متى تكونُ الدّولةُ فاشلةً في المَعنى المُصطلح العملي؟! مقاربةٌ في أسبابِ فشلِ بناءِ الدّولة الحديثة، سياسةً وتنميةً واقتصاداً
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
يردُ ويتردّدُ كثيراً في مختلف المنابر الفكرية والسياسية مصطلح “فشل الدولة” أو “الدولة الفاشلة”، وذلك في إشارة بليغة مختصرة إلى كثير من البلدان في عالمنا المعاصر التي سقطت وخسرت وانهزمت في داخلها السياسي وغير السياسي.. فما معنى هذا المصطلح؟!، وكيف نميّزه – في الأسس والمعايير والخصائص والمؤشرات – عن مصطلح الدولة الناجحة أو المستقرة أو المتوازنة؟!..
بطبيعة الحال نحن لسنا أول من اخترعنا هذا المصطلح المهم، فهناك كثير من المؤسسات البحثية الأكاديمية والنخب الفكرية التي نحتت هذا المصطلح منذ عدة عقود، كسمة تخص بعض الدول والمجتمعات التي تعاني من عدم استقرار داخلي يتمثل في ضعف سلطاتها الثلاث، وفقدان شرعية اتخاذ قراراتها، مع انهيار عوامل قوة اقتصاداتها وعلى رأسها عملتها الوطنية، وشيوع التوتر والعنف بين مكوناتها، مع تفشي الجريمة والجوع والفقر والبطالة، وانعدام سيطرة حكوماتها على أراضيها، بما يؤثر سلباً على ما يمكن أن تقدمه –تلك الدول بمؤسساتها المتعددة- من خدمات وتأمين حاجات أساسية لأفرادها ولو بالحدود الدنيا، وبقائها مرهونة لغيرها من الدول، بما يعني عجزها عن التفاعل الندي والمتوازن معها، وفشلها في التحكم بوجودها الخارجي كعضو فعال مع الدول الخارجية..
ولا شك بأن هذه الصفات التي يمكن اختصارها بمصطلح الفشل، تنطبق عملياً على كثر من الدول العربية وغير العربية التي شاعت فيها أجواء العنف والاحتراب الداخلي وتدخلات الدول الخارجية، بما جعلها مرتهنة لأبسط حاجاتها ومقتضيات وجود أفرادها.. تبحث عنها فلا تلقاها إلا بأغلى الأثمان الاقتصادية والسياسية، وأولها تنازل نخبها عن سيادتها الوطنية..
وفضلاً عن تلك التدخلات الخارجية التي أسهمت بقدر كبير من أسباب الفشل السياسي والاقتصادي، لا يمكننا غض النظر عما تعانيه تلك البلدان – خصوصاً في عالمنا العربي – من أمراض عضالية شبه مستديمة تسبب بارتفاع منسوب ومعدلات الفشل الدولتي..
إنَّ هذا العالم العربي ممتلئ عن آخره بالمشكلات البنيوية والأزمات العميقة المستعصية على أي حل.. وبرأيي لن يعرف طريق الهدوء والعقلانية والتطور الحقيقي، ولنْ يستوي على طريق التوازن والعطاء والإنتاج لزمن طويل قادم، ما لم تتغير الثقافة السائدة و”القيم” السياسية المهيمنة.. فقط سينتقل العرب – بين وقت وآخر – من أزمة إلى أخرى، ومن حرب إلى صراع أشد..
ولا أحد يشكُّ – بطبيعة الحال – في أهمية وضرورة أن ننهض جميعاً في هذا العالم العربي من سباتنا وتخلفنا – وبالمحصلة فشلنا الواسع والعريض – الذي امتد طويلاً، وله – بطبيعة الحال – أسبابه ودوافعه الداخلية المتعلقة – كما قلنا – ببنى الاستبداد والفساد وهيمنة ثقافة تاريخية بعيدة عن التجديد والانفتاح على الحياة والعصر، مع وجود أسبابه الخارجية المتعلقة بهيمنة الغرب، ومنعه لأي إصلاح وأي تطور وحداثة بنيوية حقيقية في بلدان العرب والمسلمين تعيدهم إلى سكة النهوض والتقدم.. حيثُ ما زالت علمانية أوروبا – على وجه العموم – مجرد قشرة تخفي وجه الغرب القبيح في مواقفه المعادية للإسلام والمسلمين، والتي تظهر عند أي مفصل في علاقاته مع الإسلام كدين عالمي..
