الحرب على غزة في عامها الأول.. الكيان المؤقت فشل في تحقيق الأهداف، والتداعيات تهز مجتمعه
بقلم ابتسام الشامي
عام ثقيل من الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، نجح فيه العدو في القتل والتدمير الممنهج وارتكاب المحرمات، لكنه لم ينجح في تحقيق الأهداف المعلنة، فالمقاومة التي أراد القضاء عليها وشطبها من المعادلة السياسية، لم تصمد محتفظة بأسراه فحسب، وإنما حالت دون تحويل إنجازاته التكتيكية إلى انتصارات استراتيجية.
حلت الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى البطولية، والعدو الإسرائيلي الذي اتخذها ذريعة لحرب عدوانية شاملة على قطاع غزة بأهداف كامنة في مشروعه التوسعي في المنطقة لا يزال يدور في حلقة مفرغة من النار والدمار، تصيبه كما تصيب أعداءه، وإن بنسب ومستويات مختلفة لا يستقيم قياسها بميزان واحد بالنظر إلى فارق القوة والقدرة بين طرفي الحرب. والعدو إذ يتوسّع في عدوانه اتجاه لبنان، فإن خطر الحرب الإقليمية يتصاعد، ومعه يتصاعد التحدي الأمني للكيان المؤقت في جبهات متعددة، من دون ان ينجح في اسكات التهديد الذي أطلق شرارة الحرب وغير مسار المنطقة.
وبما أن الحرب تقاس بمدى تحقيق أهدافها وليس بما خلفته من خسائر في البشر والحجر على فداحتها وعظمها، فإن مرور عام على الحرب العدوانية على قطاع غزة، يتحدث عن نفسه من هذه الزاوية. فبعد عام من الحرب القاسية على القطاع المحاصر ذي المساحة الجغرافية المحدودة، لا تزال المقاومة حاضرة بثقلها في الميدان، تناور وتقاتل وتكمن لجنود العدو وآلياته عالية التحصين والتدريع، وبعد عام كامل من الحرب لا تزال حماس في واجهة المشهد السياسي في القطاع، تعيد ترميم قدراتها العسكرية وبناء ما أمكنها من سلطة محلية وإدارية، ومعها الأسرى الإسرائيليين الذين فشلت استخبارات العدو في تحديد أمكنتهم والوصول إليهم وتحريرهم.
تداعيات العدوان على الكيان
على أن تل أبيب لم تفشل في تحقيق أهداف حربها فحسب، بل إن نتائج عام من العدوان جاءت معاكسة تماماً لما خططت له، لاسيما عندما يتعلق الأمر بهدف القضاء على حركة حماس. وفي هذا الإطار، تلاحظ صحيفة واشنطن بوست أنه “بعد مرور عام على بدء الحرب التي يمثل القضاء على حماس أحد أهدافها الرئيسة، ها هي أجزاء من الحركة راسخة في مواقعها” في قطاع غزة. وتضيف الصحيفة نقلاً عن مسؤولين من حماس قابلتهم، أن “رئيس المكتب السياسي للحركة، يحيى السنوار، لم ينجُ فحسب بعد مرور عام على طوفان الأقصى بل إنه يضع أيضاً الأساس لإعادة ظهور المجموعة”. وتؤكد الصحيفة الأمريكية أن حماس “تركز بلا هوادة على تحقيق الاكتفاء الذاتي بما يشمل القدرة على إنتاج الأسلحة والمتفجرات الخاصة بها، وتنفيذ عمليات معقدة تشمل الآلاف من المشاركين، مع الحفاظ على السرية التامة”.
ووفقاً للصحيفة ذاتها فإن حماس “أنفقت سنوات في إتقان آلة حرب قادرة على تصنيع ذخائرها الخاصة، وتنفيذ العمليات من دون موافقة خارجية، أو معرفة حتى، ثم السماح لمقاتليها بالاختفاء داخل متاهة معقدة تحت الأرض، مع إدراكها قدرة إسرائيل على قطع غزة عن العالم”. وفي ما يتعلق بقدرة حماس التسليحية، تشير صحيفة واشنطن بوست إلى أن محققي الجيش الإسرائيلي، اكتشفوا “أن الحركة كانت تصنع صواريخ جديدة في مصانع ضخمة تحت الأرض”. في حين أن هؤلاء المحققين أنفسهم “لم يجدوا مصانع ضخمة لتجميع الصواريخ والقذائف على نطاق واسع، بل وجدوا في الغالب ورش عمل صغيرة، يقوم فيها عمال المعادن باستخدام مخارط بسيطة، في تحويل الأنابيب والمواد الكيميائية الزراعية إلى مكونات للقذائف المتفجرة”.
حماس تعيد بناء قوتها
على أن أعظم إنجازات حماس بتقدير صحيفة واشنطن بوست لم تكن تصنيع قدراتها الصاروخية فحسب، وإنما في الاساس إنجازها الهندسي، المتمثل في أنفاق عزة التي شكلت المفاجأة الأكبر. وتصف الصحيفة في هذا الإطار الأنفاق بأنها “أعظم إنجازات حماس الهندسية، وهي مفتاح بقائها بالنسبة للسنوار”. وعلى الرغم من أن القوات الإسرائيلية تضيف الصحيفة الأمريكية، “كانت على علم، منذ فترة طويلة، بالتهديد الذي تشكله الأنفاق، إلا أن “حجمها وتعقيدها فاجأ الجميع، بما في ذلك أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ونظيراتها في الولايات المتحدة”.
وتنقل “واشنطن بوست” عن مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين تأكيدهم أن أنفاق غزة “كانت المفاجأة الأكبر”، إذ إن حجم ومدى وتعقيد “مترو” غزة، كما أصطلح على تسميته، “تجاوز التقديرات الإسرائيلية إلى حد كبير”.
وتنقل الصحيفة عن دانا سترول وهي نائبة مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط، خلال السنوات الـ 3 الأولى من إدارة الرئيس الحالي جو بايدن قولها إن “أحداً لم يستوعب مدى اتساع الأنفاق، أو أن هناك العديد من أنواع الأنفاق المختلفة”، وبحسب سترول فإن “محاربة عدو قادر على التحرك أفقياً وعمودياً، عبر ساحة معركة تقع في منطقة حضرية مكتظة بالسكان، تشكل تحدياً عسكرياً هائلاً”. وإذ تشير صحيفة واشنطن بوست إلى أن قدرات حماس وتكتيكاتها العسكرية بعيدة كل البعد عن التفكير التقليدي الذي كان سائداً بشأنها، قبل السابع من أكتوبر”، تقر بأن لدى حماس القدرة على إعادة بناء نفسها، في قطاع غزة، أو أي مكان آخر”.
وعلى صلة بقدرة حماس على ترميم نفسها بمستويات مختلفة بعد عام من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يقارن الصحافي البريطاني ديفيد هيرست، بين استراتيجيتي رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ورئيس حركة حماس يحيى السنوار. ويعتقد هيرست في مقاله في موقع “ميدل إيست آي” أن استراتيجية نتنياهو تتمثل في 4 أهداف: إعادة الرهائن، وسحق كل مجموعات المقاومة في فلسطين ولبنان، وإنهاء برنامج إيران النووي، وإضعاف محور المقاومة وإعادة تنظيم المنطقة بحيث تكون “إسرائيل” هي المهيمنة. فيما تتلخص استراتيجية السنوار في هدفين، استقاهما هيرست من خطابين كان قد ألقاهما في العام الذي عملية طوفان الاقصى. في أحدهما قال السنوار إن “تصعيد المقاومة بكل أشكالها وجعل الاحتلال يدفع فاتورة الاحتلال والاستيطان هو السبيل الوحيد لتخليص شعبنا وتحقيق غاياته في التحرير والعودة”. وفي الثاني قال: “إما أن نجبر إسرائيل على تطبيق القانون الدولي، وعلى احترام القرارات الدولية، أي الانسحاب من الضفة الغربية والقدس، وتفكيك المستوطنات، وإطلاق سراح الأسرى وعودة اللاجئين.. أو أننا، نحن والعالم، سنجبرها على عمل هذه الأشياء وإنجاز إقامة الدولة الفلسطينية في المناطق المحتلة، بما في ذلك القدس، أو أننا سنجعل دولة الاحتلال في حالة من التناقض مع الإرادة الدولية بأسرها، وبذلك نعزلها بقوة وبشدة، ونضع حداً لحالة اندماجها داخل المنطقة وفي العالم كله”. ويخلص هيرست في نهاية مقاله إلى أنه يبدو أن استراتيجية السنوار هي التي تنجح. وسواء عاش أو مات، فقد بات لتلك الأجندة زخمها الخاص، والذي لا قبل لأحد بوقفه.
لا ثقة للإسرائيليين بقيادتهم
عام الحرب على غزة حيث فشل العدو في القضاء على حركة حماس، أنتج في سياقه تداعيات خطيرة على الكيان، وهو ما يقر به العدو نفسه فضلاً عن حلفائه وداعميه. في هذا الإطار تقول صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إن عملية طوفان الاقصى حطمت ثقة الإسرائيليين بكيانهم، وأن الحرب التي أعقبتها أدت إلى تعميق الانقسامات الداخلية، وذلك بسبب فشل آلة الحرب في تحقيق أهدافها. ووفقاً للصحيفة فإن “الهدف الذي أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بتدمير حماس لا يزال بعيد المنال، حتى مع الدمار الذي لحق بقطاع غزة”. وإذ شددت على أن العديد من “الإسرائيليين يريدون الحصول على إجابات عن سبب غياب الحكومة إلى هذا الحد، لفتت إلى أن هذا بالضبط سبب “الانهيار الذي حطم الاعتقاد السائد بأنها ستكون موجودة دائماً لحمايتهم”. مشيرة إلى “أن “الإسرائيليين يشعرون بأن حكومتهم تخلت عنهم”. على الرغم من الانقسام العميق في أوساط الاسرائيليين على أسس أيديولوجية وإثنية ودينية وعلمانية، إلا أنهم بعد عام من الحرب “يتفقون إلى حد كبير على شيء واحد: ضعف ثقتهم في زعمائهم السياسيين”. وترى نيويورك تايمز في مقابلتها لمناسبة مرور عام على الحرب العدوانية الاسرائيلية على قطاع غزة، أن “الفشل في إعادة الأسرى أدى إلى تمزيق عقد المسؤولية المتبادلة، وهو أحد ركائز الحركة الصهيونية التي تقول إنّ اليهود لديهم التزام مشترك بدعم ورعاية بعضهم البعض”. ونتيجة لذلك توجد “مخاوف بشأن هجرة الأدمغة الهادئة، فقد تضاعفت الهجرة ثلاث مرات عام 2023 مقارنة بعام 2021، وعادت نسبة أصغر من المسافرين الإسرائيليين العام الماضي”.
الكيان المعزول
تزعزع ثقة الإسرائيليين بحكومتهم ومؤسسات كيانهم لاسيما السياسية منها والعسكرية، ليست النتيجة الوحيدة الخطيرة لتداعيات العدوان على الكيان المؤقت، وإنما هناك ما هو أخطر بتقدير صحيفة الغارديان البريطانية. وتحت عنوان “لقد قيل لإسرائيل إنها ليست وحدها، لكن عاماً من الحرب جعلها معزولة”، يستذكر محرر الشؤون الدبلوماسية في الصحيفة، مقولة لأول رئيس وزراء إسرائيلي ديفيد بن غوريون قال فيها ذات مرة: “إن مستقبلنا لا يعتمد على ما سيقوله غير اليهود، بل على ما سيفعله اليهود”، موضحاً “أن حجة بن غوريون كانت أن اليهود لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الآخرين كما كان الحال منذ 2000 عام، بل أصبحوا بدلاً من ذلك مستقلين، ويعتمدون على أنفسهم، وهم من يحددون مصيرهم”. لكن اليوم، يضيف الكاتب، أنه في مواجهة “إسرائيل” للعزلة الدبلوماسية المتزايدة بسبب حربها في غزة، اكتسبت مقولة بن غوريون قوة متجددة لدى العديد من الإسرائيليين، ومن بينهم وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي استشهد بها عند صدور حكم محكمة العدل الدولية بوقف العملية العسكرية في مدينة رفح بجنوب غزة. وينقل الكاتب عن مسؤول في وزارة الخارجية البريطانية قوله “إن الجيش الإسرائيلي لا يهتم بما يعتقده الناس عنه. هذه دولة أمنية. إنه لا يريد أن يكون محبوباً. إنه يريد أن يكون موضع خوف واحترام. وقد بدا ذلك واضحاً الأيام الأخيرة مع تصفية إسرائيل عدداً من قياديي حزب الله، والتي يصورها الآن بنيامين نتنياهو كجزء من هدف معلن حديثاً لتغيير توازن القوى في المنطقة لسنوات”. ومع ذلك، يوضح الكاتب أن العديد من الإسرائيليين يعترفون، بعدم الارتياح. لأنهم لا يسمعون من نتنياهو أي نهاية واقعية باستثناء المزيد من الصراع ويعترفون بأنهم أصيبوا بصدمة بسبب السرعة التي فقدت بها إسرائيل التعاطف العالمي، والعواقب المترتبة على ذلك على مستقبل كيانهم.
خاتمة
في ذكرى عملية طوفان الاقصى، الحرب على غزة التي انطلق العدو في مسار للقضاء على المقاومة فيها، تطوق نتائجها الكيان المؤقت وتستولد معها تحديات اضافية تنطوي على تهديدات وجودية لاسيما إذا ما اتسعت دائرة النار الاسرائيلية لتشمل دول جبهة المقاومة.