومؤامراتها، فقد تبنّى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش نظرية هجومية، وشنّ حربين “كونيّتين” على كل أفغانستان والعراق، ولاحقاً تبنّوا فكرة سياسية أخرى كامتداد لنظرية الصراع “الهنتغتونية” هي فكرة وسياسة “الفوضى الخَلّاقة” التي نظّر لها، وتبنّاها (وركّزها في الرأي العام) “لوبي” المحافظون الجُدد (زمن بوش الابن) من أمثال نائب الرئيس الأمريكي السابق “ديك تشيني”، ووزير الدفاع الأمريكي السابق “دونالد رامسفيلد”، وغيرهم من رموز اليمين “الأمريكي- اليهودي” المتشدد… وما يؤكد هذا السلوك والنهج الصدامي الصراعي تصريحات وأفعال كثير من ساسة ومثقفي الغرب ممن يشعرون ويعتقدون أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي -كقطب عالمي مقابل لهم- ليسَ هناكَ من عدو وحيد سوى الإسلام.. وهناكَ من مثقفينا العرب والمسلمين من ربط مضمون الصراع مع الغرب بقضية ظهور المهدي(عج)، شارحاً شروط الظهور، ومقدماته، وواضعاً مجموعة واجبات وتكاليف (شرعية) يجب على المسلم الملتزم اتباعها على طريق المواجهة تلك.

وهي رؤية مركزية استراتيجية تنسجم مع منظومة الاعتقاد الإسلامي الرافضة للظلم والاستعباد ونظريات التفوق العرقي والثقافي والفوقية الحضارية، والمعبّأة بقيم العدل ونشر مبادئ الحق والفضيلة، لجهة أولوية البناء الحضاري الإسلامي المتين والراسخ في مواجهة العقيدة “الفاوستية” الافتراسية للغرب القديم والجديد، عقيدة “المركزية الغربية” التي ترى في “الغرب” مركزاً للحضارة والرقي والتمدّن، وتبرّر له استعمار بقية الشعوب، ونهب ثرواتها وخيراتها، بينما الآخر (غير الغربي) مجرد تابع يدور في فلكها، مستلب الإرادة والتفكير والقدرة على الفعل والعمل.

ولكن ما يؤخذ (أو ما يمكن أن يلقى رواجاً أو يلقى قبولاً) بلغة القناعات والاستراتيجيات، قد لا يؤخذ ولا يُقبل بلغة ومنطق واقع الحياة المتطور والعصر المتغير القائم على مفاهيم ولغة وسلوكية تعاطي وأساليب عمل مختلفة عما سبق.. هي لغة المصالح لا المبادئ، لغة القوة والاستباحة لا لغة التفاهم والسلام والسلم العالمي، أي هي لغة آليات تركيز حركة المنافع المتبادلة، وهيمنة عقلية السوق وسياسة الأخذ والعطاء، يعني سياسة التخديم والاستثمار والبناء “المصلحي” المتبادل.. ونحن كعرب ومسلمين (ما نزال نعيش ونعايش واقعاً صعباً ومأزوماً من التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بسبب هيمنة نظم استبدادية متوحشة طيلة عقود خلت، فسحت المجال لاحقاً لنهوض ونشوء جماعات التكفير والإرهاب الديني بتياراتها وتنظيماتها وانفجاراتها الجهادية السلفية المتعددة) نحتاج إلى هذا الغرب الأقوى والأكثر تقدماً وتطوراً وازدهاراً في مجالات العلم والمعرفة والعلوم الحية والتقنية والبنى التحتية وغيرها، ونحن عندنا مواقع وإمكانات للاستثمار والاستفادة المتبادلة.

ونحن نعرف حقيقة هذا الغرب ذي العقيدة النفعية الذرائعية.. الغرب (وهذه باتت بديهية) الذي لا يهتم بشيء قيمي مبدئي، قدر اهتمامه بما يدخل في جيوبه ومحافظِه المالية في آخر النهار، فلا حقوق إنسان ولا مبادئ سياسية ولا ديمقراطية ولا أخلاق قيمية، ولا من يحزنون.. عقلية الغرب (وفي العمق أيضاً عقليتنا التي لا تختلف كثيراً عن عقليته بغض النظر عن الشعارات المرفوعة) عقلية نفعية استثمارية دنيوية، بِنْتُ زمانها ولحظتها وراهنيتها.. والسياسة العملية المؤثرة تبقى مرتبطة ومتصلة في العمق الواقعي بالاقتصاد والمشروعات المالية، والاستثمارات التنموية والاقتصادية الضخمة، ومشاريع البنى التحتية، فهي اليوم بيضة القبّان، وهي الفصل والحكم في العلاقات بين الدول والقوى والمراكز الحضارية، حتى المتنافرة والمتصارعة تاريخياً فيما بينها.

طبعاً هذا كله، لا يلغي، ولن يلغي، حقيقة الصراع العميق والتاريخي القائم بين الإسلام كدين رسالي دعوي، وبين الغرب (المسيحي) الذي يخاف وبشدة من الإسلام حتى بصيغته أو نسخته التجديدية المعتدلة والعقلانية التي حاول ويحاول كثير من مراجع الدين وأئمة الفكر والمعرفة الإسلامية تقديمها والاجتهاد فيها.

وهذا بات خطّاً واضحاً في الأفكار والسياسات النظرية والعملية منذ انتصار الثورة الإسلامية بصفة خاصة، يحوز على الاهتمام المثير في كل المراكز الاستراتيجية التفكيرية المخططة لسياسات دول الغرب، حيث يلاحظ أن الاهتمام بهذا الموضوع كان وما يزال في أوربا وأمريكا أكثر منه في البلاد العربية والإسلامية.. فعلاوة على ما ينشر في الصحف والمجلات بمختلف اللغات الأوربية، وبصورة متواصلة تكاد تكون يومية، عقدت وتعقد، في مختلف جهات أوروبا وأمريكا، ندوات في الموضوع نفسه، إما بنفس العنوان (الإسلام والغرب) وإما بعناوين مختلفة بعض الشيء. وقد تطور الأمر إلى أن توسّع الكلام –كما قلنا سابقاً- في هذا الموضوع ليندرج تحت ما أسماه “صمويل هنتنغتون” بـ “صراع الحضارات” الذي يعني به، أساساً، الصراع بين الحضارة الغربية، الأوربية الأمريكية، والحضارة الإسلامية (والكونفوشيوسية)، وهو الصراع الذي يتركز عنده على محور “الغرب والإسلام”، ويجعل منه الصراع الرئيس الذي سيسود في المستقبل.

إننا لا نريد هنا الانخراط في هذا النقاش من موقع أيديولوجي صرف أو قومي بحت، ولا من موقع التأريخ، محايداً كان أو غير محايد.. كل ما نريد فعله في هذه المحاولة هو القيام بنوع من التفكيك لهذه العبارة (الغرب والإسلام)، ومقاربتها عملياً، انطلاقاً من رؤية واقعية شاملة.. خاصّة وقد صارتْ اليوم مشحونة بدلالات غامضة تجمع بين قلق الحاضر والخوف من المستقبل، وتستعيد في أحيان كثيرة معطيات ذاكرة تعمرها تصورات حول حوادث تاريخية معينة، تصورات امتزجت فيها الحقيقة بالوهم والواقع بالمتخيل والخوف بالرغبة الخ.

والهدف من عملية التفكيك هو المساهمة في “تحرير” هذا الزوج (الغرب والإسلام) من الأفكار الموروثة والمسبقة، ومن البطانات الوجدانية التي تؤسس العلاقة بينهما في الوعي المعاصر، في بلاد الغرب كما في بلاد الإسلام.

فالغربُ والإسلام يشكّلان كتلتين حضاريتين كبيرتين عدداً وعدةً، وثروات ومواقع إنتاج حضاري ورمزي هائلة وضخمة للغاية.. ورغم ما هو قائم ومتواجد بينهما من تاريخ حافل بالصراعات والحروب، فلا مناصَ بالتالي من اللقاء والتواصل على أسس مشتركة إنسانية حوارية تفاعلية متأصلة، لا تُلغي روح التنافس والسجال، وواقعية حركة التبادلية المصلحية، ولكن تلغي حتماً (أو تخفف على الأقل) مفاهيم وثقافة وسياسات الصراع والعنف وادعاء المركزية الغربية وعقلية الشعور بالتفوق العنصري..!!.