بطبيعة الحال هذا ليس دفاعاً عن سلبيات وأمراض مختلفة سياسية وغير سياسية وتاريخية وحياتية كثيرة يعيشها ويختزنها واقع الإسلام والمسلمين، وليس تبريراً لأعمال عنف وتطرف ارتكبها بعض من لا يمثلون هذا الدين سواء داخل بلدانهم أم خارجها؛ بل هو إقرار بأن العلاقات الأفقية والعمودية المتوترة السائدة في بلداننا ما زالت محكومة بهواجس وتعقيدات تاريخية وسياسية عميقة، من الصعب حلحلتها دونما وعي معرفي عميق، مع ضرورة عدم ترك شؤون العلاقات خاضعة لأمزجة سياسية مصلحية آنية وشخصية، تحتاج هي بدورها لعلاجات نفسية وسلوكية.. وهذا كله يؤخر بدء المعالجة الحقيقية، ويربك أدواته ويهدد عناصر نجاحه الذاتية الداخلية، المقترض في حال استوائها على الطريق الصحيح أن تفضي لإنضاج فكرة الدولة الحديثة.
.. ولا شك بأنه حتى تُبنى دولة حديثة في مجتمعاتنا العربية، تتخلص من فشلها ويكون لها وزنها وحضورها، ولها ثقلها وتأثيرها وتفاعلها الندي المتوازن مع غيرها من الدول، تقوم على العدل والقانون والمؤسسات، لابد من فهم ووعي طبيعة المناخات التي تشتغل فيها، والتربة الملائمة لها، لا أن تفرض أجنداتها قسراً من فوق، دون لحظ وضعها وبنيتها.. أي دون تحليل مجمل البنى التحتية لها، وهي للأسف ما زالت بنى ضعيفة، ولم يسمح لها بالتطور الطبيعي.. بحيث نمت على حواشيها ولاحقاً ترعرعت في عمقها انتماءاتٌ ما قبل وطنية..
لقد فشل العرب في بناء دول مواطنية حقيقية.. ليرسّخوا ويكرّسوا فقط دول القهر والتّغلّب التاريخية.. لم ينجحوا في تقليد الغرب إلا ظاهرياً من خلال تعميق الحداثة القشرية الكسيحة، حداثة السطوح لا حداثة الأعماق.. فأين العقل والعلم والمسؤولية الأخلاقية تجاه الذات والفرد والمجتمعات، تجاه الأجيال في الحاضر والمستقبل؟!..
أين التنمية الاقتصادية المتوازنة والمستديمة؟ وأين هو التحول السياسي باتجاه تحقيق مبادئ المواطنة والتعددية والاعتراف بالاختلاف السياسي وغير السياسي؟!.. أين هي دول العدل والحقوق والكرامة الإنسانية التي بقيت مجرد شعارات فضفاضة؟!.. أين هو الأمن الغذائي وإعادة الاعتبار لكثير من الأراضي الزراعية العربية التي تكفي مساحات قليلة منها لتعزيز وتدعيم هذا الأمن الغذائي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لبلداننا ومجتمعاتنا التي ما زالت تستورد للأسف كثيراً من قمحها وخضارها وزيتها من الدول الأجنبية؟!.. أليس هذا أكبر مشهد من مشاهد الذل والعار والفشل الاقتصادي العربي والمتمحور بالذات في الفشل التنموي، تنمية الفرد والأرض والعمران المادي؟!..
والتنميةُ فعلٌ حضاري شامل ومتكامل، هدفه الارتقاء بالمجتمع إلى مستويات أعلى من التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وغيرها من جوانب النشاط البشري، بما يصب في النهاية في تحقق رفاهية الإنسان وسعادته، وعيشه الإنساني الهانئ الرغيد.. وهذا لا ينجز إلا من خلال تطبيق المفهوم الشامل والمتوازن للتنمية.. فهو الذي يضع الدولة على الطريق الصحيح، بما يؤدي إلى انتفاع الناس وزيادة خيراتها..
إننا نعتقد أنَّ الطريقَ السليم والناجح لإنضاج ثمار التنمية لا بد أن يرتكز على مجموعة من القواعد السياسية والمجتمعية الداخلية الحاضنة والمحفّزة، ومنها تحقّق المواطنة الفاعلة المنتجة، والتي تعني حصراً انبثاق علاقة الشراكة والمسؤولية المتبادلة بين كل الفاعلين في العملية التنموية، وكذلك تحقق التفوق التشغيلي الذي يعد ضمانة للنمو الاقتصادي، والذي يتطلب الاستثمار في الرأسمال البشري وتعزيز إمكاناته، بالإضافة إلى التحسين المستمر في عمليتي القيادة والإدارة.. وهذا سيحقق بالضرورة مفهوم الأمن الغذائي والذي يعني هو توفر الإمكانية الذاتية لدى الناس للحصول على الغذاء الكافي والنوعي، بشكل آمن وبلا أية عوائق أو موانع أو قيود مهما كان نوعها أو أسبابها، وذلك من أجل أن يتمكن هؤلاء الناس من تأمين ما يحتاجونه من عناصر مغذية لكي يستمروا بممارسة حياتهم بشكل صحي لائق.
ولا شكَّ بأن من أهم شروط ما تقدم (تحقق التنمية والأمن الغذائي) وجود الدولة الآمنة المُستقرة، غير الفاشلة، القادرة على توفير المواد، والاستثمار الفاعل في القدرات والموارد، وتحقيق حالة الانتفاع الفاعل.
وقد أورد بعض خبراء السياسة والمجتمع والاقتصاد، بعض شروط إصلاح الدول، وتحويلها من دول فاشلة إلى دول ناجحة منتجة حاضرة في هصرها بالعلم والعمل والإنتاج، من أهمها:
1- أن تعيدَ النظم الحاكمة ترتيب علاقتها مع مواطنيها، وتؤسسها على لحقوق والحريات، وتغير مفهوم حوكمة الدولة، بحيث يكون المواطن محور أداء الدولة، وأن يكون رضاه عن أداء الدولة معياراً لنجاحها وفشلها.
2- تأسيس مفهوم الدولة على أساس المواطنة والحكم الصالح، وإشراك المواطن في التفكير بعد تمكينه من امتلاك أسباب الإبداع والابتكار.
3- اعتماد الإدارة الذكية؛ بحيث يكون موظف الدولة مواكباً للتطورات التي تطرأ في مجاله عالمياً حتى يستطيع أن يتفاعل معها إيجابياً، وتنعكس إبداعاً في مجاله.
4- تعيينات العاملين بالاستناد لعوامل وعناصر الكفاءة والنزاهة والعلم والخبرة والمؤهلات الذاتية.
5- اتخاذ القرار في الدولة بالاستناد على أسس علمية عقلانية رشيدة بعيدة عن المزاج والهوى الشخصي للحاكمين، وضرورة الأخذ برأي أهل الخبرة والاختصاص في كافة المجالات الدولتية المؤسسية.
6- ضمان حرية الرأي الآخر، والاعتراف بوجوده، وضرورته؛ لأن هذا ما يعزّزُ القرار، ويوضح أية سلبيات قد ينطوي عليها بما يمكّن السلطة المعنية من اتخاذ الترتيبات اللازمة لتلافي السلبيات المحتملة.. فالحرية والمشورة والمشاركة ضرورة وحيوية للبناء السياسي الحديث.
إذاً ومن خلال كلّ ما تقدّم يتضحُ لنا أنَّ شرطَ النّجاح والتّحول من مستوى الدولة الفاشلة إلى مستوى الدولة الفاعلة الناجحة، يبدأ أولاً من ضرورة تغيير بنى مؤسسات الدولة ذاتها، وجَعْلها قائمة – في نظرتها وفعلها وغايتها – على استنهاض الإنسان نفسه، والتعاطي معه كمواطنٍ مشارك وصاحب قرار، وتمكينه من امتلاك أسباب الإبداع والابتكار.. فهذه كلها شروط وعوامل إنجاح الدولة، وبدء مسيرة إخراجها من مستنقع الفشل وركام التخلف وظلمة الجهل وذلّ الإمعية الحضارية، إلى فضاءات أنوار العلم والإنتاج والتقدم المجتمعي، بحيث يمكنُ أنْ تتجاوزَ من خلالها همومَ الأساسيات للّحاق بركب الأمم النّاهضة والمنتجة.