إقليميات

حين تتحول الضفة الغربية إلى جبهة قتال جديدة

بقلم توفيق المديني

وذلك رداً على عدوان جيش الاحتلال الصهيوني المتعدد الأطراف، الذي اجتاح المدن والبلدات الفلسطينية في شمال الضفة الغربية مخلفاً شهداء ومصابين، فيما تتوالى التحذيرات الإقليمية والدولية من خطورة الوضع في الضفة بسبب “استخدام الجيش الإسرائيلي والمستوطنين عنفاً عشوائياً ضد المدنيين الفلسطينيين”.

وتشكل حرب دولة الاحتلال الصهيونية على مدن الضفة الغربية: جنين وطولكرم وطوباس والخليل بهدف الاستيلاء عليها، تطبيقاً لإستراتيجية الضم الصهيونية القائمة على عقائد إيديولوجية عنصرية إلغائية متطرفة تقودها الحكومة الصهيونية الفاشية بزعامة نتنياهو، وذلك بعدما تحولت حرب الإبادة الجماعية المتواصلة على غزَّة إلى نقطة انهيار بالنسبة للنظام الدولي القائم على الرؤية الأمريكية الأحادية.

ويُعَدُّ هذا العدوان الصهيوني على الضفة الغربية أوسع حملة عسكرية في شمال الضفة، وهو أسوأ من عملية السور الواقي عام 2002، التي نفذت بموجب خطة عسكرية مفصلة كانت قد وضعتها دائرة التخطيط في الجيش الصهيوني عقب المواجهة الدامية بين قوات الاحتلال وبين الشرطة الفلسطينية في شهر سبتمبر 1996، التي قتل فيها مائة رجل شرطة فلسطيني و19 جندياً صهيونياً، والتي وقعت بسبب قرار حكومة نتنياهو وقتذاك بفتح نفق تحت أسوار القدس القديمة.

العدوان على الضفة الغربية

يؤكد المحللون والخبراء من خلال تقاريرهم الواردة من الداخل الفلسطيني أنَّ العدو الصهيوني يستخدم في عدوانه الجديد على الضفة الغربية، قوّاتٍ عسكريةٍ كبيرةٍ، يرافقها قصفٌ جويٌّ من المسيّراتِ والطيرانِ الحربي، وتشمل، في مرحلة أولى، تصفياتٍ جسدية واعتقالات للمقاومين الفلسطينيين، وتدميراً ممنهجاً للبنية التحتيّة، بغرض التقويض التدريجي لأساس الكيان الفلسطيني المُستقبلي، بموازاة تكثيف وتوسيع الاستيطان، وإجبار السكّان على الهجرة. وتصاعدت اعتداءات جيش الاحتلال الصهيوني على الفلسطينيين في الضفة الغربية، فضلا عن هجمات المستوطنين، ما أسفر عن استشهاد 685 فلسطينياً، وإصابة 5700 آخرين، وتنفيذ حملة اعتقالات طالت 10400 آخرين، منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 23 أكتوبر 2023.

يقوم الغزو الصهيوني الجديد لمدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية في ظل الظروف الفلسطينية والعربية والدولية الراهنة:

أولاً: وجود السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس المتمسكة باتفاقيات أوسلو الموقع في واشنطن عام 1993، والتي تحولت بموجبه إلى أداة للاحتلال الصهيوني على مرِّ الـ 21 عاماً لغاية الآن، حيث توظف أكثر من 45 ألف شرطي فلسطيني لمطاردة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتبليغ عن المقاومين الفلسطينيين النشيطين لدى أجهزة العدو الصهيوني العسكرية والاستخباراتية، وقمع السكان المتعاطفين مع المقاومة. إنّ هؤلاء ال 45ألفاً من رجال الشرطة الفلسطينية المسلّحين يمثّلون قوّة إضافيّة لجيش الاحتلال الصهيوني.

