هامش ثقافي

تقويمٌ وتقييمٌ ومواجهةٌ ثم النقد

بقلم غسان عبد الله

كاتبٌ.. يكتبُ ويؤلِّف ويدبّجُ المقالاتِ أو الأشعارَ أو الروايات، ويطرح الآراء والأفكار، فلا يجد مَن ينتقدُ كتاباته، فإذا لم ينزلق إلى الإسفاف فقد يجنحُ به الغرور، فلا يرى إلّا الحقّ والصواب فيما يكتب.

فنّان يرسمُ لوحةً أو لوحاتٍ ويضعها في معرض، وينتهي المعرضُ فلا تصله أيّة ملاحظات نقديّة لا مباشرة من زوّار المعرض، ولا غير مباشرة مدوّنةً في سجِلّ الزيارات أو مطروحةً من قبل النقّاد الصحفيين أو المعنيين بالشؤون الفنّية، كيف سيكون معرضُهُ القادم؟!.

مسؤول حكومي أو إداري يتعامل بفظاظةٍ وبعنجهيةٍ وتعالٍ مع الناس والمرؤوسين، فإذا لم يجد مَن يوقفه عند حدّه، أو ينتقد تصرّفاته، فإنّه قد يطغي ويتفرعن فلا يسلم من سلطته وسطوته وسلاطته أحد.

وهكذا.. نتنقّل بين سائر المِهن والحِرَف والمسؤولياِت والأعمالِ والمواقع، فلو لم يكن هناک نقدُ (لَرَكَدَ) العطاءُ، وتبلّدتِ الأشياءُ، وهيمنتِ الرتابةُ، وبدلاً من أن نتقدّم إلى الأمام نرجع إلى الخلف حتى لو قطعنا أشواطاً إضافيّة، على عكس ما لو كانت حركةُ النقدِ ناشطةً ومتفاعلةً، ومتكاملةً، عندها يمكن أن نطالعَ صورةً مختلفة، هذه بعضُ ملامحها المتصوَّرة:

1- ستتقلّص الأخطاء في أضيق دائرة، وتنحسر النواقص والثغرات إلى أدنى حدّ ممكن.

2- ستشيعُ حالةٌ من التواضعِ والإقرارٍ بالذّنب، والاعترافٍ بالخطأ من خلالٍ معرفةِ الانسان لقدرِ نفسه، وتلمُّسِهِ أخطاءَه، ونبذِهِ حالةَ العُجُب والتّعالي من أنّه فوق أن يُخطئ، وفوق أن يُنتَقد.

3- سيتمُّ تفادي الخطأ سريعاً، أو في أسرع وقت ممكن، أي من قبل أن يستشري فيغدو كما لو كان حقّاً أو صواباً، ومن قبل أن يزداد الطين بلّة فيُصبحُ الخطأُ خطيئةً.

4- سيكون هناك المزيدُ من التجدُّدِ والابداعِ والدّقةِ والتحرّي عن الأجودِ والأفضلِ والأصلح، وعدم إرخاء ادّخار الوسع لاجتنابِ الضّعفِ والرداءة والخطأ.

5- ستتجلّى المحاسن أيضاً إلى جانب المساوئ، فالضدُّ يُظهرُ حسنَه الضدُّ، والنقدُ عمليةٌ مزدوجةٌ أو مركّبةٌ، فإذا حدّثنا أحدهم عن عيبٍ أو أكثر من عيب أو خطأٍ وسكتَ عن المحاسن، فهذا يعني أنّ ما دونَ الأخطاء والعيوب والنقائص محاسن وإيجابيات.

6- ستُرسى قواعدٌ وآدابٌ وأصولٌ للنقدِ الهادفِ البنّاء، وسيُكتشفُ منهجٌ لكشف الأخطاء وتصحيحها، وسيُطردُ أو يُحشرُ في زوايا ضيِّقة كلّ نقدٍ هدّام، ذلك أنّ شيوعَ اللون الثاني من النقد وتفشّيه إنّما يعودُ في أحد أسبابه إلى غياب النقد السليم، فيكون ما دونه شتائم وتجريحات وإساءات وتقريعات وبذاءات ربّما.

7- ستُحدُّ أو تزولُ حالاتُ الانهيارِ المفاجئِ السّريع، طالما أنّ المنتَقدينَ يبادرونَ إلى معالجةِ أخطائهم أوّلاً بأوّل، وطالما أنّ الناقدين لا يشنّونَ حرباً أو يفجّرونَ ثورةً ضدّ مَن تعامى عنها، ستكون هناك ـ بحسب الوعي الثقافي النقدي السائد ـ مصالحةٌ نقديّة، أو تسالمٌ نقديٌّ، فلا المنتَقدُ يرى في النقدِ محاولةً للإطاحة به، ولا الناقدُ يجدُ نفسَهُ في موقفِ الإجهاز والافتراسِ والانقضاض على الفريسة.

8- ستعودُ العافيةُ إلى فريضةٍ مريضةٍ تشكو الضعفَ والهُزال، وهي فريضة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التي تعتمدُ النَّقدَ البنَّاء سواءٌ في الحدِّ من المنكرِ وتقليمِ أظافرهِ والسعي لإزالتهِ وكبحِ جماحه، أو في الإرشادِ إلى المعروفِ وتوسيعِ رقعتهِ ونشرِ لوائه.

هل عرفتُم الآن لماذا (الرقابة) ولماذا (الحُسبة) ولماذا (التدقيق) و (التحقيق) و (التحرّي) في مواقع العمل على اختلاف طبيعتها ومضامينها؟!.

إنّه من أجل أن لا يُسرف العاملُ في الخطأ أو يتمادى فيه فلا يجد مَن يحاسبُهُ، أو يوقِفُهُ عند حدِّه، أو يتردّى الانتاج فلا يُعرفُ السبب، أو تهبط سمعةُ الشركةِ وأرباحُها من دون أن تكون عمليةُ (تقويم) و (تقييم) أو (مواجهة) و (نقد).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *