هامش ثقافي

افتحوا النوافذ.. على الآخَر..

بقلم غسان عبد الله

والهزل: حين تكفّ هذه العلاقة عن أن تكون مضموناً، وتصبح أسلوباً فحسب، كما حين نشاهد؛ مثلاً؛ مباراة رياضية استعراضيّة، ساعتئذٍ تنزاح العلاقة من كونها بين فريقين متباريين إلى علاقة بين فريق واحد بلباسين مختلفين وجمهور من المتفرّجين، يتفاعل مع اللعبة تفاعل تسلية وترويح عن النفس.‏

ولقد شاع وتعدّد تعبير “العلاقة من طرف واحد”، فنحن نقول: “الحبّ من طرف واحد” في ذلك الحبّ الذي يورث الحصر والاكتئاب والوهن وآلامَ مستلزمات الحبّ الشقيّ، ومثاله ماثل في كثيرين ممن انتهوا إلى الجنون والموت بعد الإخفاق. انظر “مصارع العشاق”. أما مثاله؛ في هزله؛ فحب كحب جحا لابنة السلطان وعزمه على الزواج منها حيث هو وأمه وأبوه موافقون، فنصف المشكلة محلول، ولم يبق إلاّ أن توافق ابنة السلطان وأمها وأبوها.‏

ونقول، أيضاً: “الحوار من طرف واحد” في ذلك الحوار الذي يعوزه تكافؤ المتحاورين، أو يغيب عنه ممثّل وجهة النظر الأخرى الذي يمثّل حضوره؛ إذا حضر؛ حضورَ الحياة في جدلها الخلاّق.

ومثاله في الحالة الأولى ذلك الصحفيّ الذي يريد أن يحاورك، وهو لا يعرف شيئاً عنك، فهو يريد منك أن تكون سائلاً ومجيباً، ويريد أن يردّك إلى مسودات الخلق الأولى ثنائية الجنس، لتتكاثر؛ أمامه؛ تكاثراً ذاتياً، أو تكاثراً بالانشطار والانقسام كما في حال بعض أنواع الديدان.‏

ومثاله؛ في الحالة الثانية؛ ندوة تقام حول أهميّة الكستناء في فصل الشتاء، يشارك فيها ثلاثة من المفكرين الكستنائيين الذين يتحاورون في فضائل الكستناء وضرورة وجودها للحياة والأحياء مما دبّ على الأرض، وسبح في الماء، وطار في الهواء، مستبعدين المنغصين من المأجورين والعملاء أعداء الكستناء الذين يشكّل حضورهم تعكيراً لما في جوّ الندوة من انسجام وصفاء.. ويخلص هؤلاء المتحاورون إلى نتائج هي مقدماتهم في الأساس، ويشعرون بارتياح عام تلفّه ملاءةٌ من الثناء يسحبونها على بعضهم بعضاً، إذ يصف كلّ منهم الآخر من فرسان هذه الندوة بأنّه كان ذا حجّة غرّاء وهمّة قعساء (ما معنى قعساء؟)‏.. على غرار العلاقة من طرف واحد في الحبّ والحوار واللعب الخ…‏

أريد؛ هنا؛ أن أضيف “الكتابة من طرف واحد”. فما هي الكتابة من طرف واحد؟ ما هي مواصفاتها؟ ومن هم كتّابها؟ وأين هي من عالم الكتابة اليوم؟‏

استئناساً بأنماط العلاقة؛ على اختلاف متعلقاتها؛ أقول: إنّ الكتابة من طرف واحد هي تلك الكتابة التي يدور مضمونها في إطار موجبات هذا المضمون من المصادر والمراجع والهوامش والتصوّر، غير مكترث بما يقترحه النقيض من اختلاف ليكون هذا المضمون حيّاً في مجال من الثنائيات التي تنفي وتثبت، وتؤكد وتدحض، وتهدم وتبني، وتأخذ وتعطي..

فهي كتابةُ داخلٍ مغلق، لا يعترف بخارج.. داخلٍ كتوم ومعزول ولا تمتلك عناصره أية فرصة للمداخلة أو التقاطع مع الخارج الذي يوصف بأنه شرٌّ مطلق، لا يُقارب، أو يعتبر؛ على طريقة رأس النعامة والرمل؛ غير موجود.‏

أما مواصفات الكتابة من طرف واحد فهي التكرار والاجترار والجمود والانغلاق وحذف الاجتهاد وتغليب النقل على العقل والافتقار إلى جهة الخطاب التي لا بدّ لها من آخر لتكون “خطاباً” لا “خطابة”..‏

إنها، أي الكتابة من طرف واحد، غناء في حمّام، وممارسة للنوم في سرير انفرادي، وإحكام لإغلاق نوافذ المقولات والشعارات حتى تسمّم الهواء والموت!!… وهي؛ قبل ذلك؛ كتابة منتهية مدّة صلاحيتها على الأقلّ.‏

أما كُتَّاب هذه الكتابة من طرف واحد فهم كتَّابٌ يثابرون على إعادة إنتاج ما سبق إنتاجه، غير آبهين بالزمن الذي يفتّت الجبال، ويوهن الأنهار، ويقصف الأعمار، وهم بعد ذلك أصحاب هوى غير محدود في الخلط بين حكم القيمة وحكم الوجود، يوجههم جهلُ بما هو كائن أو انتهاز لوضع آسن.‏

ترى ما قيمة الكتابة من طرف واحد؟ وما مصيرها؟ وما مصير واقع يفرزها؟ أسئلة الإجابة عنها مُرَّة جداً في زمن سريع وعميق في تحوّلاته، وكل لحظة هو في شأن، ينهض على حراك صاهر دامج، ثوابته هي المتغيِّرات.‏

افتحوا النوافذ كما قال (لوركا).. لأنّ فتحها على ما كان يرى (طاغور) صار غير ممكن.‏