كتب الخبير في الشؤون الفلسطينية خالد الجندي أن تقريراً مثيراً نشره في “فورين أفيرز” الأمريكية.. تحت عنوان “سقوط الطاغية محمود عباس” بتاريخ 31 أغسطس 2024، جاء فيه: على الرغم من جهوده لتحقيق اتفاق سلام مع الاحتلال الإسرائيلي، فإن عباس أهمل الوحدة السياسية الداخلية، ما أدى إلى فشله في كلا الجانبين. ويضيف أن “عباس أظهر تناقضاً واضحاً بين قيادته واحتياجات الشعب الفلسطيني، ما ساهم في تدهور شعبيته ووضح دور عباس في الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس، وفشله في تقديم استراتيجية واضحة للتحرر الوطني”.

وتحدث كاتب التقرير عن ازدراء عباس لأي مشروع وحدة سياسية بين الفصائل، معلقاً بأن “من المحير أن يبدي زعيم سياسي، وخصوصاً زعيم غير شعبي مثل عباس، في لحظة من الصدمة الوطنية واليأس الوجودي، مثل هذا الازدراء الصريح لعرض الوحدة الوطنية”.

وتابع: “في كلتا الحالتين، كان رفض عباس المتغطرس للخطة بمثابة تسليط الضوء على سمتين مميزتين لحكمه الذي دام قرابة العشرين عاماً: الانفصال العميق عن شعبه وعدم الرغبة في الترويج لاستراتيجية متماسكة للتحرير الفلسطيني. إذا كان التاريخ المؤلم للفلسطينيين قد علمهم شيئاً، فهو أن أموراً سيئة تحدث لهم عندما لا يكون لديهم زعماء جديرون بالثقة. وهذا هو حال عباس اليوم”. وأضاف: “لقد تحول عباس، الذي كان يُنظَر إليه ذات يوم باعتباره صانع سلام ومصلحاً سياسياً واعداً، إلى حاكم استبدادي ضيق الأفق ومتقلب المزاج، وله سجل حافل بالفشل”.

ثانياً: يجري هذا الغزو الصهيوني للضفة الغربية في ظل النظام الرسمي العربي الاستسلامي، المنقسم بين أنظمة صامتة، وأنظمة متفرّجة، وأنظمة متخاذلة، وأنظمة حليفة ومطبعة مع الكيان الصهيوني، وعلى رأسهم النظام المصري الذي وقع معاهدة كامب ديفيد في واشنطن عام 1979، حيث خرجت مصر أكبر قوة عربية عسكرياً وبشرياً من معادلة الصراع العربي الصهيوني منذ 46 عاماً، وجعلت السلطة فيها، مثلها مثل سلطة أوسلو الفلسطينيّة، تعتمد في بقائها على التنسيق مع الاحتلال الصهيوني والإمبريالية الأمريكية.

ثالثاً: النفاق الدولي الذي تمارسه الإمبريالية الأمريكية المنحازة بإطلاقية للكيان الصهيوني منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على غزّة. ومن المُرجَّح أنّها ستستمرّ في إطلاق المناشدات، ولن تفعل أكثر من ذلك، بل لن تتخلّى عن مساندة “إسرائيل” عسكرياً ومالياً وسياسياً ودبلوماسياً في المحافل الدولية.

وعلى الرغم من أنَّ الإمبريالية الأمريكية دفعت ثمناً باهظاً عسكرياً ومالياً وبشرياً طيلة العقود الماضية، فقد كان دعم الولايات المتحدة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، هو السّبب الرئيس وراء هجمات 11 أيلول/ سبتمبر2001، وكذلك خلال حرب أكتوبر 1973، زمن استخدام الدول العربية حظر النفط، بسبب غضبها من الدعم الأمريكي لإسرائيل في حرب أكتوبر، وكذلك  عقب تفجير مقر المارينز في بيروت 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983، والذي قتل فيه 241 جندياً أمريكياً.

