قبيل الرحيل: احملوا نعشي.. إنني أدركتُ هُجرانَ الحياة
بقلم غسان عبد الله
هي رحلةٌ شاءت تسائلُني عن الأمسِ الذي حَضَنَتْهُ أفئدةُ المقابر، فاختصرتُ سؤالها إذ قلتُ: ها أنا عائدٌ في هودجِ الأيام، أسعى أن أكون منارةً، بيني وبين مراكب عبرتْ بيَ الأبعادَ واتجهتْ إلى ميناءِ لحظةِ أن تكون مدىً مضى، أو أن تكونَ رؤىً تنازِعُ عمرَها عينُ اليقينِ إذا انتهى دربُ المطافِ بها إلى حق اليقينْ.
وسمعتُ صوتَ الريحِ تسألُني عن الذكرى التي ما كنتُ أحسبُ أنها، دربُ الغبارِ إلى الغبار، وقد تعثَّرَ نوؤها برذاذِ ذرّاتٍ أرادتْ أن تفيء إلى الطحالِبِ، فانتهتْ للأخطبوطِ المنبتِّ في قاع المحيط، يمدُّ أذرعَهُ إلى الأمواج، والأمواجُ تبحث عن خلاصٍ من أصابِعِه، فتعلنُ ثورةَ الإذعانِ.. لا للماءِ، لكن، للإرادةِ إذ تحاول أن تكون رسالةً، تفضي لأعماقِ البحارِ بما تشاءُ، وما تشاءُ سوى مزاولةِ الحياة، لمن تواعِدُهَ الحياةُ على هديل الأمنياتْ.
وكأّن بي، وأنا إذ أطأُ الثرى، حذِراً، يشدُّ خطايَ من حذَرٍ إذا ما ترسمُ الأقدامُ صورَتَهُ، أرى فيها المصائرَ وهي ترفلُ عبر أروقةِ الترابِ، فأقتفي أثراً سواهُ، ودونما أملٍ أرى بعضَ المواكبِ، تعبرُ الأرواحُ فيها، تستحثُّ ضفائرَ اللحظاتِ أن تمضيَ إلى عِهْنِ التراب، فترتدي عبءَ الثواني إذ تؤرِّقُهُ جنازةُ خائفٍ من عمرِهِ، أن لا يكونَ إلى الزوالِ، وتحتفي برفاتِهِ بعدَ الزمانِ، وقد ذوتْ فيه البقيةُ من إهاب حياتهِ، وثوى بغربةِ لحظةٍ، خمَدَتْ، فعانَقَها الظلامُ على تعلاّتِ الثرى، فتنفستْ ريحُ القبورِ، فأيقنتُ، أن المسيرَ إلى الترابِ دروبُه مَسَدُ على شغف الترابْ.
وتحلّقتْ حول المصير سرائرٌ: هذي سريرةٌ تخافُ نهايةً، كانت تظن بأنها – على الرغم من الوصول – قصّيةً، حتى إذا فاجأ المماتُ ظنونها، ارتهنتْ إلى شرخِ التراب، وآمنتْ أن المصيرَ هو المصيرُ، وأنّ غربتَها إلى حضنِ الرّغامِ.. وذي تظنُّ، بأن بعد المبتدا، سراً يقاومُ عمرها، أن لا يكون المنتهى، إلا بأدغالِ التمني، إذ تُمَنِّيها المشاعرُ، أنها، على الرغمِ من برد التراب، فإنها، حلمٌ يتوقُ إلى المفاتن، ثم تغتالُ المفاوزُ حُلمَها، فإذا الثرى، كل الذي يؤويه في دربِ الرحيلِ إلى الفناءِ.. وذي.. وهذي.. والرحيلُ إلى الرحيلِ مصيرُنا، شئنا لقاهُ، أو انتحينا عنهُ.. لكنْ دوننا، منه الحقيقة، فلنقل لرفاتنا: عدنا إليكَ.. وكيف لم تعدِ البقيةُ من سرائرنا وهل بعدَ الإيابِ نهاية.. أم أنها، وقيامةُ الأجداثِ تأخذُنا إلى جهةِ البداية والنهايةِ، ثم نسكن جنَّةَ الرضوانِ، أو حَمَأ الدخانِ، وكلُّنا، فوقَ الصراطِ، نمرُّ، يحدونا التوسّلُ أن نسيرَ مع الرؤى، وكتابُنا بيميننا، نبغي الجِنَانَ، ودوننا، من كل فاكهةٍ جنىً، والأنهرُ الظمأى إلينا، تستظِلُّ، ونستظلُّ بظلِّها.. سمّارنا الحُورُ الحِسانُ، وماؤنا من كوثرٍ، وبها نسبّح باسم رب العالمينُ.
وسمعتُ صلصالَ المنى، وزفيرَ أفئدةِ الرّكابِ، تضجُّ في صَخَبِ الوجودِ، ودونَها أشراطُ أوردةِ الثواني، وهْيَ تلهثُ إثرَ أرصفةِ الزوال، تحدِّثُ الرِّمَمَ الدوارسَ عن رحيلِ العمرِ في نَفَقِ السَّفار، إلى البقايا من حنايا الوهم، وهو يخلِّدُ الأيامَ، في لحظاتِ أرقامٍ، تحرِّكُ روعَ أعمدةِ الظنونِ، كأنها، والصورُ يُنفَخ مُؤْذِناً، أن يستفيقَ الخلقُ من مهدِ التراب، ويستعيد حياتَهُ، بين الصراطِ، وبين قسطاسِ الحساب، لعلَّهُ إذ تُبعثُ النَّفَحَاتُ، يدري، أن أوّلَهُ الحياةُ، وأن آخرَهُ المماتُ، وبين رقدتِهِ وبعثِهِ، قصةُ الموتِ التي، إذ يحسبُ الأمواتُ أنَّ الموتَ ذاكرةُ النهايةِ، يدركونَ بأنه، آنُ انتظارٍ بين رحلتهم وعودتهم، وما هذي المحطةُ، غيرُ ساعاتٍ وينتفضُ الترابُ عن الترابِ، وتلفُظُ الأجداثُ موتاها، كأنَّ الأمسَ كان هنيهةً، وتبعثرتْ من بعدها الأحقابُ عن حُقُبِ الزمان، وأيقظتْ من كان يحسبُ نومَه الدهورَ، ها هو عائدٌ، من غفوةِ الدهر الدهيرْ.
وإلى المصير نعودُ من حيث ابتدأنا، لا نرى في دورةِ الحَدَثانِ إلا ما نقدّم، ثم نرقدُ رقدةً، من بعدِها قد لا نكون سوى صريخٍ رجْعُهُ ما كان منا، إذ حسِبنا أننا، في ذا الوجودِ حكايةٌ ما تنتهي، وإذا انتهت، فلأنها ابتدأتْ كما شاءَ الزمانُ، وكلُّنا فيها، وعبر وجودها، أضغاثُ أحلامٍ تكونُ كما تشاءُ، وإن نشاءُ لها كياناً، أن تكونَ كما نريدْ.. وإذا غدت – من بعد ما حُمِلَتْ على الألواحِ – نبضَ هنيهةٍ، وتسلّلت من قبرِها، تسعى إلى يومِ النشورِ، فإنها، ترجو لقاءَ مواكبِ الأنوارِ، تأخذُنا إلى حيث البقاءِ بظلِّ سدرةِ من له وبِهِ الحياةُ، ودونَه، تُطوى الصحائفُ ثم تُنشَرُ كالكتاب، وما لنا فيها سوى عملٍ مثوبتُهُ: النعيمُ أو الجحيمُ، مخلّدون نطوفُ كالوِلْدانِ، إذ نُسقى هناك الخمرَ من كأسٍ مَعينْ.
فتمنَّوْا الموتَ الذي منه الفرار فإنه سعيٌ إلى دارِ البقاء.. لعلَّنا نحيا هناك كما يشاءُ لنا الخلودُ، فتزدهي أحلامُنا، ونعودُ من بعد انبعاثٍ صبوةً، تحيا الحياةَ، وسعيُها في الخلد لا ماءٌ وطينٌ، إنما، ما تشتهي الأحلامُ أن ترقى بها صُعُداً، وما يسمو به الصلصالُ عن كلِّ الذي يرجوه، أو ترجوه أفئدةُ مداها، كان مذ أن كان، من ماء.. وطينْ.
ويقول من ضلَّ الطريقَ، وزاغ بين كيانِهِ وجَنانِهِ: يا ليتني قدمت شيئاً للحياة، يكون في هذا المقام شفاعةً، لكنَّ رحمةَ شافعي، وِسْعُ المدى، فأنا – وإن كنت المقصِّر – إنني ضَعِيفٌ، وأوهى من بيوت العنكبوتِ، ألستُ من ماء وطين؟.
فتعّجلوا بي لحظةً، أو فاحملوا نعشي إليها، إنني أدركت هجران الحياةِ، وها أرى في الأفقِ راياتِ الفراقِ مرفرفاتٍ، ترقُبُ الآتينَ من سبل الزحام، إلى رحاب العارفين.
