حذار، المفهوم الجديد – من الغطرسة إلى الضائقة
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
المفهوم الذي تحطم في 7 تشرين الأول كان مفهوم غطرسة، ومع تحطمه انكشف ضعف إسرائيل أمام حلقة النار الإيرانية ونشأت ضائقات مرتبطة مباشرة بالحرب: مشكلة المختطفين في غزة، واستنزاف الجيش. القوى، وتزايد التشاؤم الشعبي، وتزايد التكلفة الاقتصادية للحرب، وانهيار الشرعية الدولية، وعدم وجود حلول لمشكلة النازحين من مستوطنات الشمال وضد حزب الله، والتقدم السريع لإيران إلى مكانة دولة العتبة النووية. وأمام كل ذلك، يبرز مفهوم الضائقة، الذي يتشكل حوله الإجماع، وعلامات الاستفهام التي تنحى جانباً أو تتم تنحيتها. وفي هذه المقالة، يتم فحص تناقضات وإخفاقات المفهوم الجديد.
المفهوم الذي تحطم في 7 تشرين الأول كان، كما في عام 1973، مفهوم الغطرسة: إسرائيل لديها تفوق عسكري وتغلغل استخباراتي عميق في المنطقة، وحماس يتم إضعافها وردعها، والحرب البينية تحقق هدفها بشكل رئيسي ضد إيران وحزب الله . مع تحطما المفهوم، انكشف ضعف إسرائيل أمام حلقة النار الإيرانية، والتي ليس لديها أجوبة جيدة امامها، أضف إلى ذلك المصاعب الشديدة المرتبطة بالحرب: مشكلة المختطفين في غزة، واستنزاف القوات العسكرية، وتزايد التشاؤم الشعبي، وارتفاع التكلفة الاقتصادية للحرب، وانهيار الشرعية الدولية، وعدم وجود حلول لمشكلة النازحين من مستوطنات الشمال وضد حزب الله، والتقدم السريع لإيران إلى مكانة دولة العتبة النووية.
أمام كل هذا، يبرز مفهوم جديد، يتقاسمه كثيرون، ومنهم من كانوا شركاء بدرجة أو بأخرى في سابقه – من مفهوم الغطرسة إلى مفهوم الضائقة وكما هو الحال مع أي مفهوم، يتشكل حوله إجماع سريع بين المفسرين، ويتم دفع علامات الاستفهام جانباً أو قمعها . هذا هو الوقت المناسب لإطلاق التحذير وتعويم النقاط العمياء والتناقضات والإخفاقات المتجسدة في الاجماع الوطني المتبلور.
وهذه هي المنطلقات الأساسية للمفهوم الجديد:
- هناك حاجة الآن إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة، وفي كل الأحوال فإننا قريبون من استنفاد ما يمكن تحقيقه من خلال تدمير البنية التحتية لحماس .
- ينبغي وضع اتفاق عودة المختطفين في المقدمة الآن
- يمكننا دائمًا استئناف الحرب بعد ذلك
- يجب إدخال قوات عربية ودولية إلى غزة بدلاً من قوات الجيش الإسرائيلي
- بدون وقف الحرب في غزة، لن يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار في الشمال والتسوية السياسية لإزالة حزب الله من الحدود
- إن التطبيع مع المملكة العربية السعودية والتسوية الإقليمية بقيادة الولايات المتحدة سيمكن من التركيز على التعامل مع إيران ووكلائها والتهديد النووي
مقابل كل هذه سيتم التأكيد على :
من غير المرجح أن توافق حماس على اقل من وقف كامل للحرب وانسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة بضمانات دولية. هناك من لم يستوعب هذا الواقع بشكل كامل بعد، وهناك من استوعبه بالفعل. ويبدو أن البعض توصل إلى نتيجة مفادها أنه لا يوجد خيار سوى قبول مطالبها.
بعد انسحاب إسرائيل من القطاع، تجدد حماس سيطرتها المدنية وقدراتها العسكرية في القطاع بسرعة البرق – ليس على الفور بمستوى 7 تشرين الأول، ولكن بمستوى عالٍ بما فيه الكفاية . لا يوجد نقص في الشباب في القطاع، وسيتم فتح وترميم الاختناقات في شبكة الأنفاق، وسيعاد فتح ورش تصنيع الصواريخ، وفي منطقة فيلادلفيا التي تم إخلاؤها، سيتم استئناف أنشطة التهريب بتوجيه من إيران . إن الأمر الذي أصبح على المحك ليس ما سوف يتم إنجازه في غزة، كما يتساءل البعض، بل الإنجاز الأكثر أهمية الذي تم تحقيقه بالفعل: تفكيك البنية التحتية العسكرية الضخمة شبه الحكومية التابعة لحماس . ويجب عدم السماح بإعادة إنشائها .
إسرائيل ستفتقد الشرعية الدولية لتجديد الحرب، وحتى هي نفسها لن تكرر العملية من البداية بعد أن بذلت قصارى جهدها وفشلت وخرجت من قطاع غزة. كما أن الغارات الموجهة إلى غزة ستترتب عليها تكاليف باهظة للغاية بعد السماح لحماس بإعادة ترسيخ صفوفها. ولا ينبغي الافتراض أن القوات الدولية والعربية ستأخذ على عاتقها الدخول إلى فراش المريض في غزة، وإذا فعلت ذلك فإن مصيرها سيكون ما بين مصير قوات المارينز في بيروت عام 1982 وقوة الأمم المتحدة العاجزة على حدود لبنان. إنهم لن يقاتلوا حماس، ووجودهم لن يؤدي إلا إلى منع الجيش الإسرائيلي من القيام بذلك. أما السلطة الفلسطينية فهي عاجزة بنفس القدر، ومن المزايا المهمة التي تتمتع بها هي أن غزة سيكون لها عنوان مدني غير إسرائيل، وأن حرية إسرائيل في العمل العسكري سوف تظل محفوظة كما هي الحال في الضفة الغربية. السلطة الفلسطينية هي الأقل سوءا كبديل لحكم حماس في القطاع، وبالتالي الحل المنشود لإسرائيل – إذا وافقت السلطة الفلسطينية على دخول القطاع أصلا، وهو أمر بعيد كل البعد عن اليقين.
وفي مقابل إطلاق سراح المختطفين، الذين ربما بقي نصفهم على قيد الحياة من بين 120 مختطفاً، فإن حماس ستطالب بإطلاق سراح كافة السجناء الفلسطينيين المسجونين في إسرائيل ـ الكل مقابل الكل. ويتعلق الأمر بأكثر من 10 آلاف شخص، بما في ذلك منفذي مجازر 7 تشرين الأول والأسرى الذين تم أسرهم في قطاع غزة منذ ذلك الحين، الإرهابيون المدربون الذين سيعززوا تشكيلات حماس في غزة.
هذا النطاق المتوقع من اطلاق السراح صعب على التصور. إن مئات الحافلات العائدة التي تحمل الإرهابيين المهللين سوف تستقبل بالابتهاج من جانب الجماهير في العالم العربي، التي ستحتفل بسعادة غامرة بانتصار حماس، وبقائها وعودتها في مواجهة الفشل الإسرائيلي . الساحة الفلسطينية ستصبح كلها حماس. وكما تظهر استطلاعات الرأي العام الفلسطيني فإن صور الدمار في القطاع لن تغير ذلك. لقد أصبحوا رمزا للتضحية والبطولة الفلسطينية في الطريق الى النصر. ولا مجال للأوهام في هذا أيضًا. حماس ستطيل عملية تبادل الأسرى على مدى أشهر عديدة، وستقف عند كل إشارة وفاصلة من مطالبها، وستجر إسرائيل من اهانة إلى اهانة ، وكأنها شعرت أن أوراق هذه اللعبة أصبحت في يديها .
إن أموال المساعدات الدولية التي ستتدفق إلى غزة ستخصصها حماس لتلبية احتياجاتها وستستخدم لتعزيزها. ولن يكون هناك أي تغيير في هذا أيضا.
وقف إطلاق النار في الشمال مع انتهاء الحرب في قطاع غزة أمر ممكن ومتوقع، لكن لا يبدو أن هناك أي فرصة لـ”تسوية سياسية” برعاية أميركية تؤدي إلى انسحاب حزب الله من جنوب لبنان إلى شمال الليطاني . بل على العكس من ذلك، يمكن القول بشبه يقين أنه بعد وقف إطلاق النار، سيعود حزب الله وينتشر بالقرب من الحدود. يجب ألا نخدع أنفسنا.
إن التطبيع مع المملكة العربية السعودية و”التحالف الإقليمي” الذي ترعاه الولايات المتحدة في مواجهة إيران سيكون إنجازاً كبيراً ومرغوباً للغاية، ولكن هنا أيضاً يجب على المرء أن يميز بين مزاياه وقيوده . أولاً، ما سيُنظر إليه على أنه انتصار ساحق لحماس سيحد بشكل كبير من قدرة الأنظمة في السعودية والأردن ومصر على اتخاذ خطوات التطبيع والتعاون مع إسرائيل في مواجهة الرأي العام لديها . أثبت التحالف الإقليمي غير الرسمي قدراته الدفاعية خلال الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل ليلة 13-14 نيسان 2024. لكنه لسوء الحظ لا يملك قدرات هجومية حقيقية ضد ميليشيات “حلقة النار” الإيرانية في اليمن والعراق وسوريا ولبنان أكثر من الموجود لدى الولايات المتحدة وإسرائيل . والأهم من ذلك، أنه لا يملك أي قدرات هجومية في مواجهة احتمال تحول إيران القريب جداً إلى دولة على عتبة السلاح النووي/دولة نووية غامضة .
إن الفكرة القائلة بأن نهاية الحرب في قطاع غزة ستسمح بمعالجة أكثر فعالية للنووي الإيراني ليس لها أي تأثير على الواقع . ولم تعد إسرائيل تمتلك القدرات الهجومية اللازمة لوقف البرنامج النووي الإيراني في مرحلته الحالية من التطور – هذا إذا كانت تمتلكها على الإطلاق . إن الجهة الوحيدة القادرة على تأخير التسلح النووي الإيراني، إن لم تكن قادرة على ذلك، على الأقل تأخيره، وبالطبع تدمير الاقتصاد الإيراني من الجو كوسيلة لوقف التسلح النووي، هي الولايات المتحدة . لكنها لا تميل إلى القيام بذلك، بغض النظر عن الحرب في غزة . ولن يفعل الرئيس بايدن ذلك حتى الانتخابات الرئاسية، ومن المشكوك فيه إلى حد كبير أن يفعل ذلك إذا فاز . ويبدو أن ترامب أقل ميلاً للقيام بذلك . إن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران،بمبادرة وتأثير من بنيامين نتنياهو، كان خطأ تاريخيا فادحا . تركز أجندة الولايات المتحدة على الصين، ومنذ الحرب في أوكرانيا أيضًا على روسيا . وتتلخص سياستها في محاولة شراء منع تحول إيران إلى سلاح نووي من خلال ضمان الفوائد. ومرة أخرى، لا علاقة لهذا الأمر بالحرب في غزة.
وهنا يطرح السؤال: ما هي البدائل؟ إنها ليست جيدة، وهذا ما أدى إلى ولادة المفهوم الجديد.
لا يجب التخلي عن إنجازات المرحلة القوية في غزة ـ القضاء على القدرة العسكرية شبه الحكومية لحماس وبنيتها التحتية الضخمة ـ تشكل إنجازات بالغة الأهمية، ولا ينبغي الخلط بينها وبين شعار “النصر المطلق” . بعد الانتهاء من مرحلة القوة قريبًا، يجب أن تستمر سياسة “حصاد العشب” في قطاع غزة كما هو مخطط لها من خلال القصف الجوي والغارات المستهدفة – كما هو الحال في الضفة الغربية، بل وأكثر من ذلك بكثير . ومن المؤمل أن يتم القضاء على السنوار وجماعته خلال فترة زمنية معقولة، وأن تحقق إسرائيل أيضاً ما هو ممكن في قضية المختطفين المؤلمة . ويجب الترحيب بأي اتفاق جزئي ومؤقت لإطلاق سراح المختطفين، وكذلك اقتراح إخلاء السنوار ورجاله من غزة مقابل المختطفين. فرص ذلك تبدو ضئيلة. في الخلفية، في معظم الأحيان، تذهب مسألة الموقف من الحرب وتندمج بقناعة عميقة مع هوية المعسكرات في الصدع السياسي والاجتماعي في إسرائيل؛ وهذا لا يعني أن الحسابات السياسية لا تدخل في الأمر – من جانب نتنياهو، ولكن أيضاً من جانب خصومه. النقاش الدائر حالياً في إسرائيل لا يتناول على الإطلاق معنى عودة حماس إلى السيطرة على غزة، أما انه ينحي ذلك أو ينكره.
ليس لدى إسرائيل إجابات جيدة في لبنان، ولا حتى بعد انتشار قوات إضافية في الشمال بعد انتهاء مرحلة القوة في قطاع غزة . ونظراً لمشكلة المهجرين، فإن هذا الوضع ينذر بالتصعيد بشكل أو بآخر، حتى لو كان غير مرغوب فيه للطرفين. إن التوقف الآن بهدف الاستعداد بشكل أفضل للحرب مع حزب الله خلال سنوات قليلة، كما يقترح البعض، لن يحل المشاكل الأساسية ـ الإقليمية والدولية ـ المرتبطة بالحرب في لبنان. وحزب الله، ومن خلفه إيران، لن يبقوا هادئين البال في السنوات المقبلة.
لا توجد في الأفق علامة على وجود رد فيما يتعلق بالتسلح النووي الإيراني، سواء كان ذلك مرتبطاً بالحرب في غزة أو من دونها . ويجب ان نامل أن يسقط النظام هناك يوماً ما – لا يبدو ذلك قريباً – وذلك قبل أن يتسبب في الكثير من الضرر حوله.
هذه رؤية صعبة، وهي جزء من الصورة الدولية العالمية المظلمة، لكن يجب النظر إلى الواقع بعيون مفتوحة وعدم الوقوع في أوهام جديدة، والارتياح لها، ومن ثم دفع ثمنها . لقد سقطت إسرائيل في حفرة عميقة في 7 تشرين الأول وكما حدث بعد يوم الغفران، سيستغرق الخروج منها سنوات . وبغض النظر عن الاتجاهات المثيرة للقلق، فإن المجتمع الإسرائيلي يتمتع بالعديد من القدرات والصفات المهمة التي يمكن البناء عليها، والأزمات الخطيرة التي يواجهها قد تؤدي إلى تغييرات عميقة ضرورية .
معهد ابحاث الامن القومي – عيزار غات