وبحسب صحيفة “هآرتس” الصهيونية عن ضابط دون الكشف عن هويته: “لولا إمداد الأمريكيين للجيش الإسرائيلي بالأسلحة، وخاصة سلاح الجو، لكان من الصعب على إسرائيل أن تستمر في حربها لأكثر من بضعة أشهرٍ”. وتابع الضابط: “يعكف سلاح الجو على صياغة توصية لزيادة إنتاج القنابل والصواريخ والذخائر الأخرى في الداخل، في محاولة لتقليص اعتماده على الدول الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة”.

وأشارت الصحيفة إلى أنه “بموافقة الكونغرس (الأمريكي)، أرسلت إدارة الرئيس جو بايدن مساعدات عسكرية طارئة غير مسبوقة بقيمة 14 مليار دولار، بالإضافة إلى المساعدات العسكرية الأمريكية السنوية المنتظمة البالغة 3.8 مليار دولار”. وتابعت: “أرسلت واشنطن 500 مليون دولار أخرى لأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية: القبة الحديدية، وسهم، ومقلاع داود”.

دفن فكرة الدولة الفلسطينية وضم الضفة

تشكل هذه الحرب الصهيونية الجديدة على الضفة الغربية تنفيذاً عملياً وواقعياً لما يُعْرَفُ بـ “خطة الحسم” التي صاغها وزير المالية الحالي، بتسئليل سموتريتش، عام 2017، لتكون حلقة في تحقيق المشروع الصهيوني الذي يشترط إلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية، ما يعني إعادة السيطرة العسكرية المطلقة على الضفة الغربية، وفرض حكم المستوطنات على السكّان الفلسطينيين، وهو ما يتطلب القضاء على المقاومة، إذ لا يرى سموتريتش أي دور لسلطة فلسطينية، ولا لـ”دولة فلسطينية” مهما كان شكلها.

من وجهة نظر سموتريتش ونتنياهو، كلاههما لا يؤمنان بفكرة حل الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، حتى لو كانت الدولة الفلسطينية “كينونة مجزأة منزوعة السلاح والسيادة”، فهي تمثل خطراً على بقاء الدولة الإسرائيلية المنشودة وتمدّدها. كما يتبنى سموتريتش أهم مرتكزات المشروع الصهيوني الذي قام على نصٍّ صريحٍ يقول بـ “حقّ تقرير المصير في أرض إسرائيل”، بما يشمل الضفّة الغربية، والقضاء على الهوية الفلسطينية والشعب الفلسطيني من خلال عمليات ترويع عسكرية من عصابات المستوطنين.

 فالمشروع الصهيوني، كما يعتقد سموتريتش، وصل إلى مرحلة الحسم، ولذا سمّى رؤيته “خطّة الحسم”، فمن وجهة نظره “الهوية الفلسطينية هي نقيض المشروع الصهيوني. وعليه، لا يوجد مكان “للشعبين” على أرض “إسرائيل”. بتسلئيل سموتريتش، الذي تحدّث فيه عن “خطّة سرية” لضمّ الضفّة الغربية إلى “إسرائيل”، وإجهاض أيّ محاولةٍ لتصبح جزءاً من الدولة الفلسطينية، وجاء ذلك في تسجيل صوتي في يونيو/ حزيران 2024، حصلت عليه صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

مخيم جنين رمز للمقاومة الفلسطينية

الجيش الصهيوني أراد أن يرعب الشعب الفلسطيني بأكمله من خلال عمليات التدمير والقتل التي نفذت وفق مخطط بالغ الدقة في مخيم جنين، عبر القصف المكثف بقذائف الدبابات والصواريخ من طائرات الهليكوبتر. إن آثار جنين المكشوفة على السماء تشهد على إرادة التدمير هذه، وعلى هول الجريمة الصهيونية التي ترتكب على مسمع ومرأى العالم أجمع، ولاسيما العالم الغربي الذي يتشدق أنه الحارس الأمين لقيم حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية.

من الآن وصاعداً بات مخيم اللاجئين الفلسطينيين في جنين مسجلاً على لائحة الجرائم التي طبعت الصراع العربي – الصهيوني، من مجزرة قبية (1953) إلى مجزرة صبرا وشاتيلا (1982)، وحرب الإبادة الجماعية في غزَّة، والقاسم المشترك بينها كلها هو الإرهابي آرييل شارون، والفاشي بنيامين نتنياهو. ومقابل هذا المشهد المرعب الذي يفوق الوصف في بشاعته، هناك المقاتلون الفلسطينيون المسلحون ببنادق الكلاشينكوف والمتفجرات الذين تجمعوا ليواجهوا أحد أحدث الجيوش في العالم. وكانت المعركة عنيفة وغير متكافئة ولا تزال قائمة، مني فيها الفلسطينيون بخسائر فادحة، لكنَّهم سجلوا أروع مقاومة عربية قل نظيرها نوعية تسجل في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني. فعنوان جنين المقاومة والشهادة في سبيل تحرير فلسطين.

شكلت جنين ملحمة جديدة للمقاومة العربية، إضافة إلى صمود المقاومة الفلسطينية في غزة، وملحمة المقاومة في جنوب لبنان التي استطاعت أن تلحق بالعدو الصهيوني أول هزيمة نكراء، وأن تبدّد الصورة التي لازمت الكيان الصهيوني في الذهنية العربية، كياناً منيعاً يعصى على الاختراق أو الهزيمة.

خاتمة: إقامة دولة المستوطنين في الضفة الغربية

مع اقتراب حرب الإبادة الجماعية على غزة من نهاية عامها الأول، حيث أظهرت مجرياتها عجز الجيش الصهيوني على تحقيق هدف الحرب ألا وهو تدمير حماس، بل إِنَّ هذه الأخيرة، لا تزال قادرة على العمل كقوة حرب عصابات في المنطقة، كما أنَّ شعبيتها، إلى جانب جاذبية العمل المسلح بشكل عام، آخذة في الارتفاع في مختلف أنحاء الضفة الغربية، يظل تفجير الانتفاضة الثالثة في الضفة الغربية هو الخيار الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية، من أجل إنهاك الجيش الصهيوني، عبر العمليات الاستشهادية، ودرء خطر إقامة دولة المستوطنين الصهاينة. وها هو جيش الاحتلال الصهيوني يشنُّ منذ عشرة أيام، ما يصفه المحللون بأنه أكبر عملية عسكرية، منذ الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية الكبرى في الضفة الغربية سنة 2002.

لقد شجعت حرب الإبادة الجماعية على غزة الأصوات داخل الحكومة الصهيونية الفاشية بزعامة بنيامين نتنياهو اليميني المتطرف، بالعودة إلى الاحتلال العسكري لغزة وتسريع البناء الاستيطاني غير القانوني في جميع أنحاء الضفة الغربية، بما في ذلك المنطقة الشمالية.

وترى المقاومة الفلسطينية أنَّ حكومة الاحتلال الصهيوني بقيادة بنيامين نتنياهو هي حكومة مستوطنين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهي ماضية من دون أي تردُّدٍ في تنفيذ حلمهم بإنهاء الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، عبر شنِّ العدوان العسكري على شمال الضفة الغربية، الذي يندرج في إطار تنفيذ الحلم الصهيوني الذي يتبناه المستوطنون من خلال قتل وطرد كل الفلسطينيين في مدن وبلدات الضفة الغربية، لإقامة دولة المستوطنين في الضفة الغربية، وهو حلم لطالما راودهم، وفي سبيل الحصول، عليه شُرعت قوانين كثيرة، من أبرزها قانون ضم الضفة الغربية، وقانون أملاك الغائبين، وأي قطعة أرض تضع دولة الاحتلال يدها عليها فهذا يعني تلقائياً أنها باتت في يد المستوطنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *